ثالوث وتعويذة للكاتبة العمانية "زوينة الكلباني"

بين الطقس الثابت والمتحرك حول روايتها:

ثالوث وتعويذة للكاتبة العمانية "زوينة الكلباني"

د. خليل حسونة

الرواية أبرز فنون الأدب؛ كما يري البعض كونها حسب "فوستر"

تعرض علينا الحياة التي تعطينا الرؤية ؛ وهي كسائر الخطابات الحكائية ببنية لغوية سردية دالة تشكل عالما ذا كينونة خاصة تتلون فيه الأمكنة والأرفقة والشخصيات الرتئسية الأحدث والحوارات

هذا العالم الذي يبلور الواقع الموضوعي الاجتماعي التاريخي لايعني  مفهوم الحدس الجاهز إنما تلاحم الروائي المتخيل بالتجربة الحياتية المعيشة الاتية واللاحقة . كونها القادرة علي إيجاد حالة التعارض بين الواية كفعل بصرف فيزيائي وبينها كتبصر تاملي وعبر خلخة الحواس طلبا للوصول الي المجهول المحبب حيث الحياة الحقه أكثر بعداٌ . إذ ينزع المبدع حواسه من قيوداٌ العقل معيدا إكتشاف كلمات القبيلة /المرأة/ بعض العادات المرتبطة بالغيبات / رؤاها وطقوسها . بهدف الوصول إلي كيمياء العبارة . والفكرة المراودة عبر استحضار ظروف الحدث . هذا الشكل البنائي للرواية /أية رواية/ لايكتفي بواقعة ما أو شخصية محورية يمحنها النمو الموضوعي العضوي إنما يخلل أحداثا متباينة وشخصيات متناقضة عبر زمانين متداخلين ..

الأول : يتموضع في الزمن الروائي الذي نستشفه من ثنايا السرد .

الثاني : في الزمن النفسي للشخصيات المركزية بواسطة حضورها الفعلي ويداخل فيه الكاتب بين الزمنين / زمن القص  وهو الحاضر الروائي / والزمن الوقائعي  وهو الماضي الحقيقي بين هذين الزمنين ، يخوض في تفاصيل الحالات بالعين الحيادية .

في إطار مد الجسور التأسيسية لهذا الخطاب الأدبي المميز ، تأتي تجربة الكاتبة العمانية "زوينة الكلباني " الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، يروث،ط1 2011م . والموسوعة ب [ثالوث وتعويذة ] متوافقة علي الكينوني ،  / حولتها هي نفسها إلي رؤي شاملة /سياسية /إجتماعية /حكوتية/معرفية / أكدت النجاح لهذه التجربة العارفة والعارمة ، وأعطتها ماتريد وهو ماتلمسناه منذ البداية . حيث الخوف الذي بلور واحتوي كل هذه الرؤي والذي وضعها بين خيارين لاثالث لهما : الجنون أو الموت .

" إن الخوف الذي تخندق في أعماقي جعلني أرجوحة لاتستقر أبدا ، وجل ما اخشاه ان يمضي بي إلي طريقين لاثالث لهما : الجنون أو الموت" ص 26

وإذا كانت الرواية تحتوي علي مفهوم العلاقة بين الاشخاص والمجتمع وهي علاقة تقيس درجة حرارة المجتمع . وتتبع جميع المغريات التي تثيرها الظروف ، حيث استحضار الدهشة القائمة علي إبراز المتضادين : الوعي الخاطئ وذلك الممكن . وهي بذلك تعانق فلسفة التاريخ كمغامرة إنسانية ناضجة لاتسقط في لعبة الماضوية  ولكنها تنزع إلي الارثواء المعرفي ، الذي لابد منه . والذي يتصادم مع التقليدي والدوغماتي المقولب الذي عفي عليه الزمن .

