علي الوردي 8+9+10

علي الوردي

د. حسين سرمك حسن

(8) كيف مزّق الصراع النفسي الإسلام وجعل العراقيين أهل شقاق ونفاق ؟

حين تحدّث علي الوردي عن دور الصراع النفسي في ماساة الحسين (ع) وقال :

( أما في مأساة الحسين فقد كان الأمر على خلاف هذا ، إذ أن قتلة الحسين كانوا كما وصفهم الفرزدق : " قلوبهم مع الحسين وسيوفهم عليه " . وفي ذلك ما فيه من نزاع نفسي مرير . شوهد أحدهم في أثناء المعركة يرتعد ويرتجف ، وقد كان معروفا بالشجاعة وشدة البأس ، فسُئل عن ذلك فأجاب بأنه يرتعد من الحيرة لا من الخوف . وقد التحق أخيرا بمعسكر الحسين وقُتل معه ) (47)  .

فإنه هنا يُخرج الصراع من دائرة التفسيرات المذهبية والدينية ، والكثير منها كان ذا طابع غيبي ، التي كانت هي الطاغية سابقا ، ليضعه في دائرة جديدة على الثقافة آنذاك ، وهي دائرة التفسير العلمي ؛ النفسي والاجتماعي . ومن فرضية الصراع النفسي يحقق الوردي نقلة موفقة إلى موضوعته المميزة وهي : ازدواجية الشخصية ؛ فهو يرى ، وفي عودة إلى الدور الاجتماعي المُمرِض للواعظين ، أن شرّ المجتمعات هو ذلك المجتمع الذي يحترم طريقا معينا في الحياة ، في الوقت الذي ينصح الواعظون فيه باتباع طريق آخر معاكس له :

 ( ففي هذا المجتمع ذي الوجهين ينمو الصراع النفسي لدى بعض الأفراد ، ويأخذ بتلابيبهم .وقد يلجأ كثير منهم إلى حياة الانعزال أو الرهبنة . إنهم لا يستطيعون أن يوفقوا في أنفسهم بين تينك الدافعين المتناقضين ، ولذا نراهم طلّقوا الدنيا وذهبوا إلى صوامعهم أو أبراجهم العاجية يجترون مُثلهم العليا اجترارا . أما الباقون من الناس ، من الذين لا يستطيعون الاعتزال ، فنراهم يلجأون ، في سبيل مباديء الوعظ وقيم المجتمع ، إلى حيلة أخرى هي ما نسميها بازدواج الشخصية ) (48) .

في هذا المجتمع ، الذي تحكمه عقلية الواعظين يتقمص الفرد شخصيتين مختلفتين ؛ أحدهما تصغي لما ينصح به الواعظون ثم تتمشدق به ، والأخرى تندفع وراء ما يروق في أعين الناس من مال أو جاه أو اعتبار . ولأن للإنسان عقلين : عقل ظاهر وآخر باطن حسب معطيات الثورة الفرويدية فإن الوعاظ الذين يحاولون تذكير الإنسان بتقوى الله ،  لن يؤثروا في عقله الباطن أبدا ، لأن الفرد نفسه يستطيع وعظ الآخرين مثل الواعظين ، لأن عقله الباطن قد امتلأ بهذه المواعظ منذ صغره ، وهو يحفظها ويلقيها على غيره ، لكنه لا يتأثر بها لأنها معاكسة للعرف الاجتماعي الذي نشأ فيه والذي يحترم المال والجاه لأنه مجتمع منافق . وهكذا يصبح الفرد مزدوج الشخصية وله وجهان : وجه يداري الواعظ ، وآخر يداري بقية الناس .
ويقدم الوردي ملاحظة تنبيهية مهمة تتعلق بضرورة التفريق بين الازدواج والنفاق ؛ فالمنافق ( يعلم ) بازدواج سلوكه ، في حين أن المزدوج لا يعلم بازدواج شخصيته . ويوسّع الوردي الرؤية الفريدة فيعلن أن العرب عموما مصابون بداء ازدواج الشخصية أكثر من غيرهم من الأمم ، والسبب الأساسي في ذلك يتمثل في الصراع النفسي الذي عاشوه ؛ صراع نفسي بين قيم البداوة وقيم الإسلام . فالبداوة تؤكد على التغالب والغزو والرياسة والتفاخر بالنسب ، في حين أن الإسلام يؤكد على المساواة والتقوى والعدالة ، وبهذا أصبح العربي ، وأرى أنه باق حتى هذا اليوم ، بدويا في عقله الباطن ، ومسلما في عقله الظاهر :

 ( فهو يمجد القوة والفخار والتعالي في أفعاله ، بينما هو في أقواله يعظ الناس بتقوى الله وبالمساواة بين الناس ) (49) .

