(الأفعى والتفاح ) لأنوار سرحان

الثنائيات الاجتماعية ولغة الشعر في النثر

ابراهيم جوهر –القدس

يفاجئ عنوان مجموعة نصوص الأديبة أنوار سرحان قارئه داعيا إياه للتوقف وإمعان النظر ؛ في الكلمتين  البارزتين (الأفعى والتفاح) وفي الجملة التقريرية الغريبة التي ألحقت بهما كتفسير وصفي لهما:( سيناريوهات لجرائم محتملة ) .

إنها تعيد القارئ الى بدء الخلق والخليقة وقصة الإغواء والنزول من الجنة والعلاقة بين آدم وحواء وفق الكتب الدينية  ، ولكنها أضافت جملتها التحذيرية : سيناريوهات لجرائم محتملة ، للتحذير ، والدعوة الى التغيير ، والتوعية والتثقيف .

ثم إن القارئ المتفحص يستطيع أن يجد ما يدل على هوية المكان المقصود والناس عن طريق التقاط الألوان الدالّة على الفلسطيني وفلسطين .، ولون الأرض والسماء ...

يصح الحكم ابتداء على مضامين نصوص الأديبة أنوار سرحان الاجتماعية جميعها بتنوّع شخصياتها وأحداثها وأسلوبها المتفاوت من نص الى آخر بأنها تشكّل بانوراما اجتماعية للعلاقة بين المرأة (كنوع) والرجل (بفكره الذكوري ) ، لأنها لم تتحامل تحاملا أعمى على الرجل كرجل فقدمته في لفتات هادفة في حالات غير قامعة ولا ظالمة . كما قدمت المرأة نفسها في حالات أخرى مشابهة غير حالتها العامة المظلومة والمضطهدة .

 وجدت صورتين كليتين للمرأة وللرجل ، وتتفرع كل منهما الى صور فرعية  :

صورة المرأة :

 الأولى : المرأة المغلوبة  المقهورة المظلومة المجبرة على القبول والزواج ممن لا تود وتريد وتختار ,

 والصورة الثانية : المرأة  المغلوبة ، القاهرة ، المنتقمة .

 والصورة الثالثة : المرأة المغلوبة المسايرة الراضخة التي تعود الى سكة الطاعة والتبعية والرضى بالزوج الذي ترفضه فيصدها المصير الظالم الذي سيتلقفها ، فتعود لتسجد لهما ...

 وفي المقابل نجد صورة  مقابلة على النقيض تماما ؛المرأة  الواثقة ، القوية ، الجريئة ، المتحررة .

أما الرجل فوجدت الكاتبة وقد صوّرته في حالاته الثقافية التالية :

الرجل الاب القاسي الزاني ،

الرجل الأخ الزاني ، وهما يتنافحان صونا للشرف بمفهومه المجتمعي الذي يتيح لهما ممارسة شذوذهما ، ويقودهما للحرص غير المبرر على رحمهما الخاص بهما . أنهما شخصيتان / نمطان متمفصلان اجتماعيا وغير متّسقين نفسيا .

 ونجد من صور الرجل : صورة الزوج المتفهم المحب الحاني الذي يرفض بعض المفاهيم الاجتماعية (فالمهم أنت وأنا ) ،

 كما نجد بالمقابل صورة الحبيب السلبي البارد غير القادر على حماية محبوبته ولو بتهدئة مخاوفها وانفعالاتها  .

 لا تتحامل الكاتبة هنا على الرجل بل على الفكر الذكوري الذي يضع قوانينه الخاصة الظالمة للأنثى  ، وما ألفاظ القسوة في اللغة إلا للإشارة الى قسوة الحياة التي يقيدها الفكر الذكوري المتناقض غسر المتسق مع ذاته ، وتناقض أفعاله أقواله .

 جاءت نصوص الكاتبة التي تنوّعت بين القصة القصيرة ، والقصيرة جدا ، وقصة البوح والتحليل بلغة فيها من الشعر أسلوب المجاز ، والرمز ، والبوح الداخلي . وقد استخدمت الحوار بلغة فصيحة حيث وجب ذلك ، وبلغة محكية (لهجة شمال فلسطين ) الأليفة الدالة على ثقافة الشخصية وهوية المكان . ولم تكن نافرة عن السياق الفني العام للقصة ، بل خادمة لمضمونها .

