جابر قميحة الأديب السياسي الساخر

(1)

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

د. مجدي قرقر

عادة ما يعرف الأستاذ الدكتور جابر قميحة بالشاعر والناقد والأديب الكبير ولكن قليلا ما يعرف بالأديب السياسي الساخر، ومن هنا كان اختياري لموضوع هذه الدراسة

في دراسة له بعنوان "النكتة.. أدب وفن وإبداع"[2] يشير الدكتور جابر قميحة إلى أن الضحك نوعان: ضحك تعبيري، وضحك تعويضي، والأول مصدره شعور الإنسان بالفرح والسعادة، أما النوع الثاني فسببه تلاحق الشدائد والمصائب على الإنسان حتى يفقد إحساسه بها، وأمام حالة "اللامبالاة" هذه يلجأ المرزوء إلى ملء منطقة السعادة المفقودة في شعوره بالضحك الذي يأخذ صورة السخرية من ظالميه وأعدائه.. يسخر منهم ويضحك، ويُضحِك الآخرين عليهم؛ منتقمًا منهم بلسانه بعد أن عجز عن الثأر منهم بيده، ويجد أن أَمْضَى سلاحٍ في هذا المقام هو "النكتة". وهكذا جابر قميحة يشهر قلمه المسنون سيفا مسلولا في وجه الطغاة والمستبدين والفاسدين ساخرا منهم ف "شر البلية ما يضحك" وأكثر سخرية الدكتور جابر في مصر وممن يحكم مصر ف "كم ذا بمصر من المضحكات ولكنه ضحك كالبكا"

وتأكيدا لهذا المعنى يضيف الدكتور جابر "وهناك كلمة تشبه كلمة "التنكيت" في المعنى هي كلمة "التبكيت"، وهي كما جاء في لسان العرب الضرب بالعصا والسيف واليد ونحوها، وهو أيضًا: التقريع والتوبيخ"[3]. ونظن أن هذا الربط الذكي بين التنكيت والتبكيت هو ما ذهب إليه رائد الأدب السياسي الساخر في مصر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر "عبد الله النديم" في جريدته التي حملت نفس الاسم " التنكيت والتبكيت" والتي كانت تهاجم المستعمرين والفاسدين بسخريةٍ وتهكم.كما يشير الدكتور جابر

*****

جذور وراوفد وضوابط السخرية عند جابر قميحة

والسخرية عند الأستاذ الدكتور / جابر قميحه لها جذور وروافد وضوابط. فإذا تطرقنا إلى الجذور فإن الدكتور جابر قد حصل على ليسانس دار العلوم ودبلوم الشريعة الإسلامية وماجستير ودكتوراه في الأدب العربي الحديث فمن الطبيعي أن تمتد جذور السخرية عنده وتتعمق في بطون تراثنا الأدبي العربي والإسلامي، فإذا رجعنا إلى مراجعه وهوامشه نجد "الفاشوش في حكم قراقوش: تأليف ابن مماتي" ويشير دكتور جابر إلى التأثير الكبير والمستمر للأدب الساخر بقوله " أمّا ما سطّره المؤرِّخون المنصفون الثقات عن مآثر هذا الرجل فقد نُسي، واكتفى الناس بما رسمه له ابن مماتي من سيرةٍ سيئةٍ يصعب محوها إلى يومنا هذا."[4]. ونجد في هوامشه الشاعر أبا نصر "كشاجم" ،ابن الرومي، أحمد شوقي والدكتور محجوب ثابت، ثم هو يستشهد بالساخرين والظرفاء من أمثال: عبد العزيز البشري، والمازني، وفكري أباظة، وحسين شفيق المصري، وبيرم التونسي، ومحمد مصطفى حمام، وعبد السلام وكامل الشناوي وغيرهم. كل هذا يوضح بجلاء أن السخرية عند جابر قميحة تغوص في أعماق أدبنا العربي والإسلامي .