" وتفسير عمن أن هناك سحراً يحول بينهما ، وتتيقن جواهر من ذلك . فهكذا نحن البشر ، عندما لانجد مبرراً وجيهاً لتصرفات أحبتنا الاعزاء وصقافتهم لغزها لقوي خارجية تتحكم بهم وتسل إرادتهم ،" ص58

" ووجدت نفسي للمرة المليون بلا شعور ، غارقة حتي النخاع في العد ، أحصي كل ما تقع عليه عيناي البنايات ، الأشجار ، المصابيح ،اللافتات حتي الخطوط البيضاء المتقطعة التي تغطي أرضية الشارع . إنتهيت للنهائي في العد ، تباً لهذه العادة الغريبة التي لا أجد لها تفسيراً " ص28/29

هنا حالة تصادم ،قلق ووحشة تحدث في كل الزوايا ، ورغم هذا تنطوي علي إرادة صبورة مفكرة ،وفكهة ،وغير ممتلئة التي رغم كابوسيتها تفصح عن ترسيم خطاب الأنا، لإثارة المعرفة بكل جوانبها : الإختلاف والتماثل ، حيث صار الموت مهراُ يهرول في روحها ، ويتطاير في رئتيها كالغبار ، ورغم ذلك ظلت تفكر فيه

"لقد عرفت ركام الموت مبكراً ، عندما كان عمرها ثلاث سنوات / فما تزال رائحته زحمة في أنفاس مضفورة ثلاث اكفان معلقة في ذاكرتي " ص46

الوعاء اللغوي

دهشة الجمال وجمال الدهشة ..

إن أكثر مايسم هذه الرواية ، اللغة الصافية السلسة ، التي تحلق فيها الكاتبة بأسلوب سهل ممتع ، كالرومانسيين في فضاء الخيال لتشد القارئ ، وتجعله مرتبطاً بالمكونات الروائية زماناً ، ومكاناً وأحداثاً ،وشخصيات . وكل ذلك من اجل كشف حالة الذات المحملة بوهج العاطفة المتدفقة بلا حدود .

"أغمضت عيني ،وبداخلي حنين إلي سعادة مجهولة ،أضم ذراعي علي حلم اللذة أحلق كفراشة في فضاءات كونية لامتناهية ، روحي تتحرر من أثقالها ، وتتهادي كنسمة شوق في لجة نيرفانية " ص88

"مع سعود صارت كل لحظاتي استثنائية ،أرافقة في كل خطواته وأشاركه أدق تفاصيله ، رذاذ رسائله تقطر صباحاتي ، وتعيد إلي توازني ، وتجمع شتات نهاري "[ص95].

هذان نصان مفعمان بالجمال ، عبر كل منهما مفاوز كثيرة ،وبعيدة، وإن بدا قريبا من البوح العاطفي بفعل الاستطراد، كما ان له إرتدادات فنية محكمة ، ورؤية سلكت فبها الكاتبة خطي الكتاب العرب المؤسسين التي اختلفت معهم في إضاءات الاسم دون العمص والتحليل لبنية النص واطلاق تشظياته . ماجعل القارئ منبهراً بالنص . مايؤكد أن زوينة الكلباني الكاتبة تمتلك الأداة الروائية بكل إقتدار وتميز ، الأمر الذي جعل من عملها هذا رواية رائدة في مجالها حيث طرقت موضوعاً غرائبياً ، ودخلت عالماً لم يسبقها أحد في تناوله . كانت لغتها السلسة المنسابة خير رسول له . ماساعدها علي امتلاك الجرأة الكاملة للدخول إلي أحداث وكيانات تكاد تكون مجهولة تماماً وتتعمق في تفاصيل قصة إنسانية ثرية بالتفاصيل المؤثرة ، المبتدعة وكأنها حقيقية ، مايعيد إلي الذاكرة العشق الأخيلي /ليلي / والموت /اغتيال "توبة" / لقد استحضرت ذلك بشكل غير مباشر . فصارت تبحث عن الموت ممثلاً في "القرين ، وهو موضوع ميلودرامي ، مصير مازال يتلبس مجتمعها التقليدي . وللتخلص من ذلك استبطنت الحالة النفسية لشريحة النساء العمانيات خالتها مريم /التي تجاهل عمها /زوجها /أنوتصها " [ص103]