والوردي يضع شرطين أساسيين لنمو هذه الازدواجية بصورة صارخة في أي قطر عربي وهما : القرب من البداوة من جهة ، وكثرة رجال الدين ( الواعظين ) من جهة أخرى . وحسب هذين الشرطين فإن العراق أكثر ازدواجا من غيره من مواطني الدول العربية الأخرى ، ولهذا سببان مرتبطان بالشرطين الأساسيين : السبب الأول هو أن العراق كان وما يزال يتلقى من الموجات البدوية قسطا يفوق ما تتلقى البلدان العربية الأخرى ، باستثناء المجتمع النجدي طبعا . فهو – أي العراق - منبسط كثير الخيرات . والسبب الثاني هو أن العراق كان منبعا من منابع الفرق الدينية ، وفيه نشأ المناطقة وأرباب العلم والفلسفة . أي أنه كان ساحة للواعظين الذين كانوا يحشون العقول الظاهرة للناس بقيم الإسلام ، في حين أن عقولهم الباطنة كانت مرتعا راسخا لقيم البداوة . ولكن الوردي رغم الاستطالات النظرية التي يقدمها فإن عينه ثابتة على الهدف التطبيقي ، والمتمثل بتحليل التاريخ الإسلامي . فهو يثبت حقيقة أن قيم الإسلام مناقضة تماما بطبيعتها لقيم البداوة ، ولكن هذا التناقض لم يظهر في عهد النبي ولا في عهدي أبي بكر أو عمر بن الخطاب من بعده ، وذلك بسبب الإنشغال بالفتوحات والكفاح المتواصل ضد الأجانب . فالطبيعة البدوية طبيعة حرب كما يرى الوردي وكما هو قائم فعلا ، وعليه فإن البدوي لا يمكن أن يكون مسلما حقيقيا إلّا إذا كان المجتمع الإسلامي في حالة حرب مع أعدائه . وهذا ما كان قائما في عهد النبي وأبي بكر وعمر حيث انشغل المسلمون في قتال الفرس والروم ، أي أن قيم البداوة – كما يقول الوردي – قد وجدت لها متنفسا من خلال الحرب على العدو المشترك ، ولهذا لم يجد البدو تناقضا بين عاداتهم القديمة وطبيعة الإسلام الجديدة . ولكن حين توقفت الفتوحات ، عاد البدو المسلمون إلى عاداتهم القديمة في الشغب والحسد والميل إلى النزاع . وهذا الحال وصفه الإمام علي "عليه السلام" بدقة حين قال :

( واعلموا أنكم صرتم بعد الهجرة أعرابا ، وبعد الموالاة أحزابا ، ما تتعلقون من الإسلام إلا باسمه ، ولا تعرفون من الإيمان إلا رسمه . تقولون ( العار ولا النار ) كأنكم تريدون أن تكفئوا الإسلام على وجهه ) .

ولسوء حظ الخليفة عثمان فإن الفتوحات توقفت في عهده . وبعد أن بدأت مظاهر العصيان ضده ، جمع عثمان مؤتمرا للتشاور في صلاح الأمر وقمع الفتنة قبل اشتدادها فنصحه عبد الله بن عامر بأن يأمر المسلمين بجهاد يشغلهم عنه . وهي النصيحة الوحيدة التي كان من الممكن أن توقف تصاعد الثورة ضده ، وهي القاعدة التي اشتغل عليها بثبات لاحقا ( الحجاج بن يوسف الثقفي ) بعد ذلك في أثناء حكمه العراق ، حيث هدأ وضع أهل العراق الذين وصمهم الحجاج بأنهم أهل الشقاق والنفاق ومساويء الأخلاق . وهناك سبب آخر للثورة على عثمان يتعلق بسلوك هذا الخليفة نفسه ، فقد كان  والتحليل للوردي - محبّا لأقربائه ومتحيزا لهم بصورة شديدة ، وقد استأثر أقرباؤه فأساؤا الإثرة ، مثلما جزع الناس فأساؤا الجزع ، كما وصفهم الإمام علي "عليه السلام" . وسياسة " المحسوبية " التي أرسى أسسها عثمان أثارت عليه الناس ، رغم أنه أراد الخير للناس في جلّ أعماله ، لكن كل أعمال الخير التي كان يقوم بها ، كانت تؤول لغير صالحه ؛ فهو يوسّع المسجد النبوي فيسمع من يقول :

( يوسّع مسجد النبي ويترك سنّته ) .

لقد دشن عهد عثمان ولأول مرّة ، كما يقول الوردي ، الفجوة بين الحاكم والمحكوم وهو ما لم يكن قائما في عهد عمر . وبحكم مشروعه الثوري فإن الوردي يقارن هذه الفجوة بين الحاكم والمحكوم بالعلاقة التي يعيشها العراق في وقته بين الشعب والحكومة فيقول :

( إن الفجوة التي بين الحاكم والمحكوم هي فجوة اعتبارية ونفسية أكثر منها حقيقية . وقد رأينا ذلك جليّاً في حكومة العراق الحاضرة . فكل عمل تقوم به هذه الحكومة يفسّره الناس تفسيرا سيّئا . وذلك لأنهم اعتادوا أن يروا حكامهم متحيزين يراعون أقرباءهم وأصهارهم أكثر مما يراعوا غيرهم ) (50) .

وهو يعد هذه الفجوة سببا للثورة فيقول بوضوح :

( إن كل فجوة بين الحاكم والمحكوم تؤدي حتما إلى الثورة ما لم تُستأصل في وقت قريب ) (51) .