     وإذا كان الأدب العربي والإسلامي يشكل جذور السخرية عند جابر قميحة فإن التراث الشعبي يشكل الرافد الذي يروي جذور السخرية عنده ويمدها بالغذاء ليضمن لها الحياة ويصفه بالعطاء الشعبي الضاحك فالدكتور جابر ولد في المنزلة في شمال دلتا النيل وهي مدينة أقرب إلى الريف وتصب عندها السخرية الشعبية المصرية كما تصب مياه النيل التي تغذى وشرب منها جابر قميحة.

يتحدث دكتور جابر عن "القفشة"، وهي تعني عنده جملةً أو جملاً قصيرة سريعة خالية من الدرامية، ولكنها تعتمد على ما يمكن أن نسميه "اللعب اللغوية" التي تُثير الضحك، أو الابتسام.ويستشهد ببعض النماذج[5] نشير إلى بعض منها:

- واحد راح يقعد على القهوة قعد على شاي.

- واحد ضرب الثاني قلم، فكسر سِنه.

- واحد طلب شاي على مية بيضا، فقال له القهوجي: معندناش إلا مية سودة.

- سأل أحدهم العطار، عندك شَبَّة؟ فأجاب: لا والله دا اتجوِّزِتْ إمبارح.

- واحد ضرب الرقم القياسي في الجري.. الرقم القياسي رفع عليه قضية.

- مرة أستاذ قال لطلابه: يعيش القرد في جنوب آسيا، فهتف الطلاب: يعيش يعيش يعيش.

- واحد زرع وردة ‏طلعت له أم كلثوم

- مرة واحد راح يوكِّل محامي ‏لقاه صايم.

- واحد رمى يمين الطلاق على مراته ‏ماجاش فيها.

- واحد باع اللي وراه واللي قدامه واشترى اللي جنبه.

- واحد بلديتنا كبر دماغه معرفش يخرجها من ال"تي شِرْت".

- واحد عداه العيب أخذ اللي بعده.

-‏ مدرس رياضيات خلَّف ولدين واستنتج الثالت.

- دكتور أسنان اشترى عود قصب لقاه مسوس حشاه.

- واحدة بتقول لجوزها اطرد السواق كان حيموتني مرتين في حادثة. قال لها: خلينا نديه فرصة ثالثة.

ثم يتحدث عن فن القافية الذي يعتمد على كلمة "إشمعنى"، ويشير إلى أشهر من قدَّم هذا النوع الثنائي "سلطان والفار"، في برنامج (ساعة لقلبك) في الإذاعة المصرية – والذي ذاع صيته في فترة شباب جابر قميحة - وكان الفار نحيفًا قصيرًا، بينما كان سلطان ضخمًا طويلاً. ويستشهد دكتور جابر ببعض قافيتهم المختزنة عنده ليروي بها جذوره الساخرة[6] يسخرون فيها من التناقض الشكلي بينهما رغم أنه برنامج إذاعي لا ينقل الصورة حيث لم يكن التلفاز قد عرف بعد في مصر:

يغطوك في الشتاء يا فار

إشمعنى؟

بكرافتة.

وأنت في الشتاء يغطوك يا سلطان.

إشمعنى؟

بخيمة.

اللي يشوفوك ماشي معايا يا فار.

إشمعنى؟

يحسبوا أنك واقع مني.

يأكِّلوك يا سلطان.

إشمعنى؟

بسلطانية.

وأنت يأكلوك يا فار.

إشمعنى؟

بملقاط.

ولأن الروافد المغذية للسخرية عند جابر قميحة لا تنفصل عن جذوره العربية الإسلامية يسارع بإعادة كلمة "إشمعنى" إلى جذورها العربية فيشير إلى أن صحة كتابتها: إيش معنى؟ أي ما المعنى الذي تقصده.؟ وهذا ما يُسمَّى في اللغة العربية "النحت" وتفصيلها أي شيء تقصد.

