المعلقات الحديثية

طلال سالم الحديثي

طلال سالم الحديثي

بـاحـث ونـاقـد

.. والمجموعة الرابعة للشاعر خلف دلف بين يدّي- وقد فرغت من قراءتها هنا في دمشق الفيحاء - فإني أهنيء الشاعر بتوفيقه في إبداع هذه القصائد المطولات التي حملت كثيراً من سمات النجاح أسلوباً ومضموناً، وإنني مع توجسي من كتابة المقدمات لدواوين الشعراء في هذا الظرف المضطرب من حياتنا الثقافية الغائمة وجدت نفسي منساقاً لتلبية رغبة الشاعر وتقديمه إلى القراء في هذه المجموعة الرابعة من شعره.

ولقد وقفت طويلاً متأملاً وقارئاً لقصائد هذه المجموعة الشعرية التي أسماها (عمر المختار يصلب من جديد)، متماهياً مع نيكوس كازندزاكي مؤلف مسرحية (المسيح يصلب من جديد)، ليستعير شخصية عمر المختار قناعاً لقصائده، وهذا أمر ليس لنا فيه قول لأن الأمر موكول إليه. وقد كنت أشرت في مقدمة ديوانه الثاني (رقيم عراقي إلى دمشق)، إلى ظواهر وجدتها في شعر خلف وحسبتها ظواهر سلبية، ومنها على وجه الخصوص ظاهرة (الطول) في القصائد، ولكني في هذه المقدمة وبعد قراءة مستفيضة في شعر الشاعر وجدت أن ظاهرة (التطويل) عنده أمر طبيعي لا تكلف فيه ولا إسهاب، فهو مطبوع

 على الاسترسال الشعري الذي يجعل قصائده تجري رخاء، ولهذا عددت قصائده مطولات شعرية أبدع فيها من شعراء (حديثة) شاعران، هما الشاعر كمال الحديثي وشاعر هذه المجموعة خلف الحديثي، واقتران الاسمين لا يعني تشابه التجربة الشعرية عندهما فلكل منهما مسار شعري يختلف عن مسار الآخر ولكل منهما (أسلوبية) شعرية تميزه عن الآخر.

ولكن مطولات كمال الحديثي وخلف الحديثي هي (المعلقات الحديثية) المعاصرة لأنها قصائد تتميز عن التراث الشعري القديم الذي نقل جزءاً منه مؤرخ الحديثة المرحوم فرحان أحمد البياتي وفي المشهد الشعري الحديثي المعاصر.

ولا أشعر بأية (مبالغة) في هذا القول كما لا أشعر بأني أماليء أحداً به لأن لا مطمع لي عند الشاعرين اللذين هما مثلي لم يملكا من الدنيا سوى الحطام، ولم يبق من العمر ما يدفعني إلى الأماني الكبار والمطامح الشخصية، فقد عشتها حياةً جافة أذاقتني من أفاويق مرارتها أضعاف ما أذاقتني من أفاويق حلاوتها، غير أني أشعر أنني الآن أقدر على تمييز الأمور ببصيرة راجحة تدلني على موضع الصفاء وموضع الكدر.

وشعراء حديثة المعاصرون كُثر، منهم من أصدر مجموعة أو مجموعتين وقعد ومنهم من أصدر مجموعة وقعد، ومنهم من لم يصدر مجموعة شعرية ولا نشر شيئاً من شعره لأسباب يقدرها هو ولا نعرف لها تفسيراً، ومنهم من يواصل نظم الشعر وإصدار الدواوين كل حسب ظروفه وإمكانياته. وهؤلاء الشعراء يتفاوتون مقدرة وأداءً ولكن للبعض منهم فضل (الأسبقية) إذ أصدر مجاميعه الشعرية في وقت مبكر يعود إلى سبعينيات القرن العشرين الماضي وقبلها، وهذه (الأسبقية) (التاريخية) لها استحقاقها الذي يجب على الناقد ألا يتجاوزه خاصة عند دراسة شعراء حديثة دراسة فنية تشمل الجميع.

