أبطال على شاطئ البحيرة

رواية كلاسيكية صينية

عباس جواد كديمي*

[email protected]

حضارة الصين إحدى الحضارات العريقة على كوكبنا، إذ يعود تاريخها لآلاف السنين. ولا يخفى على أحد إسهامات هذه الحضارة للإنسانية! ولهذه الأمة تاريخ طويل وعريق في الأدب. ويمكن القول إن الأمة الصينية من بين أول أمم الأرض التي لها تاريخ أدبي مكتوب بلغة واحدة على مدى ثلاثة آلاف سنة متواصلة. هذه الاستمرارية ناجمة عن طبيعة اللغة الصينية؛ فهي رموز معبرة، وليست حروفا تُجمع لتؤدي مهمة معينة قد لا يفهمها إلا من يفهم الكلمة وصوتها.

هذه الخصائص للغة المكتوبة، وهذه الاستمرارية، كان لها أثر كبير في تطور الأدب؛ فالنص المكتوب فيه ميزة جاذبة للعين والذهن. وللأمة الصينية تاريخ طويل جدا وغني في الأدب بكل أشكاله. وقد ظهرت الكتابات الأدبية الأولى في تاريخ هذه الأمة مُستقاة من الأفكار الفلسفية والدينية، لا سيما أفكار الفيلسوف الكبير كونفوشيوس(551 – 479 قبل الميلاد)، والفيلسوف لاو تسه (600 – 470 قبل الميلاد)، ثم تلتها الكتابات التاريخية، خاصة تاريخ الإمبراطوريات المتعاقبة في تاريخ الصين. وإضافة إلى النتاج الأدبي للمقالات الفلسفية والدينية والتاريخية في أوائل تاريخ هذه الأمة، هناك نتاج أدبي رائع في تاريخ الصين، تجلى في الشعر والرواية والقصة والمسرح والسِيَر الذاتية والدراسات، وغيرها. لقد ظهر الشعر وتطور خلال عهد إمبراطورية تانغ(618- 907 بعد الميلاد)؛ ثم ظهرت الفنون المسرحية التي شملت فن الأوبرا الصيني، ومعها تطورت الرواية.

غالبا ما كانت الروايات الصينية المبكرة تركز على حدث غير طبيعي، خارق نوعا ما، وعلى تطور الشخصيات. ومن الروايات الأولى في هذا المجال؛ الرواية التي اخترنا التعريف بها، وهي (أبطال على شاطئ البحيرة) التي كتب نسختها الأولى الأديب شي ناي آن( 1296 - 1371) في الفترة بين أفول نجم إمبراطورية يوان (1271 - 1368) وبزوغ نجم إمبراطورية مينغ(1368 - 1644)، ثم حرّرها لوه غوان تشونغ(1330-1400 تقريبا)، في عهد أسرة مينغ.

وطالما نتحدث عن واحدة من أربع روايات كلاسيكية رئيسية في تاريخ الصين، من الضروري ألا نغفل ذكر الروايات الثلاث الأخرى وهي: قصة الممالك الثلاث، التي كتبها لوه غوان تشونغ، المذكور في الفقرة أعلاه؛ وحلم القصور الحمراء التي ألفها تساو شيويه تشين(؟ - 1763)، خلال عهد الإمبراطور تشيان لونغ من أسرة تشينغ(1644-1911)؛ ورواية رحلة إلى الغرب، أو الحَجّ إلى الغرب، التي كتبها وو تشنغ أن، خلال عهد أسرة مينغ. يقول نقاد ومحللو الأدب إن الأدباء الصينيين القدامى كتبوا بالعامية الدارجة آنذاك، الأمر الذي جعل كتاباتهم سهلة الفهم واسعة الانتشار في أرجاء الصين. لكن، هناك صعوبة نراها واضحة على الصينيين الشباب حاليا وهم يحاولون قراءة وفهم رموز قديمة من لغتهم، ويعترفون بأنهم لا يعرفونها!