 تمثلت جرأة الكاتبة المحمودة في جرأة الطرح  للواقع الاجتماعي المسكوت عن بعض قضاياه ، وفي استخدام بعض الصفات والألفاظ التي باتت اليوم شائعة (!!) في بعض الفضائيات وفي أحاديث المجالس الخاصة . لم تسفّ ولم تذهب وراء إغراء اللفظة وإيحاءاتها كما فعلت سامية عيسى في روايتها المقززة (حليب التين ) مثلا ، ولكنها استخدمت الألفاظ المقصودة هنا بما يخدم التعبير عن الحالة الموصوفة المعنية بالمعالجة . لم تكن اللفظة مقصودة في حد ذاتها لذاتها بقدر أكبر مما تعبر عنه من واقع قائم لا يستطيع المنصف تجاهله وإخفاءه .

 توسلت الكاتبة بالسخرية ، في الموقف ، والحوار ، والتعليق ، والوصف . واعتمدت على المفارقة في الحدث والنهاية . وعلى الرمز الذي ينبئ باستمرار الحالة الموصوفة . من هنا ظل الابناء يولدون بإشارة الى مكان جرح الأب لقدمه ، وبأقدام مفلطحة ، دلالة على استمرار الواقع ، وعدم صلاحية الأقدام للسير والتقدم ، لأن القدم المفلطحة تتعب في السير ولا تصلح للمسافات الطويلة ....

بنت الكاتبة فكرها الأدبي هنا على ثنائيات متقابلة : المرأة والرجل ، العربي واليهودي ، أنا والآخر ، الحب والكره ، الموت والحياة  ، الضحك والبكاء . كما ابتدأت ب(الأفعى والتفاح) : السماء والارض ...فأرادت رسم خطين متوازيين يحملان جسما وقضية يسير نحو هدف محدد مثل القطار السائر فوق خطي سكة الحديد في طريقه المعلوم ...ولكن كلا من خطيها كان يأخذ باتجاه مغاير لاتجاه الآخر !! وكأنها تسأل : متى يتحدان معا ؟!!

 ومما يلفت الانتباه في أسلوب الكاتبة اعتمادها على الروي بضمير (الأنا ) لأنه الأقرب ، والأكثر حميمية ، وهو الذي يدفع القارئ الى الاقتراب أكثر من الحالة الأدبية .

في العناوين الداخلية للنصوص برزت ظاهرة العنوان المكون من جملة طويلة ، وجاء بعضها وصفا وليس عنوانا (مثل : تلك العجوز الصبية التي ضحكت منهم جميعا ، و: أشدّ غرابة من عدد حروفها ) .

والمعروف أن العنوان والجملة الافتتاحية وما يليها يشكلان أهم شروط التشويق . لأنهما أشبه (بالفاترينا )التي تجذب المشتري للولوج الى محل (النوفوتيه) .

في القصة الأولى(فوبيا وغربة غزل) جاءت المقدمة على الشكل التالي : (( نظرت الى عينيه بلهفة ...ما أجمل عينيه البراقتين ، ولكم أعشق التجاعيد الناعمة حولهما . من الغريب أنني أكره البشرة المشدودة وأجد في التجاعيد دليلا الى الحياة كما أنني أموت في ضحكته التي لا تكاد تفارق وجهه الا نادرا ......)) ؛

هنا بدأت الكاتبة بجملة فعلية أولا ، وأتبعتها ب(مونولوج)يبدأ بالتعجب ،

ثم :تعود الى الجملة الفعلية (حدقت فيه طويلا ...) ،

ثم : وصف جو المكان وتأثيره على نفسية الراوية (أنغام التايتنك المنبعثة من داخل المطعم...) .

ثم : نقل المشاعر والتمنيات المتولدة من المكان وفيه:( فتتمازجان بسحر يجعلني أتصور نفسي أعانقه عند البحر ...) .

وفي نهاية الصفحة ، يتغير المسار النفسي والقصصي المعبأ بالمشاعر والأمنيات واجواء الفرح والسعادة  فجأة ...، وكأن الكاتبة ترسل رسالة تقول فيها : السعادة لا تدوم هنا ! لا تحلم أيها العربي بالهدوء والحب والحياة !