وسنرى أن الإنتقالة من دروس الماضي إلى الحاضر لتوظيفها في التجارب المعيشة والتسلّح بها من أجل بناء المستقبل ، هو من المميزات الأساسية والخلّاقة لفكر الوردي الاجتماعي الثائر . وبذلك فإن الثورة على عثمان كان لها دافعان : التطرّف في الاستئثار من جانب الحاكم ، والتطرّف في الجزع من جانب الرعية . ويرى الوردي أن الثوار في أي ثورة يحتاجون إلى نوعين من الحوافز : حوافز عقلية وحوافز عاطفية :

 ( ففي الثورة على عثمان ، كان الحافز العقلي لها هو ما يبثه القراء والصحابة والأتقياء من مباديء العدل والمساواة والزهد . أما الحافز العاطفي فكان كامنا في طبيعة الحرب التي مُرّن عليها البدو ، إذ هم يحاربون أخاهم حين لا يجدون من يحاربون غيره كما قال القطامي – وهو يشير إلى قصيدة الشاعر الجاهلي القطامي المعروفة التي منها :

               وأحيانا على بكْرٍ أخانا    إذا لم نجدْ إلّا أخانا ) (52) .

إن الفجوة بين الحاكم والمحكوم نجد جذورها في كثير من الأحيان في ما يكمن في داخل النفس البشرية من نزاع نظامين متعاكسين من القيم . ولأن الناس في ذلك الوقت – عهد عثمان - كانوا محكومين بداء الصراع النفسي بشكل عنيف ، فإنهم كانوا مهيئين للثورة كعامل مضاف ، فهم كانوا بدواً في أعماق نفوسهم ، وكانوا يطالبون الحكام باتباع تعاليم الإنسان . وبعبارة أخرى : كانت قلوبهم بدوية ، وألسنتهم إسلامية ) (53)  .

وقد كان هذا الصراع على أشد صوره في العراق ، وهذا ما فسر أسبابه الوردي قبل أحمد عباس صالح ، حين اعترض على تفسير الجاحظ لمقولة الحجاج التي سارت مثلا سائرا عن العراقيين بأنهم أهل شقاق ونفاق ، من خلال قول الجاحظ في ( البيان والتبيين ) بأن :

( العلة في عصيان أهل العراق على الأمراء وطاعة أهل الشام أن أهل العراق أهل نظر وذوو نظرة ثاقبة ، ومع الفطنة والنظر يكون التنقيب والبحث ، ومع التنقيب والبحث يكون الطعن والقدح والترجيح بين الرجال والتمييز بين الرؤساء وإظهار عيوب الأمراء ، وأهل الشام ذو بلادة وتقليد عن مغيب الأحوال ، ومازال العراق موصوفا أهله بقلة الطاعة وبالشقاق على أولي الرئاسة ) .

يرى الوردي أن تعليل الجاحظ لا يقرّه علم الاجتماع الحديث لأن طبيعة البشر واحدة في كل زمان ومكان ، والإختلاف بينهم يرجع في الغالب إلى اختلاف في تكوين المجتمع الذي ينشأون فيه . يقول الوردي :

( من يدرس المجتمع الإسلامي الذي نشأ في العراق يجده مختلفا كل الإختلاف عن المجتمع الذي نشأ في الشام . لقد كان كلا المجتمعين مؤلفا من البدو ، ولكن الطبقة العليا التي كانت تسود المجتمع العراقي تختلف عن تلك التي تسود المجتمع الشامي . فقد لجأ إلى الشام الأشراف الذين كانوا يسودون مكة أيام الجاهلية . أما العراق فقد لجأ إليه أشراف من نوع آخر ، ومعظمهم من المهاجرين الأنصار الذين صعدوا مدارج السلم الاجتماعي عن طريق الإسلام والجهاد في سبيله ، وفي الهامش يقدم الوردي معلومة تشير إلى أن عدد الصحابة الذين نزلوا العراق كان ( 148 ) صحابيا ، وعدد التابعين لهم كان ( 850 ) تابعيا ) (54) .

لقد كانت الطبقة العليا في المجتمع الشامي مؤلفة من أشراف الجاهلية الذين لم تترسخ قيم الإسلام في العدل والمساواة في نفوسهم ، بينما كانت في المجتمع العراقي مؤلفة من القرّاء وأهل السابقة مثل عمار بن ياسر وغيره . إن الأساس في وجهة نظر الوردي التي تمتد من محاولته النظرية في شرح تأثيرات الصراع النفسي ، حيث يرى – بعد أن يقدم مجموعة من الوقائع التاريخية - أن أهل العراق كانوا يعيشون تحت وطأة صراع نفسي شديد . وقد كانت المشقة التي عاناها المسلمون الأوائل في عهد النبي نوعا من الإختبار الاجتماعي حيث لم يعتنق الإسلام أول الأمر إلّا من كان مؤمنا مخلصا في إيمانه ، أما بعد انتصار الإسلام وانقشاع الإضطهاد الديني فقد دخل الناس فيه أفواجا وكثير منهم دخلوه انتهازا للفرصة وطلبا للغنيمة :

( وكان من حسن حظ العراق أو سوء حظه ، أن سكنه أولئك الذين أسلموا قبل الفتح وقاتلوا . ولهذا كان الوعظ الديني والنزعات الإسلامية قوية فيه ) (55) .