ولأن الدكتور جابر قميحة قد تربى في مدرسة الإمام حسن البنا " مدرسة الإخوان المسلمين" فالسخرية عنده سخرية هادفة وملتزمة ويشكل هذا ضابط السخرية عند جابر قميحة فهي لا تخرج عن آداب الإسلام فضلا عن التزامها بالابتعاد عما نهى عنه. لابد وأن تكون السخرية منضبطة عند جابر قميحة فهو من كتب "صوت الإسلام في شعر حافظ إبراهيم – في صحبة المصطفى – المدخل إلى القيم الإسلامية – أسماء الله الحسنى – ذكرياتي مع دعوة الإخوان في المنزلة دقهلية -

*****

الأدب المسرحي الساخر عند جابر قميحة

ويظهر التأثير الثاني لمدرسة الإخوان المسلمين في أدب جابر قميحة في أن السخرية عنده سخرية هادفة فهو يستهدف إصلاح الدنيا بالدين حيث يقوم الأدب عنده بعملية إسقاط سياسية في نقد النظم المستبدة، ومن أعماله المسرحية الساخرة ( محكمة الهزل العليا - السيف والأدب – موت منكوس المهرج ).

ونشير هنا إلى نموذج ساخر من مسرحه الشعري حدَثَ في جمهوريةِ ظلمِسْتَان [7] والتي ضمنها خمسة عناوين ( أزهى عصر للحرية – أقسم أني فأر لا إنسان – رحلة صيد للسلطان من أبوك – وفاز ولي العهد بالجواد )

حيث يبدأ بتعريف أشخاص مسرحيته القصيرة وديكورها:

(1) أزهَى عصرٍ للحريةْ

اسم الدولة: ظلمُستانْ

حاكمها الأعلى: بهمان

هو الدستورُ

هو القانونُ

هو السلطانْ

وشعار الدولة: مشنقةٌ

تتدلى من خلف القضبانُ

وسجونٍ سودِ الجدرانْ

الناسُ جياعْ

والفقرُ الضاري في كل مكانْ

ونيوبُ الأمراض الشتَّى

تنهش نهشًا في الأبدانْ

 (في حفلٍ فخمٍ ضخمٍ ضم ألوفًا وألوفًا بمناسبة الذكرى.. ذكرى ميلادِ السلطانْ.. انطلقَ السلطان خطيبًا )

يا شعبي الغالي إنكمُو

سعداءُ بعهدِ الحريةْ..

عهدي الميمونِ المبرورْ

أزْهَى أعيادِ الحريةْ

(صاح مواطنْ):

يا سلطانْ..

خبِّرنا أينَ الحريه؟!!

(لم يلتفت السلطان لهذا المعترض السائلْ.. السلطان يواصل خطبته غيرَ العصماءْ):

مِنْ حق الفرد بدولتِنا ظلمستانْ..

ينطق.. يكتب.. ينقد مَن شاءَ، وما شاءْ

وسواءٌ عندي العِليةُ والبُسَطاءْ

(وهنا هب مواطنُ يصرخ في غضبٍ مسعورْ):

يا سلطانْ، هل تسمحُ لي بسؤالٍ واحدْ؟

(ظهر الغضبُ الوحشي على وجهِ السلطانْ):

هِيهْ.. هل تسألُ أيضًا: أينَ الحرية؟!

لا.. بل أسألُ:

أين الرجلُ السائلُ قبلي من لحظاتٍ: أينَ الحريةْ؟؟!!

ويواصل الدكتور جابر مسرحيته ويعنون "2- أقسم أني فأر لا إنسان" مشيرا إلى ما يحدث من ظلم في سلطنة ظلمستان والخوف القاتل الذي يعيشه شعبها والقبض على أعضاء "التنظيم المحظور" بيد الجبارون الأمنيون رجال "السلطان بهمان"

ويعنون "رحلة صيد للسلطان" يترجم فيها لنكتة شعبية سياسية عن فقيه السلطان إذ يخرج السلطان لصيد بري فيصيب طائرين ويخطأ الثالث فيواصل طيرانه فإذ بفقيه السلطان صاحب المنصب الديني الكبير الذي يزيف الواقع ويلوي الفتوى فيقول:

ما شاء الله يا سلطان!!!