الشيء اللافت في هذه الرواية هو أنها تُرجمت للغات أخرى، بدأها الجيران اليابانيون أولا في القرن الثامن عشر، على يد الأديب الياباني كانزان أوكاجيما، على أساس نسخة من الرواية ذات مائة فصل، وطُبِعت عام 1759، بعنوان (أبطال البحيرة الصالحون المشهورون). ثم ظهرت طبعة أخرى لها باليابان عام 1790، حيث أضيف لها عشرون فصلا، ثم توالت عدة طبعات لها. أما أول ترجمة للإنجليزية فكانت على يد المترجمة الأمريكية بيرل باك، بعنوان (كل الرجال أخوة)؛ وطُبِعت بشكل منفصل في كل من نيويورك ولندن عام 1933. في عام 1978، تُرجمت إلى الفرنسية من قبل الأديب الفرنسي جاك دارس، الذي نال في نفس عام صدورها جائزة أدبية تقديرا لجهوده. وترجمها للروسية الأديب روغاشيف عام 1955. وظهرت ترجمات غير كاملة لها إلى الألمانية والهنغارية والإيطالية والتشيكية والبولندية والكورية والفيتنامية والتايلاندية.

ورغم روعة هذه الرواية، لكنها ما زالت مجهولة للقارئ العربي، ولم يُترجَم منها سوى بعض الأجزاء الموجزة. عندما قرأت أجزاءً من هذه الروايات بالإنجليزية، ولم أكملها تماما، وُلِدت في نفسي رغبة مخلصة أن أتشاطر مع الأصدقاء القراء العرب مشاعري عند قراءتها؛ عسى أن يجدوا فيها المتعة والفائدة، وعلى أساس أن الأعمال الثقافية طريق للتواصل والصداقة بين الشعوب.     

 لا يمكن الإسهاب كثيرا في المقدمة للدخول في موضوعنا حول رواية (أبطال على شاطئ البحيرة)؛ لأن الرواية طويلة متنوعة ومتشعبة وذات خصائص عديدة سيكون من الصعب التطرق إليها جميعا. لذلك نسعى للتعريف بها أولا، ثم نسأل الله تعالى التوفيق للمزيد من المقالات لاستعراضها بشكل أوسع واكثر دقة وتفصيلا.

إلى جانب اسمها هذا (أبطال على شاطئ البحيرة)، ظهرت هذه الرواية بأسماء متنوعة، مثل: (حافات المياه)، و(كلّ الرجال أخوة)، و(أبطال البحيرة الوطنيون الصالحون)، و (الخارجون على القانون). وهنا أتذكر مسلسلا تلفزيونيا كان شائعا في ثمانينات القرن العشرين في العراق، باسم(حافات المياه). كان يُعرض في أوقات خاصة خلال الحرب العراقية – الإيرانية، للتأكيد على الروح القتالية الباسلة. ومن الممتع حقا أننا كنا نتسمّر أمام شاشة التلفزيون الأسود والأبيض، ونتابع حركات الفنون القتالية لأبطال المسلسل الذين لم نكن نحسن حتى نُطق أسمائهم، ونكتفي بترديد كلمات غريبة نعتقد أنها صينية، مثل تشونغ لينغ ودونغ مينغ، وهي أسماء بعيدة عن حقيقة أسماء شخصيات المسلسل، خاصة أبطاله.

مولد الرواية .. متى ظهرت للمرة الأولى؟ ومن كتبها؟

هذان السؤالان ظلا محط نقاش وأخذ وردّ بين المهتمين، لكن هناك إجماعا حتى يومنا هذا على أنها ظهرت خلال الفترة الانتقالية بين إمبراطوريتي يوان ومينغ، وأن كاتبها أصلا هو شي ناي آن، ثم حرّرها بعده لوه غوان تشونغ. هذه الاستنتاجات استندت طبعا إلى ما ورد في سجلات تاريخية معنية. ووردت إشارات في سجلات تاريخية قديمة، مثل ملاحظات المؤرخ قاو روي، إلى أن الرواية كُتِبت أولا بمائة فصل، تحت عنوان (أبطال البحيرة الوطنيون الصالحون)، وأن كاتبها هو شي ناي آن، ومحررها لوه غوان تشونغ. وبسبب عمق الفترة التاريخية، من الطبيعي أن تظهر إشارات أخرى تنسب الرواية لهذا الكاتب أو ذاك، لكن السجلات شبه المؤكدة ترجح نسبها للكاتبين المذكورين أعلاه. 