كللت كل ذلك بالتطرق للعادات والتقاليد مبرزة حنكة وحكمة جدتها [47/48] والمذاق الفلسفي حيث رسالة أفلاطون السابعة عن فن الإصغاء[ص53]  والرؤية الفلسفية لنيرفاثا الطقوسية البوزية [ص88] ناهيك عن الشعر النزاري الوقف ضد الرؤية التقليدية ضد المرأة

 " كم بكيت حينما وجدت "أميرة" ابنة عمي شقت البوسترال نصفين لأن والدها أخبرها بأن المرء مع من أحب  ومن يستمع إلي الأغاني يصهر في أذنيه المدن والتماس يوم القيامة ،يومها بكيت كما لم أبك في حياتي "[ ص34/]

" لعدة ثوان رأيت الأشخاص الذين أعرفهم جميعاُ ، حتي أولئك الين رأيتهم فقط مرة أو مرتين طوال عمري ،وبعدها انسلت روحي من جسدي ، عبرت سدماً ومبحرات بعيدة . هناك التقت بروح سعود ، وعانقتها في ذلك العالم السديمي الاخاذ " [ص72/]

" مالحياة إلا قصص قصيرة يا"نورة" لشخصيات وأحداث يجمعها مكان وزمان واحد ، تصب بعد ذلك في روايات طويلة ." [ص78]

كل ذلك مسطور بالوعي والإدراك الميثولوجي / الإسطوري / حيث استحضرث أسطورة "لورالاي" التي كانت تضلل كل من يعبر النهر [ص164/165]

ناهيك عن تقوية رؤيتها بطرحالعادات والتقاليد ،واللهجة المحكية ،والزي الشعبي . فهي عبر كل ذلك تحاور الموت باقتدار نوباقتدار أكثر تعانق الحب النظيف عبر إسناد البطولة للمكان وللرواية نفسها . إذ نجحت في تصوير حالة ماتبسة من شخصية الإنسان /حيث/ المرأة ، المحبة ، الغيورة ، التقليدية / ثم العاشق المعشوق "سعود"

"يا .. اَه يا "سعود" لقد ضيعت الكثير ، فقدك يوهنني وخسارتي فيك لاتعادلها خسارة ن لقد ذهبت سريعاً ،وفي غفلة من حساباتي "[ص169]

من جانب اَخر أعطت الشخوص /أميرة /فاطمة / الجدة/ ظلال علوان/نورة/ حياة مجسدة علي نحو مقنع ، إذ لايمكن نسيان هؤلاء . وهي شخصيات نسائية ظريفة وخصبة ، تحدصت عنها الكتابة ،بأسلوب اَخاذ ، وترانا عبرها وبها بطريقة جميلة وصامتة ، مزجت الرقة بالخشونة نقلتنا من أمكنة إلي اخري /الضنك/ الكنسية / الصحراء/. تشعرك أثناء قراءاتها أن الكاتبة لم تكتب روايتها بالحبر الأزرق بل كتبتها بدم القلب . المتجه نحو الحب ، الحلم والأمل والبعد عن القلق والضياع يؤكد ذلك إهدائها إلي أبنائها .

صخب الواقع

الوعي الخاطئ والوعي الممكن..

يعد المكان من أهم المحاور الروائية المؤثرة في إبراز الكاتب ،وتحليل شخصياته لنفسه ،لأن إدراك الإنسان للمكان مباشر وحي . وصراعه معد ماهو إلا تأكيد لذاته ، وتأصيل لهويته. فبقدر إحساس الإنسان بالمكان . تكمن أهمية وجوده . لذا أخذ هذا العمل من الواقع المكاني رائحته ، لكنه وضع نصب عينيه مهمة تحقيق الشروط الفنية لخلق بنية فنية معاصرة لاتراجع عنها .