أصبت الطائر في مقتل

لكني أشهد معجزة:

بركاتك حلت في الطائر

منحته الطاقة والقدرة

فانطلق وهو المقتول

ليواصل رحلته بأمان

ما شاء الله يا سلطان!!!

إنها نكتة شعبية مصرية غارقة في محليتها صورها جابر قميحة شعرا في أجمل صورة للنفاق السياسي. ثم يعنون " 5- وفاز ولي العهد بالجواد" في إشارة لا تخلو من إسقاط على واقعنا السياسي المصري المعاش منذ ظهرت محاولات توريث الحكم في منتصف هذا العقد الأول من ألفية الميلاد الثالثة لولي العهدِ " هبَّارْيارْ " فتى الفتيانِ ابن السلطانْ .. والذي يحبُّ الثروة والتجَّارْ.. أغنى التجارْ.. أصحابَ المالِ.. الأرض.. السلطة.. والمعمار. ويواصل جابر قميحة التبكيت والسخرية اللاذعة التي توجع أكثر من السياط في حوار السلطان مع ولي عهده الأبَّهة المختار:

(5) وفاز ولي العهد بالجواد

- يا ولدي هباريارْ

أنت وليُّ العهدِ

وإنك تعلمُ أني عشتُ نظيف اليدْ

نظيفَ القلبْ

أرفض أي هدية

رخُصت.. كانتْ

أو كانت دُرًّا ونُضارْ

عجبًا.. يا ولدي!!!

رجلٌ يُهديكَ جوادًا

لو بيع لكانَ بثمن

مائةِ ألفٍ

بالديناراتِ البَهمانية؟؟!!

(في غضب مسعور كالنار)

انطلق السلطان بموكبه

وبصحبته هباريار

متجهيْن إلى شهبندر تجار الخيل... مخيوليارْ

ارتجف الرجل من الخوف

وكاد من الرجفة ينهار).

- هل أحلم؟!

يأتيني تاجُ الوطن وسلطانُ الدنيا

وولي العهد الأعظم هباريار؟!!

- اسمع يا هذا

إنا بيتٌ لا نقبل شيئًا بالمجانْ

وابني هباريار

أعطيتَ جوادًا أشهبْ..

ولقد جئتُ أسدد ثمنهْ

- يا مولاى.. هل تأذن لي

لأقول الحق بلا كذِبٍ؟؟

في الأسبوع الماضي

استوردتُ من المهرستان

ألفَ جواد بالثمن الفوري

وعليها عشرةْ

كهدايا بالمجانْ..

لم أدفع فيها دينارًا

- حتى لو صدقتك... أسأل:

كم كلفك شحنُ الخيل؟؟

- كلفني شحنُ الواحدِ

بالدينار البهماني.. عشرةْ

- الحق يقولْ.. والعدلُ يقول: ندفعُ أجرَ الشحْنْ

(السلطان... يخرج ورقةً من ذات المائة..

ويقدمها لمخيوليار).

- يا سيدَنا الغالي.. يا سلطانْ

قلت بصدق: كلفني شحن الواحد

بالدينار البهماني.. عشرة

لا زيادة.. لا نقصانْ

فلماذا تمنحني مائة دينار؟!

- خذ منها عشرة

وترد الباقي... تسعين

- يا سيدنا الغالي.. يا سلطان

أنا لا أحمل نقدًا سائلْ

.. كيف أرد لجلالتكم باقي المائة؟!!

- لا ضيرَ إذنْ.. لا ضير إذنْ

الحق يقول... والعدل يقول:

نأخذ بالباقي من خيلك تِسْعةْ.

