سجن السجن لعصمت منصور

لغة الرمزية والتأمل الفلسفي

ابراهيم جوهر – القدس

يتأمل الأسير عصمت منصور في اللغة ويرمّز ويبوح وينتقد ويتحدى ، وينقل تجربة وتوصيفا للانتصار على أداة القتل المسماة (السجن) .

اللغة عند الكاتب في كتابه ذي الأسلوب الروائي الذي أخذ من السيرة الذاتية أسلوبها ، ومن الشعر الحديث رموزه وإيحاءاته ، ومن الرمزية معطيات حواسها المتبادلة  ، تستحق الوقوف عندها .

يلفت الانتباه في (سجن السجن ) كون الكاتب اعتمد الصمت لغة ، فالصمت عنده حيث هو ، في زنزانة العزل الانفرادي يصير لغة ( ص 43 و 44 و45  )  . وكذا الأمر مع الدموع التي تحكي وتعبر ؛ الصمت والدموع لغة ....كما أن الطرق على الأبواب لغة " كانت اللغة السائدة في قسم الزنازين هي لغة الطرق على الجدران ..." ص36 . و الصمت يتشيّأ ؛ " إنه صمت الزنزانة المخاتل والمخادع ...تثاقله يجعله ملموسا وتحسه وهو يزحف فوق جسدك كدبيب النمل ، يتسلق روحك ..." ص5 . " ...كان صمتها جميلا : ص130 .

والابتسامة لغة ؛ " ...كانت ابتسامتي أبشع من أي شتيمة وأبلغ من كل خطاب ..." ص164 .

وعنده يصير للذل طعم موصوف ؛ " كان طعم الذل دبقا ولزجا وكريها " ص 22 . والزمن يحسّ ؛ " زمن الزنزانة متداخل ولزج " ص23 .

في الحبس الانفرادي تتبادل الحواس ، كأن ترى بالأذن ، أو تسمع بالعين ..." كان القسم يتحول الى ما يشبه عالما كفيفا ، أو حشدا يتحرك في ظلمة مطبقة وهذه موهبة لا يملكها سوى الأسرى . إنهم هنا بأقل الكلمات  ، ومن خلال اللهجة ، وطريقة الحديث ، ومستوى الصوت ، وأشياء أخرى لا أعرفها  ولا يمكن تبين حقيقتها ، يستطيعون إصدار أحكام  نهائية على الشخص الذي يقابلهم ..." ص 37 .

تمحورت الفكرة الكلية العامة عند الكاتب في رفض المكان ، والتغلب عليه . من هنا جاء العنوان ( سجن السجن ) ، فالسجن الانفرادي الذي أعدّ ليقهر ويعاقب بالإمكان التغلب عليه . والتأمل الفلسفي للأشياء / ومراجعة الماضي ، واستحضار الأهل ، والتجربة كفيل بالتغلب على الفراغ القاتل القائم أمام الأسير ، ومعين له على تمضية الوقت الثقيل .

إنه يعود الى الذات بهدف فهمها ؛ يتأملها ، ويتساءل ، ويراجع ، وينتقد التجربة السابقة بجرأة مطلوبة . من هنا كان انتقاده لتجربة قتل المتهمين بالتعاون مع الاحتلال ، والتحقيق معهم ومع أبنائهم أو بناتهم . (ص152) : " ...ومي استسلمت لنا وهي تدرك أن لا خيار آخر لها ، لم يكن هدوؤها شجاعة أو ثقة بنا ، بل استسلام لطبيعتها كأنثى وماضي والدها وهمالتنا " إنه يسحب تأمله التحليلي الى تحليل الموقف المستسلم للفتاة (مي) ابنة احد المقتولين بتهمة التعاون . ويلفت النظر تعبير الكاتب بقوله: (همالتنا) !! المصطلح ذي الابعاد القروية الخاصة بما فيه من جرأة الاعتراف والتقرير والنقد . وهو يشير الى ظاهرة الانفلات التنظيمي التي أحدثت فراغا في الانتماء والولاء ، ووفرت مجالا للانتقام الشخصي الذي عانت منه فعاليات الانتفاضة الفلسطينية في سنواتها الاخيرة .