" رجعنا إلي "ضنك" بصلاصة نعوش تفوح فيها رائحة واحدة هي رائحة الموت ، يومها انقلبت "ضنك" رأساُ علي عقب ، واتشحت بلون السواد ، نظرت الهلع والبؤس والاستنكار مرتسمة علي الوجوه ، ورقم صلاصة ولقطة الموت متحدتين علي الشفة أينما ألوذ، كانت تصل إلي مسامعي هاَتان المغردتان [ماتوا الثلاثة] ، [ثلاثتهم ماتوا ].. مغردة الموت ، وماتقذفه في النفوس من زحشة وعتمة ، واسم ثلاثة الذي أصبح يكبر داخلي بفلول المعزين " [ص47]

صوت الإنسان هناصاروخا رافضاً مستسلماً / وغير مستسلم للمصادفات الغريبة التي قد تتلاعب به ،لتنقله في نهاية الأمر من خانة ماهو مضاد إلي حيث يتلقي الصدمات المباغتة . إنها نهاية باذخة الألم لمأساة عاشتها الكاتبة ، وتعايشها أخيال متعاقبة لم تزل تعاني . ولأن كل شئ يكون واقعيا في حدود زمانه ومكانه ، وظروفه الخاصة ، وغير واقعي خارج حدود زمانه ومكانه أيضاً ، وعبر معطيات قليلة أو طريقة الحديث كلها يتبين لنا بدون إلتباس أين نحن؟؟!

وبذكر المكان الإجتماعي ، يتم أيضاً تحديد المضمون الإجتماعي . وتهيئه أرضيته مايجعل بيئة الرؤية مألوفة للقارئ . فهي  بعناصر تجربة الكاتب ولبيئته الإجتماعية الخاصة ، وهي وعي بالشئ المعالج ، ونحن نعتقد أن كل وعي لشئ ما، هو نمو الوعي ، لكن سرعة وخاطفية ذلك تحجب عنا نموه .أن الوعي تشكل معامر لصيرورة نفسية نشيطة صيرورة تنشر عافيتها في كل الأقنعة ، والقنوات النفسانية وتخلق جدل الأسئلة .

" الأسئلة المقموعة والأستفهالات المكبوتة حول نشات الخلق والخالق والقضار والقدر،وعصمة الانبياء تتطاول في داخلي صقافتها الماردة كاشباح في متاهة "[ص53]

" لم تشفي حرقة الأسئلة المشتعلة بضراوة في داخلي  إذا كان هناك قضاء وقدر فلما وجد العقاب "[ص53]

هنا ملمح بارز للبحص عن الذات ، وأيضاً عن الاَخر / نورةسعود/العم  الخالة/ في محاولة واضحة لتسجيل موقف أخلاقي . ذلك الموقف الخلاق والرؤيا الإجتماعية من الحياة الواقعية والغيبية ، بصورة شجاعة . والتي قد تبدو داخل النص الإبداعي فردية وممددة .لكنها في نفس الوقت حالة بائنة من التوحد الجمعي اللامع بزجاجة الكريستالية البراقة .

إنها تدخل في خفايا النفس البشرية للمرأة إذا نجمت الرواية في عملية الإسقاط بين مامثله الماضي ومايمثله الصراع اليوم بين صقافات تتوتجه علي مسرح الحياة / وعبر الحضارة العالمية الراهنة . هكذا استلمت كاتبتنا بوعيها الثقافي التميز الرؤية الشكييرية في مسرحية "ماكبث" التي ترتبط بالعدد المشئوم "ثلاثة" حيث جادفها

فالساحرات ثلاثة ، ول "هيكاثة" الساحرة ثلاثة أسماء ، ول "ماكبث" ثلاثة ألقاب ،وقيل إن "ماكبث" عندما قتل الملك ،إنما اقترف ثلاث جرائم مرة واحدة..