ماذا فعل جابر قميحة في المشاهد السابقة وفي مقطع المسرحية السابق تحديدا؟ .. إنه قد أخذ النكتة من لسان الشعب المصري وصاغها شعرا مسرحيا .. قد تذهب النكتة وتنسى بزوال شخوصها ولكن يبقى أدب جابر قميحة يبكت ويعنف ويسخر من كل بهمان و هباريار.. أخذ النكتة من لسان الشعب المصري وصاغها شعرا.. "صاحب أجانس السيارات" تحول إلى "شهبندر تجار الخيل" والسيارة "المرسيدس" تحولت إلى جواد أشهب والجنيه المصري تحول إلى دينار "بهماني" في إشارة واضحة إلى أن كل من وما في الوطن ينسب إلى الحاكم إنه الحاكم الذي يعرف أن "الكفن ليس له جيوب".. ما هذه السلاسة وما هذا الإبداع إنه يتحدث شعرا ولا يبذل أي جهد في نظمه فهو يتنفس شعرا ويفكر شعرا ويتحدث شعرا ويكتب شعرا إنه جابر قميحة الأديب السياسي الشاعر الساخر الفنان.

*****

الشعر الساخر عند جابر قميحة

ولا تفارق السخرية جابر قميحة فبعد انتهاء وليمة أقامها الأستاذ الدكتور حسين رئيس الجامعة الإسلامية بإسلام أباد لإخوانه من الأساتذة كتب الدكتور جابر عن "الملحمة الخروفية" مضمنا أسماء أساتذة الجامعة ممن حضروا الوليمة ملحمته الخروفية[8].. ثم يكتب بالعامية في إحدى نوادره بعيدا عن الفصحى بعنوان "اللحمة وأنا"[9] وكيف استجاب لرغبة الزوجة وتجرأ بالذهاب لشراء كيلو لحمة فقط من الجزار المجاور "عبده الفار" وعندما اعترض على السعر المطلوب والمخالف للمكتوب كان نصيبه "روسية في دماغه"

والمثل ما كدبش

ياميت ندامة على اللي حب ولا طالشي

لكن ندامة الندامة على اللي جاع ولا كالشي

وألف مليون ندامة عليه لما اتمنى ولا خدشي

وبعد "العلقة والروسية" والمستشفى تعدل الزوجة أقوالها

قالت قطيعة تقطع اللحمة

واللي بياكلوها

دي اللحم قالو تجيب "الكرستون"

والدبحة والأزمة

قلت لها: والعدس؟

قالت لي: كله فوايد

قلت: هيه ... والبصارة؟

قالت لي: آه .. كلها فيتامين

وما أن يقرأ جابر قميحة خبرا أو يعايش حدثا حتى يجري قلمه شعرا وسخرية فلقد تعرض الدكتور مصطفى الفقي رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشعب وآخرين لسرقة أحذيتهم بعد صلاة الجمعة بأحد مساجد دمنهور والتي حضرها معه بعض القيادات السياسية والدينية فنظم الدكتور جابر قصيدة على لسان صاحب الحذاء المفقود بدأها وختمها كما يلي:

"مصطفى الفقي يرثي حذاءه المسروق"

سرقوك يا أرقى حذاء                 لأعيش بعدك في شقاء

أبكيك يا أغلى الحبا           يب بالدموع بل الدماء

وتكاد نفسي تفتدي           ك فأنت أهل للفداء

................

سأعيش في ذكراه من               باب المحبة والوفاء

وأعيش أرثيني فإن          ني منه أولى بالرثاء

ويهدي قصيدة "الهابطون والصاعدون" ( إلى السادة الكبار.. الهابطين الساقطين.. الذين هانوا.. واستسلموا.. وباعوا.. وسلموا.. فما ربحت تجارتهم.. وما كانوا مهتدين، وإلى الأبطال الصامدين الصاعدين الذين باعوا أنفسهم لله في فلسطين وجنوب لبنان )[10] إنها المقابلة التي تثير السخرية والتبكيت والإحساس بجهاد الصامدين.. كل هذا في آن واحد.