ومن المهم والمفيد جدا لبحثنا هذا أن ننقل رأي الوردي كاملا عن ظاهرة الشقاق والنفاق في الشخصية العراقية ، الذي طرحه في نهاية الفصل ، حيث خفتت اندفاعة الشحنة الانفعالية الملتهبة التي تحدثنا عنها والتي شكلت سمة أسلوبية له في كتاباته ، وبرز التأمل التحليلي الهاديء ، والوردي في حماسته لم يكن مخطئا ، ولكنه مسوق في موجة مشروعه الثوري ، فهو يختلف عن كل علماء الإجتماع الآخرين بأنه مصلح اجتماعي ثائر . يقول الوردي :

( ومن الجدير بالذكر أن نذكّر القاريء بأن النفاق الذي وصف الحجاج به أهل العراق ليس نوعا من النفاق الذي نفهمه عادة من هذه الكلمة – وهنا يقدم الوردي خلاصة مكثفة في نهاية الفصل لفكرة الفصل كله – فهو صراع نفسي يوشك أن يورث ازدواجا في تكوين الشخصية . وكان أهل العراق لا يدرون أنهم يناقضون أنفسهم حين كانوا يقولون ما لا يفعلون . إن تقاليدهم القبلية كانت تحدوهم لاشعوريا في أن يكونوا أولي كبرياء وعصبية ونسب . فهم حين فتحوا الممالك باسم الإسلام لم يكونوا إلا بدوا يحاربون في الغالب من أجل الغنيمة ، وقد جاءتهم المصيبة من هذا الفتح . لقد كان فتحا دينيا في نظر أهل التقوى والصحبة . والمفروض فيه أن يكون رائده الرحمة والعدل والمساواة . أما هم فقد فتحوا وتورطوا . انتصروا على الأمم فغرّهم هذا الانتصار وجعلهم يتنافسون ويتفاخرون على طريقة أهل البادية . هذا ولكن أهل التقوى لم يتركوهم وشأنهم . إنما أخذوا يركضون وراءهم حاملين بأيديهم القرآن ويلهجون بأحاديث النبي . فقد كانت الطبقة العليا في المجتمع الشامي مؤلفة من أشراف الجاهلية في الغالب ، بينما في المجتمع العراقي مؤلفة من القراء وأهل السابقة مثل عمار بن ياسر وغيره ، وهي طبقة ثورية لا تحابي ولا تجامل . والمشكلة الكبرى – وهي أوسع - آتية من أن الإنسان لا يستطيع أن يترك عاداته القديمة بإرادته واختياراته ، فهذه العادات مغروزة في أعماق عقله الباطن . ولذا فهو يتأثر بها ويندفع بتيارها اندفاعا لاشعوريا لا سيطرة للتفكير أو المنطق أو الإرادة عليه – عدنا هنا إلى التوظيف الفرويدي المُوفّق : الباحث – والإنسان حين يسمع الواعظ يعظه بمعاكسة تلك العادات يشعر بشيء من الصراع النفسي أول الأمر ، ثم لا يلبث الصراع أن يزول حيث يأخذ الإنسان آنذاك بشق نفسه إلى شقين : أحدهما للوعظ والمثل العليا والآخر لشؤون الحياة  )(56)  .

علي الوردي :

(9) لماذا وصلت الإزدواجية ذروتها في العصر العباسي؟ جمع الدين والدولة مثل جمع الماء والنار

في كتاب "وعّاظ السلاطين" يضع الدكتور علي الوردي بين كل وقفة تحليلية نفسية واجتماعية ، وأخرى تحليلية تاريخية عامة ، إشارات مقصودة إلى محنة الصراع التي خاض إوارها المسلمون في الصراع بين الإمام علي ومعاوية ، ولكنها إشارات محسوبة يبدو أن الكاتب يبغي منها تهيئة القاريء لاستقبال تحليله الصادم لتلك المحنة بعد قليل . فعلى سبيل المثال ، نجده حين يتحدث عن طبيعة اهل العراق ومعضلة الإزدواجية التي يعيشونها ، فإنه يقدم مثلا تطبيقيا عن تأثير هذا الازدواج وما ينشأ عنه من صراع نفسي على مسارات الصراع بين علي ومعاوية ونتيجته النهائية . فأهل العراق كانوا واقعين تحت تأثير دافعين متناقضين : دافع النفسية البدوية القديمة من جهة ، ودافع النزعة الإسلامية الجديدة من الجهة الأخرى . وعندما نشبت الحرب بين أهل العراق وأهل الشام في واقعة صفين ، ظهر هذا الأمر بكل جلاء في أهل العراق . ففي الوقت الذي كان أهل الشام فيه طائعين مقلدين يستمعون إلى ما يقول أمراؤهم ويعتبرونه أمرا مقدسا ، نجد أهل العراق في شغب وتساؤل وجدل عظيم . وقد سُئل معاوية ذات يوم عن العوامل التي جعلته يغلب عليّاً ، فلخّصها معاوية بما يلي :

أولا : كان علي بن أبي طالب يُظهر سرّه ، وكنت كتوما لسرّي .