لقد جرت العادة لدى الأدباء في الصين القديمة، وربما في أنحاء أخرى بالعالم القديم، أن يركزوا على أفعال مميزة لأباطرة أو عظماء يأتون بأفعال خارقة تستحق الوصف وتجذب القراء والمتابعين. لكن روايتنا هذه وُلِدت من رحم جبل ليانغشان الذي آوى نخبة من الرجال، لم يكونوا من عِلية القوم، بل هم خليط متنوع، جمعتهم صفات تنوعت بين هذا وذاك، وأسباب مختلفة أيضا دفعتهم للتحصن في الجبل. القاسم المشترك بينهم هو أنهم اضطروا للجوء لهذا الجبل كملاذ وقاعدة يشنون منها عملياتهم ضد ما كانوا يرونه ظلما اجتماعيا مقيتا مسلطا على رؤوس الناس في تلك الفترة. لم يكونوا على عداء مع الإمبراطور، بل مع المسئولين الحكوميين الأشرار. يقال إن هذه الرواية هي مجموعة قصص من أساطير شعبية كانت شائعة خلال فترتي إمبراطوريتي سونغ ويوان، لكنها في جوهرها تحمل بصمات إبداعية لكاتبها شي ناي آن، ولمحررها الأديب لوه غوان تشونغ، كاتب رواية رائعة كلاسيكية أخرى هي (قصة الممالك الثلاث).  

شخصيات محورية في الرواية 

تتحدث الرواية عن شخصيات مائة وثمانية رجال ليسوا أشرارا بطبيعتهم، ولكن الظروف السائدة آنذاك دفعتهم لتصرفات شتى جاء معظمها نتيجة شعور متأججٍ ضد الظلم والفساد والشر. اتهموا بالعصيان أو التمرد أو الخروج على القانون، فاضطروا للفرار لحضن الجبل، ليكون منطلقا لهم في نضالهم ضد الظلم والشر والفساد الذي ضاقوا به ذرعا. من غير الممكن بالطبع أن نتحدث عن جميع هذه الشخصيات، ولكن يمكن الإشارة لأبرزها. ففي تلك القلاع الجبلية، كان سونغ جيانغ قائدا لهم! يحمل اسما جميلا يعني المطر في أوانه! هذا الرجل شخصية تاريخية قيادية بالدرجة الأولى، أكثر مما هي قتالية! قاد انتفاضة الفلاحين في منطقة واسعة من الصين القديمة، يمكن تحديدها بمناطق حالية هي مقاطعات شاندونغ(التي تضم جبل ليانغشان والبحيرة المعروفة باسمه أيضا) وخبي وخنان وجيانغسو(شمال شرق ووسط الصين)، أواخر فترة أسرة سونغ الشمالية (960-1127). ورغم قلة ما ورد عنه في السجلات التاريخية، لكن يمكن للمتابع أن يشعر من خلال أحداث الانتفاضة التي قادها (انتفاضة ليانغشان)، مدى تأثيره في تلك الفترة، خاصة على البلاط الإمبراطوري.