     ونلمس السخرية في عناوين أعمال الدكتور جابر قميحة معلنة عن مضمونها الساخر ( زيارة فوق العادة للخيول العربية – ملحمة الخفافيش والعميان – وقال الحاظر المفتري للمحظور المظلوم – النمرة غلط – درس خاص في الجغرافيا – في سوق العجائب العربية – أبانا الجزار الملك – المنسف الغالي في البيت العالي – الضرير والكنز – موتوا بغيظكم – البطل الزائف – سيد قراره – الراقصة فوق القانون – وسقط سلطان السلاطين – يا أمة ضحكت – وختامه حذاء – إعلان مدفوع الأجر.. أوكازيون الدم الفلسطيني – المقامة الخروفية – المقامة الزبيبية )[11]

*****

المقال الساخر عند جابر قميحة

     والسخرية عند الأستاذ الدكتور جابر قميحة ليست في المسرح أو الشعر فقط بل في المقال أيضا.. ولنعرض هنا لعناوين بعض المقالات ومضامينها: "حوار أدبي مع رأس كبير جدًّا[12]" يسخر فيه من مدعي الثقافة من الرؤوس الكبيرة التي تهيمن على الساحة الثقافية.. ويختتم حواره مع الرأس الكبير بقوله ( وغادرت قصر الرأس الكبير جدًّا، وأنا أحمد الله سبحانه وتعالى إذ مكنني من الظفر بأغرب تحقيق مع هذا الرأس الكبير، جدًّا، جدًّا، مع ملاحظة أنني سجلت حرفيًّا كل ما نطق به، وكله بالعامية. ورحم الله عمنا سيبويه).

     ونعرض لمقال آخر " الحزب المنفوش وشعاراته المضروبة [13]"يكتب فيه : وما يسمونه شعارات تأتي في ترتيبها الزمني على النسق الأتي ( فكر جديد - العبور الأول - العبور الثاني - مصر بتتقدم بينا - وأخيرا : من أجلك أنت ) . وكتبنا عن الشعار الرابع: ".. والناس جميعا يسألون : من ذلك العبقري الذي وضع شعار " مصر بتتقدم بينا " ( !!!!! ) ؟ وهل ضاقت اللغة العربية عن وضع " بنا " بدلا من "بينا" . ثم إن هذا الشعار حكم على نفسه ، أو حكم عليه واضعه بالمحلية الضيقة ، وهي لهجة القاهرة وشمال الدلتا ؛ لأن الصعايدة لا يستعملون كلمة "بينا " هذه " . وأعتذر للقارئ ؛ لأنني استعملت كلمة " بيكم " بدلا من كلمة " بكم " ، وما ذلك إلا مسايرة لجو العامية العشوائية غير الفصحى للشعار المضروب " مصر بتتقدم بينا " ويختتم دكتور جابر مقاله بقوله " وكيف نسي أو تناسى نشامى الحزب الوطني الكوارث التي وقعت في مصر .. بل: مصرُ بتِتْأخر بِيكُمْ

     وفي مقال آخر بعنوان "خبْط ... لزْق" يعرض دكتور جابر قميحة لأربعة عناوين فرعية ( انتخابيات – كويزيات - ماسورة مدينة نصر )[14] ويستخدم النكتة كعادته في التكيت والتبكيت:

* واحد من الحزب إياه رشح نفسه ما نزلشي منه حاجة.

* عضو في المجلس عن الحزب إياه طعن نواب المعارضة في عضويته بأنه أمي لا يعرف القراءة والكتابة.. شكلت له لجنة امتحان, طلع ترتيبه الأخير.

* في الاختبار الشفوي سأل المدرس تلميذه: قل لي يا حصاوي: حصانة يعني إيه؟ فأجابه: حصانة طبعا مؤنث حصان.

* ذهب إلي اللجنة للإدلاء بصوته, فرأي التزوير عيني عينك فصرخ: يا ناس حرام عليكم.. والله حرام...وغادر اللجنة... ولكن.. في «صندوق».

وفي نفس المقال وتحت عنوان فرعي " كويزيات " يكتب الدكتور جابر:

قضي الأمر وعقدت ووقعت ووفقت اتفاقية الكويز وأنوف شعبنا في الرغام وصورت على أنها الإنقاذ السماوي» للاقتصاد المصري, وللمصانع المصرية, وبها يقضي علي البطالة, وبها سيأكل شعبنا بغاشة وجاتوه وكل اللي يحبوه, ويغني الجميع اسح الدح امبو».