أولاً :لأنه ضيفه ، ثانياً : لأنه ابن عمه ، ثالثاً : لأنه الملك ..

يقول "لزلي "1"فيدلر" الرقم [4] هو رقم التعويذة السحرية ، لان المرأة صورت منذ البداية علي أنها ثالوث بالنسبة الي رجل .

أولاً: حبلت منه ،، ثانياً: احتضنته بالحب ، وأخيراً كفنته عندما مات"

[وليم شكسبير ، ماكيث ، ت : صلاح نيازي بيروت 2000 ص312]

حاملة ثقافة ثالوثية فرضت نفسها علي ذهن الكاتبة بقوة .

 "قضيت عمرك يانورة تلعنين رقما مقدساً تفضي الي الحكمة والتفاؤل أين تذهين من السماء ومن الاَلهة . لو عرف ذلك رهبان الهنود لأعدو لك محرقة بحجم لعناتك التي مازلت تكبلينها لرقم [3] ثالوثهم /القدس  " [ص127]

" عندما ذهبت إالي المدرسة ، وبدأت في تعلم الكتابة أدركت أن هذا الرقم يحمل مخالب ثلاثة تلك المخالب التي إنقضت علي أبي وأمي وأخي ، فتمردت عليه ، ورفضت أن أتبت وجوده في دفتري حتي لا أشوهه" [ص47]

مالاشك فيه أن أمثال هذه الروائع تثير الكتير من الإشكالات ، حول مصداقية الدرس الإجتماعي والوجودي الذي تطرحه ن والذي تعلمناه ، إنها مزج اة والتاريخ بالخراف والإيديولوجيا . تطرح الرواية /الكاتبة هنا أسئلة لاتجرؤ علي البوح بها في الجلسات الخاصة وكأن لسان حالها يؤكد أنها السبب في كل ماحدث ..

"عبارة واحدة إستقرت علي شفتي ، أنني السبب، أنني السبب ،شعور بالذنب إستحال عقدة في داخلي ،أحمل جرم "أوديب" وكل يوم بالنسية لي انتحار جديد ، ورحلة تطول وتقصر مع عذابات تأنيب الضمير .. ، شعرة واحدة تفصلني عن الجنون[ص168/167]

حالة الكاتبة النفسية في إجترارها لذكريات مضت ،ذكريات أنوية/اجتماعية شاملة ، تمس أوتار قلبها بحيث تجعل عملها أشبه بسيرة حياة ذاتية تصهرها في التوحد الجمعي لشريحة كبيرة من النساء [الغربة /الريف/المدينة/الايديولوجيا الدينية /الحفاظ علي الأصالة ] بما يعني أن الكتابة في تعيينها لغة ،هي المحاولة الصادقة لتملك الواقع التاريخي /التجربة .فالحياة تداخل بين السلبي والإيجابي / الربح والخسارة ، كما يؤكد هذا العمل .

"نورة الحياة بلا خسارات ، لاطعم لها ،،تجلدي " [ص169]

هنا صورة من السلاسة إنسكبت لتعطي الملتقي شحنة ذهنية متحفزة للاستقصاب ،وهو مايلتقي مع رأي "فشر" في [ أهمية الفن كضرورة للفهم ] . وللهروب من التغريب ، إذ وضح "هيجل " [ أن بداية تغريب الإنسان تبدأ من بداية انفصاله عن الطبيعة ] وهنا في حالة الكاتبة عن واقعها المحيط عن العمل والانتاج ،وعلي قاعدة جلد الذات ،لذا نجدها تواجه نفسها كشخص غريب ..