تستدرك بقولها : (لكن حركة غريبة في المطعم قطعت عليّ متعتي وأفسدت جلستنا الرومانسية ...) ثم تتابع الحدث المتوتر ومشاعر الخوف وانسحاب الحبيب من الدفء وطمأنة محبوبته  لنكتشف في النهاية المتوترة أن (جسما مشبوها ) الذي أثار الحركة هو (كانت تلك عبوة حفاظات أطفال يبدو أن إحدى الزبائن قد نسيتها ...) إنه (الفوبيا ) والرعب الذي يكشف هشاشة المجتمع المدجج بالأسلحة ، ويبرز النظرة الى العربي المتهم دائما .

أشارت الكاتبة ايضا الى مستويات اللغة المنطوقة الظاهرة ، وتلك المختفية الكامنة هنا ، تقول :( قال متظاهرا باللطف : أف !! متى يحل السلام وتنتهي هذه الحالات ؟؟ إلا أن عينيه قالتا عكس ذلك : متى ينتهي وجودكم في هذه الأرض لنحيا بسلام؟؟!!) .

أما النهاية فجاءت استمرارا للحالة العبثية الغريبة التي يعانيها المواطن العربي في بلاده ...فلا يهم ما الذي كانت تقوله الراوية وهي تشتم ، ولا ماذا يسمى هذا الشتم في المصطلحات العلمية .

 في النص الثاني (الدخلة والقربان) وهي القصة التي تقترب من الجرأة المشار اليها أكثر من غيرها من حيث موضوعها ، جاءت البداية بجملة فعلية ، فوصف واستدراك :( سرت في جسدي رعدة غريبة لم أعهدها من قبل ...رعدة مدغدغة مثيرة أول الأمر ، لكنها سرعان ما شحنت بخوف وقلق حاد اعترياني ....) . البداية بلغتها الحميمية تتشبث بالقارئ وتمسك بتلابيبه لكي لا يفارقها .... أنها لغة القص الجديدة التي تأخذ من الشعر حيويته وروحه ، ومن البوح الجميل وصفه وتعبيره ، ومن المسكوت عنه المدحور موضوعا يعبر عنه .

أدب الشباب ، أو الأدب الجديد بات يعبر اليوم عن الجوانب الداخلية للنفسية ، ويرصد انفعالاتها وردود أفعالها الداخلية وعلاقاتها مع الواقع أكثر من الأسلوب التقليدي الكلاسيكي البارد المتأنق الذي يعتمد الشكل الخارجي .

هنا نجد لغة متوترة دالة تعتمد على القارىء ليكمل إيحاءاتها وفق خبرته وعلاقته وإحساسه باللغة . اللغة هنا تصير شخصية ليست حيادية بل مشاركة في الفعل .

ولعل وقفة متأنية مع البدايات القصصية لنصوص أنوار سرحان تكشف المزيد من أسلوبها الذي يفرضه الحدث . مثلا ، نجدها تبدا قصة(تلك العجوز الصبية ...) بالتوجه المباشر على طريقة الخطاب للقراء : (لن تسعفكم ذاكرتكم ...)

واعتمدت الصوت معبرا عن الحالة ، وأتت بأسلوب الشعر الحديث الى ميدان النثر فوجدناها تضع الكلمة أو الجملة في سطر منفرد ، لأن البياض أضحى ذا دلالة و صار لغة تشير وتعني وتتكلم ....(قصة أشد غرابة من عدد حروفها ) مثلا .

نجد في أدب الكاتبة ما يعبر هنا عن أدب الشباب المتمرد الغاضب الباحث عن وطن حقيقي يروق له ويبنيه بوعيه وإرادته .

إنه صوت جريء واع يعرف ما يريد وماذا يريد ، ولا ييأس ولا يستكين لأنه يمتلك روح الشباب المعطاء .

تحية للكاتبة وزملائها وزميلاتها وهم يرسمون عالما من الجمال .

_____ الورقة المقدمة الى ندوة اليوم السابع التي ناقشت مجموعة الكاتبة يوم الخميس 23 /6 /2011 م.

(أنوار أيوب سرحان ،الأفعى والتفاح- سيناريوهات لجرائم محتملة ، منشورات معين حاطوم :دالية الكرمل ، 2011 م.)