ومن عجب أنها لم تعرض علي مجلس الشعب لأنها -كما قال العباقرة بتوعنا- «بروتوكول» لا اتفاقية..

* قطع الزوج النفقة عن زوجته المطلقة فسأله القاضي: لماذا قطعت النفقة التي اتفقت «مع زوجتك علي دفعها شهريًا»؟ فأجابه: يا بيه هذه مسألة لا تناقش لأنها لم تكن «اتفاقًا» ولكن «بروتوكول».

* طالب عضو بارز في الحزب «إياه» بنشر وترسيخ «الثقافة الكويزية» باتخاذ الخطوات الآتية:

1- إطلاق اسم «الكويز» علي الشركات الكبري وغيرها كما كان الحال في كلمة «نصر». ومن الأمثلة المقترحة: مدينة الكويز للشباب - شركة الكويز لإنتاج الهواء المعلّب - شركة الكويز لإنتاج صناديق الانتخابات السحرية... إلخ.

2- جعل «الكويز» مادة دراسية في المراحل التعليمية الثلاث.

3- إنشاء مجمع للغة الكويزية لمواجهة الرجعيين والظلاميين من دعاة اللغة العربية وأنصارها. وتكون الخطوة الأولي التي يتخذها هذا المجمع استبدال حرف «الزاي» بحرف «السين» وحرف الكاف بحرف الجيم ومن الأمثلة الشارحة:

- مصلحة الكوازات والهكرة (بدل الجوازات والهجرة).

- لجنة الزيازات بالحزب الوطن, مجلز الشعب, الممثل زمير صبري, النهوض بالزينما والمزٍرح.

- رئيز الوزراء, ووزير الخاركية, كلية الزيازة والاقتصاد... إلخ.

(أشّر رئيز المكٍلز علي هذه الاقتراحات بالعبارة الآتية):

اقتراحات زليمة وواعية وكويّزة جدًا.

توقيع: زيًّد قراره المرحرح

وفي نفس المقال وتحت عنوان فرعي "ماسورة مدينة نصر" يكتب الدكتور جابر:

الأمر لله.. انفجرت الماسورة الأم التي تغذي مدينة نصر بالمياه العذبة وعاش عشرات الألوف من المواطنين في هم وغم و«جفاف».. وأصبحت السيادة «للجرادل» والجراكن والحلل, ورأينا شيوخا ومرضي يحملون «الفوارغ» ليملأوها بالماء من أماكن بعيدة... والناس يضحون.. ويسمعون كلمات «التصبير» وموت يا عطشان لما تجيلك المية ولو من تحت تبن.. والمسألة تنتهي كالعادة بالعبارة المشهورة: معلهش النوبة دي.. علشان خاطري.

ثم يضيف بعض التعليقات

* يقال إن هذه الماسورة لم يعجبها النظام الحالي, فتميزت غيظا, وقامت بعملية انتحارية.

* وقال آخرون إنها كانت عضوا في تنظيم القاعدة ففجرت نفسها «بالأمر».

* جلس أحدهم في أحد مقاهي مدينة نصر ونادي: يا رسونا ديني واحد «مية بيضا» وصلحه.

* بين مسطولين دار الحوار الآتي:

- هي الماسورة الأم دي متجوزة بقالها كام سنة؟

- معرفش.. متيجي نسأل في السجل المدني.

.* حتي لا تهيج مشاعر الناس صدرت قرارات أمنية أهمها:

- مصادرة كل أشرطة الكاسيت المسجل عليها الأغاني الآتية: المية والهوا ل«ليلي مراد»- المية تروي العطشان, والنهر الخالد ل«عبد الوهاب»- السح الدح امبو ل«أحمد عدوية»- وأغنية «الطشت قاللي...» للمطربة «عايدة الشاعر»- «أغنية «بين شطين ومية...» للمطرب «محمد قنديل» .

- منع الجزارين من بيع «المواسير».

.* بعد انفجار الماسورة وتأخر إصلاحها قامت مظاهرة في مدينة نصر تهتف: عطشانين.. عاوزين مية. فخطب فيهم مسئول كبير: ما هذا الغباء؟! متشربوا مياه غازية أو شربات!!