رغم أن الرواية / البطلة /الكاتبة /نورا] تراقب / تشاهد /تتفاعل وتنفعل /تتقدم الفعل  ثم تقف عند مشارفه ولا تفعل ،هي فقط تتعذب  وتحترق . وربما    يعود هذا الاجحام لعامل الخوف فهل يعني أن وعيها لم يتضح بعد !؟

"حان وقت الوفاء ،بوعد قطعته علي نفسي ألا وهو ،الكتابة ، كتابة قصتي مع مسعود  إنه مشروعي المؤجل بل حلمي  وهاجسي الأوحد ،لم أتوقع أن تعانقني الكتابة بالموت ، موت مسعود لايعادله موت ولايضاهيه مأساة  كان رهاني العظيم علي الحياة وبرحيله خسرت كل رهاناتي " [ص 175]

هكذا يصبح الفن الحقيقي هو ذلك الذي يمكن الإنسان من فهم الواقع ، بل ويزيد تصميمه علي جعل الواقع أكثر إنسانية وجدارة ، الفنان الممتلئ النفس بأفكار عصره ، وتجاربه  يطمح لتفسير الواقع بل ، وإلي تشكيله إذ أن الفنان يلتزم موقفاً سيكولوجيا يدفعه للتمرد علي حالة السكون المتناقضة مع الثورة الإجتماعية ،لتشكل حالة هدم متساوية لكل ماهو غير مرغوب فيه ....

التطهير عبر جلد الذات الإجتجاجي :

إن الوعي بالإبداع إمكانية تلازم العملية المعقدة له ، فهي تنمو في غياب أو ذهول بل بإرادة واعية مسبقة مليئة بالشحنات النفسية ، والتراتبات الإجتماعية التي يتم بها الوعي . فهو يخرج من الذات  ويعطي للذات  وهو أمر يحدث عكسه عند صاحب الوعي ، كونه يأخد من الذات ليعطي المجتمع ،و بالتالي يضع العادات والتقاليد علي المحك .

" فما أكثرها عادات تفيدنا في جميع الأحوال تجعلنا من المهد إلي اللحد نتمرد عليها  ثم ننفذ أحكامها مرغمني "[ص130]

ورغم ان الخيال اليائس يخلق قصته يائسة ، إلا أن تمرد الرواية وان كان بشكل مبطئ  أورده جدل الأسئلة يتنافي مع ذلك .، فالماضي والحاضر ، وحتي المستقبل عند الكاتبة أشكال فكرية عانقت التأزم النفسي عند الكاتبة /تأزم حاد يستحوذ عليها / علي كل كيانها / لأنه كفعل ثابت يغسل أدران النفس وحتي المجتمع . هكذا باتت تتسائل :

" هل تعذبت النفس والأقدام علي الموت لتخليصها وتطهيرها أم هو كون من ألوان التخبط في البحث عن الذات ، المعتورة أو الضالة ؟؟ أفكاري تلهث في فضاءات الوحشة ، وتسبيحة الحياة ، ورعب مواجهته ،فالقلق من الموت  موت قبل الموت " [ص83]

التطهر بواسطة الفن يعتبر مجرد إحتراق ذاتي موازي للتأثر ، فهو حالة ذهنية أكثر تعقيداً وثباتاً ، يندغم فيها الإحساس بالخسارة الفادحة باحساس مسبق باكتشاف قيم هائلة . إنه اليقين المفاجئ ، لهذا الاكتشاف في وضعية معاناة  ويأس هي أعظم حوافز الإبداع وتسمو هذه الحالة بالإنسان إذ يتخلي عن ذاتيته ، ويعيش للقيم السامية [الوفاء /العدل /الحرية] ، وبذلك يبلغ الفنان درجة الأبداع الفني في هذه الروايه التي انتقلت بها الكاتبة من التطهير الجسدي / عدم مجاسدة سهود قبل الزواج ..

"حاولت أن أقنع نفسي أن مشاعري تجاه سعود ماهي إلا أوهام . وأنني أكبر من التصرف كمراهقه"[ص34]

الي التطهر الروحي حيث الوفاء لذاكراه وأيضاً التخلث من أدران "الثالوث" القاتل .