وفي سجلات تاريخية توثق الفترة الانتقالية بين إمبراطوريتي سونغ ويوان، هناك فصل بعنوان (تمجيدا لسونغ جيانغ ورجاله الستة والثلاثين)، يشيد بنضالهم وبطولاتهم في مقاومة الغزاة من أسرة جِين (1115- 1234) التي غزت إمبراطورية سونغ الشمالية ودمرتها واستولت على العرش. وهناك إشارات تاريخية أخرى حول هذا القائد وأبطال آخرين اتخذوا من جبل ليانغشان والبحيرة القريبة منه، وجبل تايهانغ، حصونا ينطلقون منها لمحاربة الظلم، ولمقاومة الغزو واستلاب العرش، ووضعوا الأساس لما يمكن تسميته (أخوّة الشجعان الصالحين). كان سونغ جيانغ يقود رجاله منطلقا من قلاعهم على جبل ليانغشان وبحيرة ليانغشان، ليحارب المسئولين الفاسدين الأشرار، ويحق الحق لعامة الناس. وهناك شخصيات أخرى مثل الأشقاء الثلاثة روان المعروفين بقراصنة البحر، ومهاراتهم في فنون القتال والتجسس على الأعداء والإيقاع بهم. والحكيم أو الحصيف لو ذو الشخصية المؤثرة قوة وحضورا، شكلا وطولا وعرضا! كان راهبا بوذيا، لكنه لم يستطع صبرا أمام الخمر واللحم، فترك الرهبنة. تصفه الرواية بأنه قوي جبار في صحوته، لا تقف بوجهه قوة عندما يسكر!؛ ثم شخصية وو سونغ قاهر النمور! ولي كوي الشهير بالزوبعة السوداء، ذلك المقاتل الذي لا يُضاهى بفأسيه المزدوجين! وفي ظل هذه الخلفية من المغامرات البطولية المُناصِرة للحق وللفقراء، من الطبيعي أن تظهر مقارنة بين هذه الرواية وحكايات روبن هود الإنجليزية، لكن روايتنا هذه أقدم كثيرا من روبن هود.  

وبسبب إشادتها بالروح الثورية الرافضة للظلم والعدوان، مُنِعت هذه الرواية عدة مرات من النشر والتداول خلال فترة أسرتي مينغ وتشينغ، حيث سادت مظاهر عديدة للظلم الاجتماعي متمثلا بسيطرة الإقطاعيين على مقدرات البلاد والعباد. ولكن تلك المحاولات لم تمنع انتشار الرواية ولم تكبح شعبيتها التي امتدت وتجذرت بين الناس.

الخاصية الفنية التي تُحسَب كثيرا للرواية هي أنها وصفت مغامرات أبطال الجبل والبحيرة بأسلوب حيوي فريد! وأشادت وعززت ورسّخت الروح النضالية الباسلة ضد الظلم والعدوان، بأسلوب حيّ وغني وثري. يشير نقاد الأدب إلى أن الرواية تنقسم إلى قسمين؛ قسم يصف الشر والظلم الذي يرتكبه الأشرار من مسئولين حكوميين أو إقطاعيين متنفذين، وهو بمثابة توطئة تبرّر انتفاضة الأبطال. والقسم الثاني يركز على بطولات سونغ جيانغ ورجاله. هذا الأسلوب الفريد الذي يحكم السيطرة على التطورات ويمنع السقوط في فوضى الأحداث، جعل من الرواية مؤثرة فعلا ومصدرا للعديد من الأدباء في الأجيال اللاحقة؛ كما هي مصدر للعديد من الأعمال الفنية تلفزيونيا وسينمائيا!