.* اقترح بعضهم أن يكون شعار مدينة نصر «القربة والجردل» وهنا تسوية بين الجنسين. لا يغضب الجنس اللطيف.

.* اقترح مسئول كبير في وزارة الثقافة أن تقام مقبرة لبقايا الماسورة المنفجرة عليها نصب تذكاري مكتوب عليه «هنا يرقد رفات الشهيدة الغالية ماسورة مياه مدينة نصر. انفجرت في عهد الدكتور «نظيف» العظيم وفي ظل «قانون الطوارئ».

*****

جابر قميحة الودود الإنسان

     وإذا كان الأستاذ الدكتور جابر قميحة يستخدم السخرية تبكيتا للطواغيت من المستبدين والمفسدين والظالمين فإنه يستخدم النكتة والسخرية مع أصدقائه ومريديه وأختم الدراسة بتحية أخيرة تبادلتها معه عبر الهاتف في مكالمة أخيرة معه

* سلام الله عليكم أستاذنا الدكتور جابر

- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.. حياك الله وبياك.. وجعلك من كبار الملاك.. وأهلك عداك.. ونحن دائما وياك

* وإحنا اخترناك وبايعناك ومشينا وراك

- طب هات بقى القرشين اللي معاك

بهذه الروح المرحة يلقى الأستاذ الدكتور جابر قميحة أصدقائه ومريديه.. جابر قميحة الشاعر والناقد والأديب السياسي الساخر .. إنه نبت هذه الأرض .. مصر المرزوءة بالمحن ولكنها أبدا بسخريتها اللاذعة أكبر من المحن وأكبر من جلاديها.. هذه هي مصر وهذا هو جابر قميحة يشهر قلمه المسنون سيفا مسلولا في وجه الطغاة والمستبدين والفاسدين ساخرا منهم ف "شر البلية ما يضحك" وأكثر سخرية الدكتور جابر في مصر وممن يحكم مصر ف "كم ذا بمصر من المضحكات ولكنه ضحك كالبكا".. متع الله أستاذنا وأهله بالصحة والعافية وجعل سائر عمله خالصا لوجه الله وفي ميزان حسناته.

                

[1] كنت أود أن أقدم مداخلة بنفس هذا العنوان في احتفالية تكريم الأستاذ الدكتور جابر قميحة والتي نظمها المركز العربي للإعلام مساء الثلاثاء 13 إبريل 2010 ولما لم يسمح الوقت شرفت بإعداد هذه الدراسة في حدود ما تسمح به صفحات هذا الكتاب

[2] الدكتور جابر قميحة، "النكتة.. أدب وفن وإبداع" ، موقع إخوان أون لاين – قضايا ثقافية - السبت 14 ديسمبر 2009                 http://www.ikhwanonline.com/Article.asp?ArtID=57782&SecID=290

[3] المرجع السابق

[4] المرجع السابق

[5] المرجع السابق

[6] المرجع السابق

[7] مجموعة الأعمال الشعرية والمسرحية الكاملة للدكتور جابر قميحة – مركز الإعلام العربي – الطبعة الأولى 2010- "حدَثَ في جمهوريةِ ظلمِسْتَان" – الجزء الثاني – صفحة 1095- 1112

[8] د. جابر قميحة - المرجع السابق – صفحة 1113- 1115

[9] د. جابر قميحة - المرجع السابق – صفحة 1116- 1121

[10] مجموعة الأعمال الشعرية والمسرحية الكاملة للدكتور جابر قميحة – مركز الإعلام العربي – الطبعة الأولى 2010- "الهابطون والصاعدون" – الجزء الأول – صفحة 415- 421

[11] المرجع السابق – الجزء الثالث - المحتويات

[12] د. جابر قميحة - موقع إخوان أون لاين – http://www.ikhwanonline.com/Article.asp?ArtID=50383&SecID=440

[14] د. جابر قميحة – رابطة أدباء الشام – "خبط لزق" – أغسطس 2009 - http://www.odabasham.net/show.php?sid=28457