"في عالم الوعي بادكتور اجتمعت بذلك الثالوث المرعب الذي سكنني عمراً ،وجدت حياتي جحيماً ، لقد تطهرت من أدرانه وتخففت روحي من أفعاله "[ص72]

إنه الوجع الذي بدأ معها منذ أن حاول "سعود" بكلماته دغدغة روحها ، واطلاق حكاياته عن الموت /الضياع /الغياب حيث كانت تلك الأمور تروق لها  وكأن هناك رؤية مشتركة بينهما

"فمضي يبعثر علي مسامعي مفردات الموت والحزن ،الألم والغربة والضياع يدغدغ بها روحي  بي ولع لقصص الوجع وسعود رجل يجسد قراءة الموت وتعرية المواجع "[ص37]

خاتمة

لقد أكدت هذه الرواية أنها لاتعرف سبيلا إلي المراوغة مع الواقع إنها تقدمه بكل ماينطوي عليه من ألم .دون تقليص للحقيقة ، وباتساع مفجع . الكاتبة هنا تبدع لنفسها ولغيرها ، هي في حالة توحد جمعي منذ البداية إلي النهاية وكأن مايخصها وحدها يخصها نحن كذلك .. معادلة إستطاعت بلوغ مستوي رفيعاً من الإستقصاء للواقع والفرد ، مايؤكد أن الفن إذا  كان هو ساحرنا الخبير بالشقاء فإن مايدلنا علي خبرته وطاقاته المدهشة ، هو حرماننا من تجربة الشقاء بأنفسنا واستدالها بتجربة المعاينة عن قرب  وهو ما نجحت فيه الرواية .

إنها لاتلهث وراء التاريخ .لكنها تعانق المكان الذاتي /الارضي /السيكولوجي ، تأخذ من الأبهار رائحته واضعة نصب عينيها مهمة تحقيق الشروط الفنية لخلق بناء روائي معاصر أحسن أن الكاتبة إمتلكته كل ذلك في وعاء أسلوبي يتميز بالثراء والأصالة . .إذ للوهلة الاولي تتداخل الموروثات والتربية السلوكية العربية ، مع العادات والتقاليد والميثولوجيا  مايجعها تبدو كلوحة سريالية  خاصة وأن أغلب شخصيات الرواية من الشرائح المتباينة ثقافة ومعرفة .لم تكتف بتطبيق رؤاها ذلك في أرض الوطن "الضنك" ، بل أخدت تمارسه وبقوة في المحيط المكاني ، وأيضاً في بلاد الاغراب .لقد رصد هذا العمل شخصيات مختلفة المنبت الديني والطبقي ، وقطاعات عمرية متباينة ومختلفة .كما أنها نقلتنا من أماكن إلي أخري بسرعة وحركية خاطفة . لتؤكد تداخل الثقافات والمعارف

كل ذلك عبر جمل سريعة مشحونة بالدفء والعاطفة ، هادفة لإلي بث نفس الشحنة العاطفية في الملتقي . حاولت القاصة عبرها إيصال الصورة إلي صاغتها لشخصية "سعود" عبر علاقتها به والتي بدأت منذ لقائهنا الأول عند صديقتها "فاطمة" في "لندن" والتي انتهت بالفقد النازف وجعاً  والذي صدمها "ثالوث" الفجيعة الرهيب /رقم ثلاثة ..

وعلي ترحال ، وبقدرة طاغية . تمتلك إلي حد كبير معظم عناصرها عبر حداثة محببة ، ونسيج فني متوهج  شكلت أدواته وقنواته المعرفية تواصلاً  وتفاعلاُ بين كب من المرسل والملتقي ، عبر علاقة ترافقية إكتملت بواسطة هموم واحاسيس صادقة ، أكدت تقدم الفن الروائي في عمان بشكل واضح....