ثانيا : وكان في أخبث جند وأشده خلافا ، وكنت في أطوع جند وأقله خلافا .

ثالثا : وكنت أحبّ إلى قريش منه .

ويعلّق الوردي على هذه  العوامل الثلاثة بالقول :

( يبدو لي أن هذه العوامل الثلاثة التي ساعدت معاوية على "علي" كانت أوجها مختلفة لعامل واحد هو : العامل الاجتماعي . فقد كانت الطبقة العليا في المجتمع الشامي مؤلفة من أشراف الجاهلية في الغالب ، بينما كانت في المجتمع العراقي مؤلفة من القرّاء وأهل السابقة مثل عمار بن ياسر وغيره . فكان علي لا يستطيع كتمان سرّه مثل معاوية ، لأن أتباعه من أهل العراق كانوا يسألونه في كل شيء ويجادلونه في كل عمل يقوم به . ولذا كانوا يختلفون معه في كل صغيرة وكبيرة . أما أتباع معاوية فكانوا يسيرون معه كما يسيرون مع مشايخهم في الغزوات أيام الجاهلية ) (57) .

ثم يضيف الوردي عاملا آخر يتعلق بالعطاء والإغراءات المادية . فقد كان علي يساوي في العطاء بين الناس كما كان الرسول يفعل ، أما معاوية فقد كان يعطي على مقدار ما للرجل من مكانة اجتماعية أو نفوذ سياسي . وهذا كان سببا آخر من أسباب انتصاره على علي ) (58) .

 # لماذا وصلت الإزدواجية ذروتها في العصر العباسي :

------------------------------------------------------

لكن إنجاز الوردي في مراجعته التطبيقية للتاريخ الإسلامي يتصاعد ليتجسد بصورة متميزة في الفصل الثاني من كتابه هذا وهو : ( الوعظ وازدواجية الشخصية ) . حيث يواصل شرح وتفسير الكيفية التي استقر فيها الازدواج في نفسية الفرد المسلم بصورة عامة ، وفي نفسية الفرد العراقي بصورة خاصة . في هذا الفصل يحاول إثبات فرضيته في أن الإزدواج في الشخصية قد وصل ذروته وترسخ في العصر العباسي . وهو يقدم تعليلا دقيقا يرى فيه أن الأمويين كانوا أولي عصبية جاهلية بدوية صريحة ، فكانوا لا يهتمون بما يقول الفقهاء أو رجال الدين ، ويتبعون طريقة السيف في سياسة الناس ، في حين كان الفقهاء وحملة الدين يدعون إلى طريق الله والمساواة في صفوف الفلاحين والغوغاء وأهل الحرف ، فكان الدين والدولة يسيران في اتجاهين متناقضين . فخلق ذلك صراعا نفسيا من ناحية وقلقا اجتماعيا من ناحية أخرى . ولكن هذا الوضع الشائك تم حلّه في العصر العباسي :

( فقد جاء العباسيون إلى الحكم وهم يدّعون انهم يريدون إحياء السنة التي أماتها بنو أمية وتقويم ما اعوج من سبل الدين . وبعبارة أخرى أنهم كانوا يحاولون إزالة الثغرة التي كانت موجودة بين الدين والدولة في عهد أسلافهم الأمويين . وهذا أمر يكاد يكون مستحيلا . إن جمع الدين والدولة في جهاز واحد شبيه بجمع الماء والنار معا . حاول العباسيون أن يلائموا بين الدين والدولة فلم يوفقوا في هذا السبيل إلّا ظاهرا . إنهم قرّبوا الفقهاء وأهل الحديث وأجزلوا لهم العطاء وتظاهروا لهم بالخشوع واستمعوا إلى مواعظهم . والواقع أنهم لم يستطيعوا أن يفعلوا أكثر من ذلك . ففي حياتهم العملية كانوا يسيرون كغيرهم من الملوك في ضوء ما تمليه عليهم الظروف من مساومة وقسر واستغلال . يقول البروفيسور فيليب حتي : كان الخليفة البغدادي بخلاف سلفه الأموي يتظاهر بالتقوى ويدّعي التديّن . ولكنه كان مع ذلك ذا اتجاه دنيوي مثل سلفه الشامي )(59) .

لقد كان الخليفة نفسه مزدوجا ، فشق من شخصيته يستمع للواعظ وشق آخر يجري وراء ملذات الدنيا . وقد كان الخليفة العباسي يبكي في حضرة الوعّاظ ثم يفجُر ليلاً مع الجواري والمطربين . إن الخليفة – كما يقول الوردي – كان يعبد الله وينهب عباد الله :

( ولا ريب أن عدد الواعظين أخذ يزداد في ظل الدولة العباسية وينمو نموا فظيعا . وكان كل وزير أو أمير يخصّص جزءا كبيرا من الأموال التي ينهبها لبناء المساجد والتكايا والترفيه عن المرتزقة الذين يأوون إليها من طلاب الفقه والعبادة . وكان الواعظ يُعطى على مقدار ما يتحذلق به من جيد اللفظ وبلاغة الأسلوب)(60) .