عندما يبدأ القارئ تصفح الرواية يجد حبكة وأسلوبا يتميزان بالتشويق فعلا؛ من خلال اختيار عبارات وأسماء وألقاب تثير الإعجاب والإحساس بقوة الشخصية والحدث! فعندما نجد عنوانا لفصل في الرواية يقول (شي جين التنانين التسعة)، فبالتأكيد سيثير هذا إحساسا بعالم روائي مميز سيكون من الجميل أو المُمتع متابعته لمعرفة من هو هذا البطل الذي يعادل بقوته تسعة تنانين، وما الذي سيفعله؟! عِلماً أن هذه الشخصية هي الأولى من بين أبطال الرواية. وفي الرواية الكثير من الوصف لشخصيات تبدو نابضة بالحياة فعلا، مثل: الحصيف لو بقوته الجبارة، وهو يثير المشاكل في صحوته وسكره، والراهب الجوّال وو سونغ وهو يصارع النمر ويقتله على سلسلة جبال جينغيانغ؛ وهوا رونغ الغضبان؛ والسيدة وانغ التي ترتب لموعد غرامي؛ والشيطان ذو الشعر الأحمر، والملك السماوي، والنمر الأنيق الشهم، وقاهر الجبال الثلاثة، وجبل الأربع والأربعين؛ حيث تأخذ القارئ لعالم أسطوري حيوي بديع!

حتى أسلوب الكاتب، المتمثل في جعل عنوان فصول الرواية مثل الكوبليه(مكون من فقرتين تقدمان لماهية الفصل)، يسهم كثيرا في شحذ رغبة المتابعة لمعرفة القادم، خاصة أن الكاتب يختتم الفصل بأسلوب شيق يحفز القارئ على مواصلة القراءة لمعرفة نتيجة حدث ما أو فهم سِرّ معين.

 ولا ننسى طبعا الوصف الدقيق لمناطق الصين في تلك الفترة بكل حيثياتها المكانية والزمانية؛ حيث نجد وصفا لأساليب الحكم والإدارة، وطرز البناء، وأسماء المدن والمطاعم والحانات والجسور، وكلها مُستقاة من الطبيعة المحيطة بالبشر حينذاك. وتتناول الرواية حياة الناس وتعاملاتهم، صالحهم وطالحهم، غنيهم وفقيرهم، أميرهم وعامتهم. لقد أبدع الكاتب بالوصف بحيث يمكن فعلا الإحساس بمعظم المشاعر من طيبة وغدر، وتآمر وخبث وحيلة وخداع، وغرام وانتقام، ونزوة وجنس، ولعب ولهو وشراب؛ إضافة إلى جوهر الرواية المتجسد في ثورة الناس على الأوضاع الاجتماعية الظالمة. ومن خلال الرواية، يمكن أيضا التعرف على أساليب الفنون القتالية التي كانت سلاح الناس في الدفاع عن النفس وفي مقاومة العدوان؛ ويصف الكاتب أيضا أنواع الأسلحة المستخدمة في تلك الفترة كالسيف البتار والرمح المسنون والمطراد الثقيل المزدوج، والفأس، والمِدية والعصا والهراوة والدرع، إضافة إلى الخيول الأصيلة. 