كمال الشاعر وخلف الشاعر استثناء من القاعدة لأن لكل واحد منهما عدة مجموعات شعرية وواصلا إبداع الشعر رغم الظروف التي ألّمت بالشاعر كمال الحديثي فحجبته عن قرائه، وآمل أن يبادر ناقد وأديب إلى لمّ شتات شعر كمال الحديثي فيصدره في مطبوع جديد ليتواصل معه قراؤه ومعجبوه.

وقد سبق للدكتور أحمد مطلوب أستاذ البلاغة والنقد الشهير أن أصدر دراسة فنية ونقدية عن شعر كمال الحديثي بعنوان (عيون مبصرة)، وهي دراسة تمتلك كل عناصر القراءة المبدعة لشعر الشاعر.

وأما خلف فهناك الآن من يعد عنه دراسة جامعية للماجستير أدعو الله أن يمد بأجلي حتى أقرأها.

شاعران ينفردان بطول القصيدة، وينفردان بإبداع القصيدة الغنية الثرية معنى ومبنى مع تفاوت المقدرتين.

وأعود إلى السبب الذي دعاني لأسمي قصائد كمال الحديثي وخلف الحديثي بالمعلقات الحديثية وإلى التذكير بأن المعلقات العربية القديمة اختيرت لتعلق على أستار الكعبة لنفاستها وجودتها باعتبارها أبدع ما وصلته الذائقة الشعرية العربية قديماً.

أما قصائد كمال الحديثي وخلف الحديثي فهي أبدع ما كتبه شعراء حديثيون معنى ومبنى ولذلك تستحق أن تكون المعلقات الحديثية بامتياز وأن تمثل قمة الإبداع الشعري الحديثي إلى أن يشاء الله ويخرج علينا شاعر غيرهما بمطولات جديدة، ولكن هذا لا يعني استلاب إبداع الشعراء الآخرين قدامى وجدد فالتراث الشعري الحديثي لا ينسى محمود دللي وصلاح سعيد ونيسان سرحان وعائد عزيز وعادل الدرة ونجيب سليم آل جعفر ورباح آل جعفر ومنذر آل جعفر وطلال سليم آل جعفر ومهند ناطق وعدي أحمد وشعراء شباب آخرين لا يحصيهم عدُّ.

القصيدة عند خلف تمتاز بموضوعاتها، وموضوعاتها شعور جياش بالوطنية فهو شاعر حديثي بأدق ما تحمله هذه الكلمة من معنى يكتنز في قلبه حرارة الشمس ولمعان رمال الصحراء ورقة مياه الفرات.

الشاعر الأميركي بن وارن يقول: الشعر حيث يوجد قلبي. وقلب خلف خفاق في كل قصائده، ولذلك إحتاز شعره طاقة شعرية هائلة تنم عن معاناة حقيقية تضخمت باحتلال بلده والمآسي التي خلّفها الاحتلال وأعوانه في بلدته وسائر البلدات العراقية التي عاشت قبل الاحتلال حياتها في أبهاء أعراس دائمة. لقد صدمه ما صدم العراقيين من ويلات جرت عقب الاحتلال من موت مجاني وقتل على الهوية وتشريد آمنين من ديارهم وفقدان أحبة، فكان شعره مليئاً بالصور الشعرية التي أثرت قصائده وميزته عن غيره من الشعراء.

ولن أطيل الوقوف في هذا التقديم الذي يجيء ناقضاً لما قلته في ديوان سابق من دواوين خلف الشعرية فقد استوى شعر خلف على سوقه ونمت لغته وتعمقت صوره وحَسُنَ تصويره وتأنقت حديقته الشعرية، وكلي أمل في إصرار خلف على إبداع الشعر أن يقطع شوطاً هو بالغه بدأبه على هذا المران الشعري الذي يجد فيه نفسه ويرتاح إليه قلبه وضميره.

وأقول لخلف سر يا بن حديثة النجيب على طريق الشعر، واكتب لنا معلقاتك التي ستضعها الأجيال من بعدنا على جذوع نخيل الحديثة الشامخ ولتكن في قصائدك القادمة أبلغ عبارة وأعلى بياناً، ولتكن في أخريات الأيام أشعر منك في صدرها ولك من الله التوفيق ولتحيا شاعراً فراتياً أصيلاً كما تحب أن تدعو نفسك في رحاب الكلمة الشاعرة، وسلام عليك شاعراً بين الشعراء ومبدعاً بين المبدعين.

ريف دمشق