ومقابل دعم الخليفة ومغرياته المادية التي يقدّمها للواعظين يتفنن هؤلاء في دعم سياساته وتقديم المسوّغات الفقهية التي تبررها وهو ما عرف بـ ( الحيل الشرعية )، والتي كانوا من خلالها يوفّرون مسوّغا شرعيا لكل فعل من أفعال الخليفة مهما كان دنيئا :

( والسلطان الظالم لا يعمل عملا إلا بعد أن يجمع الفقهاء ويعرض عليهم الأمر . وهم ينظرون حينذاك إلى السلطان فإذا وجدوه مصمما على ذلك العمل أسرعوا إلى ما في جعبتهم من الآيات والأحاديث المتناقضة فينفضوها أمامه ليختار منها ما يلائمه ، والله غفور رحيم على كل حال ) (61) .

وليس أدل على ذلك من الفتوى التي قدّمها الوعّاظ للرشيد ليبرّروا نقضه لعهد الأمان الذي كتبه بخط يده ليحيى بن عبد الله العلوي الثائر .

ويعود الوردي إلى التأكيد من جديد على أن الحجج التي كان الوعّاظ يقدمونها ، تقوم على أساس القياس الأرسطي ، لأن هذا القياس عجيب جدا ، ففي الإمكان الإتيان به لتأييد أي رأي وتأييد نقيضه أيضا . وقد أصبح هذا القياس الأرسطي وسيلة كبرى من وسائل الطغاة ووعّاظهم يلجأون إليه عندما يشاهدهم الناس متلبسين بجريمة الظلم أو الدفاع عنه . ويواصل الوردي سخريته السوداء بالقول : 

( فإذا اشترى أحد الطغاة جارية بمائة ألف دينار ، فإنه يستطيع ، على أي حال ، أن يستعين بالمنطق الأرسطي فيبرهن للناس أن في شراء الجارية صلاحا للمسلمين . ذلك لأن الجارية سوف تسعد أميرهم ، وفي سعادة أمير المؤمنين سعادة للمؤمنين أنفسهم ، وكفى الله المؤمنين القتال ، وكان الله عزيزا حكيما ) (62) .

والوردي لا يلوم الخليفة هرون الرشيد لازدواجية شخصيته وشخصيات الوعاظ من حوله ، فهو نتاج للظروف الاجتماعية التي حصلت آنذاك ، وكنتيجة نهائية ، نجده – أي الوردي - يدافع حتى عن الزنادقة الذين كان الخلفاء يصلبونهم ، ماداموا لم يعتنقوا هذا المذهب من تلقاء أنفسهم . فهم أما ورثوا ذلك عن آبائهم أو انجرفوا فيه بتأثير محيطهم الاجتماعي . ولن يستطيع الانسان أن يعتنق دينا أو يرفضه نتيجة تفكيره المجرد وحده . وماداموا قد بُذرت بذور الزندقة في نفوسهم بفعل سلوك الحكام الفاسدين . فـ :

( قد يتزعزع إيمان أي إنسان حين يرى أمير المؤمنين ينهب أموال الأمة ثم يبذّرها على ملذاته وشهواته . والعجيب أن نرى الناهب معذورا والمنهوب مُعاقبا ) (63) .

في الفصل الثالث : ( الوعظ وإصلاح المجتمع ) ، يناقش الوردي الكيفية التي يخلق فيها الوعظ المفرط نتائج معاكسة للنتائج التي يرجوها لأن الواعظين يوغلون في ( أَمْثَلة ) الأنموذج القدوة الذين يطلبون من الناس أن يقتدوا به . ويضرب مثلا مهما على ذلك ويتمثل في حالة أهل الكوفة المتناقضة والتي يبايعون فيها زعيما على الثورة ثم يغدرون به - لا يزال أهل العراق حتى هذا اليوم ، يقولون في من يغدر ( أنه بايع ) - ، فيعيد هذا السلوك ، الغدر الاجتماعي ، إلى التباعد بين أهداف الواعظين وأهداف الحياة الواقعية :

( فالناس يلهجون من جراء الوعظ المتوالي عليهم ، بذكر المُثل العليا والمباديء السامية . وكثيرا ما نراهم يحرّضون الزعماء على الثورة ... ولكنهم لا يكادون يرون الزعيم قد ثار فعلا حتى يتبين لهم ما ستجرّه عليهم ثورته من خسائر .. وعند ذلك يُضطرهم الأمر الواقع على النزول من أبراجهم العاجية التي صعدوا إليها من قبل ) (64) .

