ديوان (شكري مصطفى)

روعة الشعر لا كتابة التاريخ!!

محمود صلاح سلام

عاينتُ كثيراً من الأفكار التي فيها تمرُّد على ما يشيع من أفكار، والتقيت بكثرة من المتمردين، وكلما عرفت متمردا بحثت في كلامه عن الشعر وكثيرا ما كانت تصدق نظرتي وتتحقق نظريتي:الارتباط بين التمرد والشعر وانطباع ذلك في الشخص والشخصية وتجليه في التصرف والعمل ،وأغلب الذين حازوا شهرة في الفكر ـ أيا ما كان الاتجاه ـ فإن شيطان الشعر يسكن جوانحهم ،فمنهم من يغلبه شيطانه فينطق ومنهم من يغلب شيطانه ويتجه إلى اتجاه آخر .

الشاعر شكري مصطفى والذي اشتهر بين الناس بأنه القيادي في منظمة ذات فكر تكفيري والذي أسهب محقق ديوانه في التنظير لفكرة أن شعر شكري مصطفى وثيقة تاريخية تقودنا إلى الإيمان بأفكار الرجل أو الكفر بها أو أنها تدافع عن هذا الاتجاه أو تدمغه ،وليس كذلك يورد الشعر من وجهة نظري ،فالشعر ثمرة لموهبة لا يؤتاها كل أحد والاهتمام عند قراءة الشعر لا ينصرف إلا للفن وأدواته ولا يهمني حينها الخلفية التاريخية أو المؤثرات الحياتية إلا بقدر ما تظهر في القصيدة لا بقدر ما يقحمها الناقد في القراءة ،فشعر الشاعر يدل على قدرته في الفن وامتلاكه للأداة ومهارته في استخدامها وتطويعها ولا يتأتى له أن يكون وثيقة تاريخية إلا على هامش هذه الأشياء ،لذا فالاهتمام لابد وأن ينصب على شعرية الشاعر قبل كل شئ ،وشعر شكري مصطفى يكشف عن شاعر مطبوع يمتلك الدهشة ويغذي شعره بالتأمل والفكر الذي يظهر في صورة الحكمة العالية ،قارئ للتراث ،معجمه الشعري ثري وتصويره مبدع ،شاعر يجدر الاهتمام بشعره أولا لأن أول قصائده خطها وهو ابن ست عشرة سنة ،وهي سن مبكرة تتكون فيها الموهبة ولا يبز في هذه السن المبكرة سوى المجيدين ،ولا يعني ذلك أن القصيدة الموجودة في الديوان هي في صورتها النهائية نتاج هذه الفترة فمن المؤكد ـ بتتبع أسلوب الشاعر ـ أن الشاعر قد عاود النظر فيها لما كبر عمره ومن المؤكد أن هذا ليس كل شعره ،يجوز أنه تخلص مما لم يره في المستوى المطلوب و يجوز أنه لم يكتب من الأصل بل اكتفى بالقول، ومبعث هذا التأكيد هو شعره نفسه الذي يعلن عن غزارة وثراء وتدفق، تأمل معي هذا التأمل والحيرة الفلسفية من قصيدته التي تغنى بها وهو ابن السادسة عشرة:

أنا في الماضين ذكرى لا تهون

أنا في الحاضر وهم وظنون

وادّكارات وفكر وشجون

وحياة كلها رهن المنون

أنا ما عدت أنا ... من ذا أكون؟

فالبحث عن الذات والتفتيش عن الطريق شئ طبعي في هذه السن لكن التعبير عن هذه الفلسفة هو المختلف لدى الشاعر  وقد استغربت كيف صنع المحقق (وهي صفة كبيرة لم يضطلع بعبئها) شيئا عجيبا في هذه القصيدة عندما بدل بالصواب الخطأ، ولم أجد لهذا التبديل مبررا من لغة أو بلاغة، يقول الشاعر:

هيمن الليل على قلب ضجور

ليس في دنياه أفراح ونور

بل دموع وضياع وقبور

من أساه ضحكت كل الثغور

هل يُهم الدهرَ (مجنونا) يثور

قال المحقق إن الناسخ أخطأ ووضع (مجنون) وصححها كما في البيت ولا أدري كيف سوغ هذا التصحيح ،ليس هذا هو الاستغراب الوحيد بل كانت اختياراته بين النسخ تحمل غرابة شديدة ذلك أنه لم يذكر أي هذه النسخ أوثق من جهة التأكد والتثبت ،مما يترتب عليه أن تكون الاختيارات مبنية على حس وتذوق، انظر معي إلى قول الشاعر من قصيدة رثاء:

فهناك عين لن تراه وأقسمت ألاَّ تزور

إذ كيف تصبر أن ترى مثواك في جرف الصخور

يقول المحقق في الهامش عند (جرف): في نسخة جوف، فلماذا لم تجعله الأصل فيستقيم المعنى وتحسن الصورة وتعتدل، وفي موضع آخر من نفس القصيدة يقول شكري:

ذقنا سويا من كئوس الحب من شهد الحياة

يبقى العذاب لي الذي سينالني وحدي شقاه

فلقد عبرتِ البحر أنتِ وأحدقت بك ضفتاه

أما أنا فأمامي الغيب الذي تخفي الحياة

يقول المحقق عند (الحياة) في البيت الأخير: في نسخة المياه ،تأمل معي المعنى:

أما أنا فأمامي الغيب الذي تخفي المياه

لو كان أثبت هذه مكان تلك تأمل كيف تخلصنا من عيب يلحق القافية إن تكررت نفس الكلمة، لذا أظنك عزيزي القارئ ـ علمت كيف لم يضطلع بالتحقيق كما ينبغي ،فالتحقيق سبر لأغوار النص وبحث في الأسلوب والتوصل إلى روح الكاتب الأصلي فيصبح المحقق كأنه هو .ولماذا لم يخبرنا المحقق بحقيقة مكان الميلاد: أهو أبو تيج بأسيوط أم الحواتكة من نفس المحافظة وبينهما فرق كبير ذكر هو أبا تيج وذكر معجم البابطين الحواتكة ،ثم هؤلاء الذين تحدثوا عن شكري مصطفى كشاعر قبل صدور هذا الديوان على أي شئ اعتمدوا، أم هناك طبعات أخرى؟ وأين المحقق من ذكر القصائد التي نشرت في صحف أو مجلات مثل قصيدة (ما قبل الطوفان) التي نشرت في مجلة النهر المغربية عدد رقم 56 عام 1977م ويخبرنا هل ثم فرق بينها وبين المخطوط أم لا ؟لماذا لم يكتب جمع وتقديم بدل تحقيق التي أثقلت كاهله فناء بالمهمة ولم يخرجها على وجهها المطلوب؟

دعنا لا ننشغل عن الشعر والشاعر الذي أشكر للدكتور ياسر جمعه، وأثني على مدبولي الصغير تقديمه مطبوعا ،وكما قدمت فشكري مصطفى متصل بالتراث مغرم بالمعارضة واتضح في أكثر من موضع شغفه بذلك واضعا نفسه في سياق المقارنة مع الشاعر الذي يعارض قصيدته ،يقول في قصيدته التي يعارض فيها الحصري القيرواني في قصيدته ذائعة الصيت التي تبدأ ب:

يا ليل الصب متى غده         أقيام الساعة موعده

فيجاريها في قصيدة جميلة يبدؤها قائلا:

ليل كالفحمة أسوده        هل غير الصبح يبدده؟

صبح المشتاق وموعده         بعد المحبوب يبعَّده

إن جاء النجم يهدهدني     فالدمع بعيني يفقده

إن جاء البدر ليؤنسني       يحتال الليل فيرقده

فأنا السهران بمفرده       يقظان الحس مسهده

ينسج شكري على هذا المنوال من الرقة والغزل الرائق نذكر بها معارضة شوقي وغيره من الكبار، ولا يقف عند حدود الزمن فتحت عنوان "رسالة في ليلة النصر" نراه ينشد مجاريا هاشم الرفاعي في قصيدته ذائعة الصيت" رسالة في ليلة التنفيذ"، يقول:

أبتاه لاح الشط للربان             ودنا الأمان لقلبه الحيران

وتلألأت بين النجوم رسالة        للفجر من نور ومن تحنان

وبدت تباشير الصباح ترف لي     بشرى لحوق الركب بالركبان

يا تائهاً بين البلاد مغربا           أبشر فساعات اللقاء دوان

دار السلام كما علمت ازينت      من يومها للشائق الولهان

لم يبق فيه الشوق إلا ومضة       عذرية جادت بها العينان

وبقية من أدمع لم تمتهن            أبدا ولم يشرق بها خدان

في مائة بيت وبيت، تمتد القصيدة معبرة عن النفس الطويل للشاعر وهي قدرة لا تتأتى لهؤلاء الذين يكتبون ما لا يفهمون، لم تترهل  القصيدة ولم يفقد زمام القصيد.

رحم الله الشاعر شكري مصطفى، ذلك الشاعر الذي توفي (معدوما) وهو في العقد الثالث مدللاً أن الشاعر الجيد ليس بكثرة ضجيجه وصخبه وإنما بمقدار جمال شعره وحسن فنه، وإن يكن قصيدة واحدة!