استعان الكاتب بأسلوب الاسترجاع الفني (الفلاش باك ) ليوازي الواقع القائم بواقع مستحضر فيه ما فيه من الدفء ، والنقد ، والنظرة من بعد مكاني ونفسي ، وليقدم للقارئ معلومات عن واقع الأسير ، ومعاناة ذويه والأم على وجه التحديد .

الأم عند عصمت منصور تتربع في مكان عال وتتميز بمكانة خاصة ؛ هي التي أهدته الحرام  الذي ظل معه يواسيه ويذكّره ويحاوره في وحدته القاسية . وهي التي قتلها بسبب سجنه ، وقتلوها حين أدخلوا العازل الزجاجي المزدوج والهاتف الآلي . إنها الام التي لم تستوعب حرمانها من لغة التواصل بأطراف الأصابع فقررت الموت . لقد قتلوها وسرقوها منه ، واغتالوها قهرا ولم تتمكن من وداعه ( ص123 ) . وهي التي لعب معها لعبة الدموع والبكاء منذ طفولته ، لتعلمه  بعدها ألا يبكي .

عبلة هي البديل المؤقت للأم ، والامتداد الأكثر واقعية منها . هي المحبوبة التي تؤنس وحدته ، وتنقل له الأخبار . " ...هل لا زال لديك أمل يا هذه  المرأة التي تشبه أمي في هذا الإسراف بالأمل ..." ص132 .

 ولكن كيف يمكن التغلب على الحرمان من الحرية ، وعلى الإبعاد عن غرف المعتقل حيث يمكن الحديث مع معتقلين آخرين  ؟  وهل يمكن قهر الاحتلال الذي يريد قتل الروح ؟ إن هزيمة الاحتلال ممكنة . يقول الراوي : " ...ستبقى لديك الإمكانية والقدرة على هزم الاحتلال بالقول : لا ، وبالقدرة على الحلم ..." ص 145 . وبعدم الاستسلام (ص158 ) . وكل الذي جاء به الكتاب هنا توصيف ونقل لأسلوب التأمل الذي يقتل الوقت ، ويقوّي النفس .

ينقل الكاتب نظرة السجّان الى الأسير ، ويلتقي بالآخر الاسرائيلي ليميز بين الاثنين . ففي حين يرى السجان الأسير شيئا يبدي السجين الاسرائيلي تعاطفا مع الأسير . (ص157) في إشارة الى التمييز بين النوعين ، وإثارة لإمكانية التعايش المشترك في ظل ماض قاتل للنوع الظاهر حاليا بلبوس إنسانية متضامنة . إنه يثير أسئلة للحوار ولا يبدي رأيا في هذه المسألة .

المكان مرفوض  عند الكاتب لأنه مجهز بادوات القتل ، والسجان يمكن التغلب عليه وتحصيل بعض الحقوق الإنسانية ، والسجن الذي وجد لقتل الروح والنفس يمكن التغلب عليه وقهره وإفشال غايته ، من هنا كان العنوان ( سجن السجن)  .السجن يحرر الإنسان من أبشع أسر وهو الوهم (ص 167 ) .

أدب المعتقلين ظاهرة أضحت تستحق الاهتمام والرعاية والدراسة . وهذا العمل الأدبي للأسير عصمت منصور يضيف الى ما سبقه من منجزات أسلوبا جديدا ولغة جديدة ، ويحاور الفكرة ؛ فكرة الاعتقال ، وتجربة العمل المقاوم  ، وينقل الجوانب الإنسانية الذاتية للمعتقل الإنسان ويصوره في حالات ضعفه ، وتحديه ، وخوفه ، وعشقه  ، وحتى يأسه .

إنه يعد بمزيد قادم من الإبداع الواعي .

___القدس : 7 /7 / 2011 م .

___ الكتاب صدر ضمن سلسلة أدب السجون رقم 5 عن وزارة الثقافة . نيسان 2011 م. ويقع في 169 صفحة . ومن المؤسف إصداره بالعدد الكبير من الأخطاء المطبعية ، وحجم الورق غير المريح .