# الإزدواجية سبب ندرة القادة الحقيقيين في العراق :

------------------------------------------------- 

إن هذه الازدواجية هي السبب الرئيس – وهنا ينتقل الوردي من الماضي إلى الحاضر – الذي جعل الزعماء نادرين في مجتمعاتنا الحاضرة :

( إن المجتمع المزدوج يقل فيه ظهور الزعماء الأقوياء في الغالب . فكل زعيم يظهر في هذا المجتمع يقابله الناس بالجدل والشغب والانتقاد . إن توالي الوعظ عليهم جعلهم أولي نظر دقيق وتفكير إفلاطوني مفرط . إنهم يجدون عيبا في كل رجل يظهر بينهم مهما كان نبيلا . والزعيم لا يعتمد في زعامته على مواهبه فقط . إنما هو يعتمد أيضا ، على تقدير الناس وتشجيعهم إياه . والزعيم في المجتمع المزدوج لا يجد تشجيعا أو تقديرا إلا بمقدار ضئيل . إن الزعيم يخلق الأمة وهي تخلقه في الوقت ذاته ، فالأمة لا تستطيع أن تخلق من شخص تافه زعيما ، وكذلك لا يستطيع الشخص الموهوب أن يكون زعيما في أمة لا تقدّره ... إن المجتمع المزدوج لا يستطيع أن يجمع أمره على تقدير زعيم من الزعماء . فهو نقّاد من طراز غريب . فلو عاش مع الأنبياء لوجد فيهم كثيرا من الهنات والمعائب ) (65) .

وما يقوله الوردي يجد ساحته التطبيقية ليس في ساحة العمل السياسي العراقي حسب بل في استعادة العبرة من سير القادة القدماء الذين امتُحنوا في العراق . إن الكثير من الزعماء السياسيين العراقيين بذلوا المستحيل ليحصلوا على رضا الشعب العراقي ولم يفلحوا . وقد اضطر بعضهم إلى أن يموت في سبيل مبدئه ليعرف الناس قدره لأنه مادام حيّاً فإن الناس لابد أن يلاحقوه بالنقد والبحث عن عيوبه . وكل ذلك يعود إلى سلوك الواعظين الذين رسموا لنا صورا مثالية بدأنا بقياس سلوك الزعماء السياسيين عليها ، وهي غاية لا يمكن أن تتحقق . وقد أدى هذا الوضع إلى حصول ظاهرة سياسية واجتماعية خطيرة في العراق وهو النقص في القيادات السياسية التاريخية :

( ومن يقارن العراق بسائر البلاد الشرقية يجده قاحلا من الزعماء المشهورين قحولة تلفت النظر . والزعيم المخلص لا ينال التقدير فيه إلا بعد موته . فهو عند ذلك يدخل في غابر التاريخ وتسحب الأيام على عيوبه ذيول النسيان . أما في حياته فالناس يطعنونه من كل جانب . ويكثرون من ذمّه والبحث عن عيوبه ) (66) .

# الإزدواجية تنتج بشرا يحبّون من لا يحترمونه ويحترمون من لا يحبونه :

------------------------------------------------------------------------ 

ومن نتائج التربية الإزدواجية الأخرى في المجتمع هو أنها تنتج بشرا يحبّون من لا يحترمونه ويحترمون من لا يحبونه . ويفسّر الوردي سبب هذه المعادلة المعقدة بالقول :

( سبب هذا قد نشأ ، فيما أظن ، من جراء الازدواج الذي تغلغل في تكوين شخصيتنا . فنحن في أعماقنا بدوٌ نحتقر الضعيف ونحترم القوي ، أما في أفكارنا فنحن أفلاطونيون ننشد المُثل العليا . فنحن إذا أحببنا شخصا كانت قلوبنا معه وسيوفنا عليه . أما إذا احترمنا أحدا فالغالب أن يكون هذا المحترم من الجلاوزة أو أبناء الجلاوزة ، فنحن نكرهه بقلوبنا ونحترمه بألسنتنا ) (67) .

وهنا يبدأ بالدعوة إلى مراجعة التحريف الذي قام به الوعّاظ لأقوال الرسول بصورة تعزّز الإستكانة للطغاة وعدم مواجهتهم والأخذ على أيديهم . ولم يكتفوا بذلك بل حرّفوا أقوال الله تعالى لتصب في مجرى الخضوع للطغاة ( كما حاول ذلك الطبراني نقلا عن أبي الدرداء نقلا عن النبي ) (68) .

 وسنجد أن الوقفات الداعية للمراجعة هذه منتشرة بصورة محسوبة في مواقع متناثرة من فصول الكتاب ، وقد تحمل بعض الوقفات نظرات انتقادية حادة .

وينهي الوردي هذا الفصل بالدعوة إلى الثورة من خلال مقولتين قالهما أبو ذر الغفاري :

( عجبت لمن لا يجد القوت في بيته ، كيف لا يخرج على الناس شاهرا سيفه ) و ( إذا ذهب الفقر إلى بلد قال له الكفر : خذني معك ) .

– ومن الطريف أن نذكر أن الوردي قد كتب في عام 1943 مسرحية عن أبي ذر الغفاري ، وقد قدّمها إلى إحدى الفرق التمثيلية في حينها ، فرفضتها الفرقة لأنها وجدت فيها اشتراكية غير مستساغة – وما زال الوردي يحتفظ بنسخة من تلك المسرحية ) (69) .