صور من الرواية

في الفصل الأول المُعنوَن (المُعلم السماوي تشانغ يصلي للخلاص من الطاعون... والمبعوث هونغ يطلق سراح الشياطين من غير قصد)، يبدأ كاتب الرواية بوصف صورة من أحوال تلك الفترة وما عانى الناس فيها من مشاكل سياسية تجسدت في ظلم المسئولين الأشرار والإقطاعيين الجشعين، ثم ازداد الوضع سوءا بظهور وباء الطاعون وفتكه بالناس الذين راحوا يتضرعون للسماء لإنقاذهم. ورغم وجود الأشرار، لكن الأرض لا تخلو من الرجال الحكماء الأخيار ممن يحاولون قدر الإمكان نشر العدل والفضيلة بين الناس؛ وهذه خاصية أبدع فيها كاتب الرواية ليعزز ويغني المضمون ويعطي القارئ صورة حية عن البلاط الإمبراطوري والتأثيرات الخاضع لها. تبدأ الرواية بفصلها الأول بالحديث عن ولادة إمبراطور مميز هو تاي زو، يكون له شأن كبير ويشكل انعطافة جديدة في تاريخ البلاد، حيث يطهر الأرض من الأشرار ويعمل على نشر السلام ويؤسس لإمبراطورية كبرى يطلق عليها اسم(سونغ الكبرى) يمتد حكمها لأربعة قرون. ويأتي في الفصل الأول كذلك وصف لرهبان الطاوية وأثرهم الديني على الناس ومعتقداتهم؛ حيث يجد الناسُ فيهم ملجئا للتضرع للسماء طلبا للخير المتمثل بالمطر وعطاء الأرض، ثم النجاة من شرور الدنيا المتمثلة بالأمراض بأنواعها. ويبرز كاتب الرواية وصفا لشخصية راهب طاوي يُعتقد أنه من صلب سلالة مُمجّدة، لها حظوة عند السماء؛ فيبعث إليه الإمبراطور طلبا ليصلي من أجل إنقاذ الناس من فتك الطاعون. في هذا الفصل، وما يليه، صور وصفية رائعة للزمان والمكان والشخصيات بما يعطي القارئ انطباعا نابضا بالحياة عن تلك الفترة. ويُظهر مؤلف الرواية في هذا الفصل الاستهلالي روحا مستقلة تتمسك بنقل الصورة واضحة للقارئ، ويجيد في إبداع مشاهد متميزة في الوصف ودقته، إذ يمكن من خلالها التحسس بالشخصيات ومعرفة اتجاهاتها ونواياها وارتباطاتها، ثم التفاعل معها؛ وهو ما يعطي الإحساس بضرورة المتابعة لمعرفة القادم من الأحداث. هناك الكثير من الصور للزمان والمكان والناس، والظواهر الطبيعية والمعتقدات. فتأثير السماء واضح على من هم على الأرض، وعلى من تحتها، حسبما يشير الكاتب في مقطع بالرواية يقول "ولما سأل الناس الراهب عن سبب انشراحه قال: ستتعزز أسس الإمبراطورية أكثر، بما يتلاءم وإرادة السماء فوقنا، والأرض تحتنا، والناس بين فوق وتحت." وعنصر التشويق كبير أيضا في صور كثيرة بالرواية، بحيث يحبس القارئ أنفاسه متابعا لحدثٍ معين لهذه الشخصية أو تلك! فعندما حمل المبعوث الإمبراطوري المارشال هونغ، رسالة للراهب الطاوي، وسار بها أياما بلياليها، طالبا جبلا أطلق عليه كاتب الرواية اسما حيويا هو (التنين والنمر) ليعطي للقارئ دلالة مشحونة بتشويق المغامرات في عصر كانت العلاقة فيه وطيدة بين الناس والطبيعة وما عليها. وبالفعل، يجد القارئ تشويقا عظيما وهو يتابع السفر المُضني لمبعوث الإمبراطور وما يلاقيه على ذلك الجبل من مفاجآت، ومتاعب تكاد تقضي على حياته، ثم الخطر الذي يتربص به عندما يصادفه نمر ضارٍ يطلق بوجه زمجرة مرعبة ويثب عليه. وتتوالى الصور الروائية الحية بأسلوب فريد يتناسب والأحداث التي اختارها الكاتب لتكون مركزا لوصف مجتمع في الصين القديمة، لتنقل للقارئ بشكل دقيق صورة الناس متمثلة بالعديد من الشخصيات على مختلف مستوياتها وأعمالها وأفكارها، وصورة المكان متمثلة بالمباني وطرزها وعمارتها ووظائفها، ووصف الطبيعة بكل ما فيها! فلو تابعنا مسيرة بسيطة لرهبان طاويين وهم ينزلون من معبدهم لاستقبال مبعوث الإمبراطور، لشعرنا بصورة تتراءى أمامنا نابضة بالحياة. يصفهم الكاتب كالآتي "ظهر موكب من الطاويين، يضربون طبولا ويقرعون أجراسا، يعزفون أنغاما إلهية، يحملون بخورا وشموعا، راياتٍ ومظلات." وهناك صورة أخرى جديرة بالإشارة ألا وهي الصورة التي يمهد فيها كاتب الرواية للضرورة الحتمية لظهور أبطال روايته، وهي الإشارة التي وردت بعنوان الفصل حول(إطلاق أرواح الشياطين)، إذ تسبب مبعوث الإمبراطور بإطلاق أرواح شريرة كانت محبوسة تحت أعماق الأرض، فانتشرت بين الناس على الأرض، الأمر الذي يحتم ضرورة ظهور من يخلص الناس من شرورها. وإليك عزيزي القارئ هذه الصورة من الرواية "سار مبعوث الإمبراطور طالبا القاعة التي يتعبد فيها المعلم السماوي، وفي طريقه رأى مبنى جانبيا يحمل صفيحة حمراء كتب عليها بحروف ذهبية: ختم قاعة الشياطين. وقال له كبير الرهبان مُحذرا: لقد أقسم جميع المعلمين السماويين على إبقاء هذه القاعة مغلقة بإحكام؛ لأنه لو هربت الشياطين فسيكون الأمر مروعا! لكن المبعوث لم يأبه لهذا التحذير، وسولت له نفسه رؤية الشيطان! وظنّ أن التحذير مبالغ فيه، وأن الأرواح الشيطانية لا تحبس، وليس الأمر سوى فبركة لتعزيز الإدعاء بتأثير الطاويين. ثم هدد الرهبان بالويل والثبور إن لم يفتحوا الأبواب. وما كان من الرهبان إلا أن نزعوا الأختام وحطموا الأقفال، وفتحوا بابا أوصلتهم إلى داخل قاعة حالكة الظلام. طلب مبعوث الإمبراطور شموعا شاهد على ضوئها منضدة حجرية تتوسط القاعة، وعليها إشارات وطلاسم ورموز لا يفهم معناها.. ولكن الأعجب من كل هذا هو أنه وجد اسمه (هونغ) مكتوبا على المنضدة. سرّ المبعوث الإمبراطوري كثيرا لرؤية اسمه منقوشا هناك منذ مئات السنين، وازداد إصراره على معرفة ما موجود تحت اللوح الحجري الذي يغطي المنضدة، وأمر بإحضار مزيد من الرهبان لرفع الغطاء. توسل إليه كبير الرهبان كثيرا، لكن دون جدوى. وبعد جهد جهيد، رفع الرجال اللوح الحجري فبدت حفرة بعمق مائة ألف قدم، وضجّ في الآذان صوتٌ هادرٌ واندفعت سحابة سوداء من باطن الحفرة وتفرقت في كل الأرجاء......!

