بيان القرآن

د. محمد حسان الطيان

د. محمد حسان الطيان

رئيس مقررات اللغة العربية بالجامعة العربية المفتوحة بالكويت

عضو مراسل بمجمع اللغة العربية بدمشق

[email protected]

[email protected]

نزل القرآن على أمة ما كانت تقدر شيئا تقديرها للكلمة، ولا كانت تحسن شيئا إحسانها للبيان, حتى قيل في حقها: إنها أمة سجدت للبيان قبل سجودها للأوثان, وحقا ما قيل وعدلا، فقد سمعنا بمن استخفَّ منهم بالأوثان, لكنا لم نسمع أبدا بأحد منهم استخفَّ بالبيان، ألم يأتك نبأ بني حنيفة أولئك الذين اتخذوا رباً من تمر فلما جاعوا أكلوه فقال الشاعر في حقهم :

أكلت حنيفة ربها      زمن التقَحُّمِ والمجاعَهْ

على حين أولت العرب شعر شعرائها كل العناية والرعاية فأقامت له أسواقا ومهرجانات, واحتفت بالنابغين والنابهين فيه, واصطفت أجمله وأروعه ليكتب بماء الذهب ويعلق في أستار الكعبة, ويطلق عليه من الأسماء والألقاب ما يليق بمنزلته وشرف مكانته كالمعلقات والمسمَّطات والمذهبات والمشهورات.

ثم ماذا كان؟

لقد نزل القرآن, نزل على أمة البيان, فلامس أسماعها ببيان لا أحلى ولا أعذب ولا أجمل ولا أروع! بيان يمتزج بأجزاء النفس لطافةً....وبالهواء رقةً...وبالماء عذوبةً..وبالنغم العلوي الأصيل إيقاعاً وجرساً. ما إن سمعوه حتى خالوه السحر يدِبُّ في أجسادهم.

بيان سجدت له أسماعهم وأفئدتهم قبل جباههم ورؤوسهم, بيان حلَّق بهم في دنيا لا عهد لهم بها, بل في سماء لا تدانيها سماء, حتى قال قائلهم لما سمع أثارةً منه:

"إن له لحلاوة, وإن عليه لطلاوة, وإن أعلاه لمثمر, وإن أسفله لمغدق, وإنه ليعلو وما يعلى عليه, وما هو بقول بشر"

وهو الوليد بن المغيرة لما سمع من رسولنا الكريم-صلى الله عليه وسلم- قوله جل وعلا:

{إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون}

إنه البيان الذي ما لبثت الجن حين سمعته أن قالت:

{إنا سمعنا قرآنا عجبا. يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا}

بل هو البيان الذي أفحم أهل البيان وتحداهم بقوله:

{قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا }

فأذعنوا و انقادوا, وكان قصارى أمر الجاحدين منهم أن قالوا:

{إنْ هذا إلا سحر يؤثر}

وذادو قومهم وغلمانهم عن سماعه خشية أن يتأثروا به:

{وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغَوا فيه لعلكم تغلبون}

أما المؤمنون فتغنَّوا به, ورشفوا من رحيقه, و تضلعوا من منهله, وتعلموا من مأدبته "إن هذا القرآن مأدبة الله فتعلموا من مأدبته"

وأما أهل البيان واللسَن والفصاحة والشعر فقد هجر بعضهم لأجله شعره واستعاض عنه بكلام ربه, هذا لبيد بن عامر, وهو من فحول الشعراء, ومن أصحاب المعلقات, قيل إنه لم يقل في الإسلام إلا هذا البيت:

فَالحمدُ لِلّهِ إِذ لَم يأتِني أَجَلي          حَتّى لَبِستُ مِنَ الإِسلامِ سِربالا

 وفي هذا يقول شيخنا الشيخ صالح الفرفور:

 أتيتَهُم  بكتاب  الله  معجـزة          أخجَلتَ قُسّاً  و سحباناً  وحسانا

 ألقى لبيدُ  عصاه حين أعجزه          قولٌ بلـيـغ بـآيـات لعُمرانا

 ولم تَجُد بَعدُ في شعر قريحَتُهُ          شتَّانَ  شـعـر وآيُ الله شـتّانا

 ذاكَ البيانُ الذي تبقى عجائبه          رغم الأنوفِ  وإن  شانوه  بُهتانا