أما صراع أحد أبطال روايتنا وهو الراهب وو سونغ مع النمر على سلسلة جبال جينغيانغ، فتستحق الإشارة أيضا، ورواها كاتب الرواية بصورة مشوقة! فوصف المشهد بهبوب عاصفة هوجاء تمهد لما هو أكثر حَبْسا للأنفاس؛ إذ يظهر نمر بضخامة ووحشية يبرع الكاتب في وصفها، ليشعر القارئ بعيني النمر الكبيرتين البارزتين وجبهته العالية الضخمة كالمطرقة ومخالبه التي تمزق حتى الأرض التي يثب عليها! إنه مشهد صراع يناسب أن يكون قمة من بين عدة قمم تشمخ في صور هذه الرواية البليغة المشوقة!         

عزيزي القارئ الكريم، إذا رغبت بمعرفة ما حدث للمارشال هونغ بعد وثبة النمر، وماذا حلّ بالأرواح الشريرة التي انطلقت من حبسها، وكيف دار الصراع الشرس بين وو سونغ والنمر على سلسلة جبال جينغيانغ، ومغامرات مشوقة رائعة أخرى لأبطال البحيرة، حاول الحصول على جواب من الرواية نفسها!! إن دار النشر الصينية باللغات الأجنبية في بكين تعتزم إصدارها باللغة العربية، ليتسنى للقراء العرب الإطلاع عليها والتمتع بها. إلى ذلك الحين، رعاكم الله بكل الخير والأمان!    

                

* إعلامي عراقي يعمل ويعيش في العاصمة الصينية بكين.