علي الوردي : (10) هل السلف الصالح هو الأنموذج الأكمل ؟

في الفصل الرابع : ( مشكلة السلف الصالح ) من كتاب "وعّاظ السلاطين" ، يتناول الدكتور علي الوردي مشكلة ( سخيفة ) كما يصفها وتتمثل في محاولة الواعظين العودة بنا إلى صدر الإسلام من خلال القول بأن السلف الصالح هو الأنموذج الأكمل الذي علينا الإقتداء به . وهو يعد هذا المنطق ( سخيف طبعا ) لأن المسلمين الأوائل ليسوا الأنموذج المثالي الذي علينا أن نقتفي خطاه في حياتنا الراهنة ، وذلك لأنهم نجحوا في البداية ، ثم فشلوا ، وما علينا إلا أن ندرس أسباب فشلهم لكي نتعظ بها في تجاربنا الحاضرة . وحسب الوردي فإن هناك شواهد قوية على إحساس النبي (ص) ، وعمر ، وعلي من بعده ، بالتشاؤم من المستقبل الذي ينتظر التجربة الإسلامية . فبالإضافة إلى أن القرآن الكريم يقول : ( إن الإنسان ليطغى إن رآه استغنى ) مؤسِّسا لناموس اجتماعي شامل للفشل والضمور والإنحطاط الذي ينتظر أي حركة اجتماعية كبرى ، فإن الواقع قد أظهر أن المسلمين كانوا أول عهدهم يكافحون الظلم والترف والاستغلال في أيام الرسول ، لكنهم بعد أن أُتخموا بالمال والترف أصبحوا بحاجة لمن يكافحهم كما يقول الوردي . والشواهد التي ينقلها الوردي تشير إلى أن الرسول قد خرج إلى المسجد في أواخر أيامه وصاح بصوت عال :

( أيها الناس .. سُعّرت النار وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم ) ( الإسلام سيرجع غريبا ) بدلا من أن يتفاءل بانتشار الإسلام .

أمّا عمر (رض) فقد بكى عندما وصلته الغنائم من بلاد فارس بدلا من أن يفرح وقال :

(.. الله لم يعط قوما هذا إلا ألقى بينهم العداوة والبغضاء ) كما أنه وضع سُنة استشرف منها هبوط الإسلام وتدهوره حين قال :

( ألا أني سننت الإسلام سنّ البعير، يبدأ فيكون جذعا ثم ثنيا ثم رباعيا ثم سداسيا ثم بازلا. ألا فهل ينتظر بالبازل إلا النقصان ؟ فإن الإسلام قد بزل).

أما الإمام علي (ع) فقد قال :

(من ملك استأثر) مستشرفا ما كان الإسلام مقبلا عليه من استئثار وطغيان.

ورغم تحريم الربا فقد نمت طبقة المترفين (الطغاة كما سيسميهم الوردي لاحقا ) في ظل فتوحات الإسلام بدرجة أكبر من الإسلام وذلك من خلال شراء العبيد (وكلّهم حرفيون من البلاد المفتوحة ) وتشغيلهم في التجارة وفرض ضريبة عليهم يؤدونها كل يوم أولاً ، وإعطاء الأموال للتجار لاستثمارها وتقسيم الربح ثانيا ، والبيع المؤجل ثالثا . وقد (حبس) عمر الأغنياء في المدينة ومنع انتقالهم إلى الأمصار، كما خرج على سُنة أبي بكر وبدأ بتوزيع المال على الناس بالتساوي قائلا :

( لا أجعل منْ قاتلَ رسول الله كمن قاتلَ معه) ، كما منع تعذيب أحد في الجزية.. وغيرها من الإجراءات الحازمة التي حاول من خلالها احتواء سرطان نمو ثروات المُترفين . وقد شعر بالخطر حتى أنه قال في أواخر أيامه :

( لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء فقسمتها على فقراء المهاجرين ) .

لكنه أغتيل قبل أن يحقق ذلك ، وخلفه عثمان الذي انفجرت في عهده القنبلة الموقوتة ، حيث قام بأشياء لم يقم بها عمر منها : أنه أطلق الأغنياء بعدما حجزهم عمر في المدينة وسمح لهم بالسفر ، وأضاف إلى قائمة الأغنياء أسماء جديدة هم الصحابة الذين أسلموا بعد الفتح وكان عطاؤهم في عهد عمر قليلا ، وترك الأغنياء يؤدون الزكاة إلى الفقراء بأنفسهم بعدما كان الجباة يجبونها منهم . وكانت النتيجة تضخّم ثراء الأغنياء الفاحش ومضاعفة فقر المسلمين المسحوقين . فظهرت مجموعة من الوعّاظ الثائرين منهم أبو ذر الغفاري الذي كان ينهى عن ( الكنز ) ، ويرى أن الزكاة وحدها غير كافية وأنّ على الأغنياء أن يعطوا الفقراء جميع الأموال التي يكنزونها بحيث لا يبقى لديهم إلا معاشهم ومعاش ذويهم .

وحسب الوردي فإن أبا ذر لم يُواجَه ويُحارَب من قبل وعّاظ السلاطين في أيام عثمان حسب ، بل في العصر الحديث أيضا . فقد اجتمعت لجنة فتاوي الأزهر في عهد الملك فاروق وقررت الطعن في أبي ذر واتهمته بالهَوَس والخروج على إجماع المسلمين وذلك عام 1954 . وهو يرى أن هؤلاء الوعاظ الذين يسمحون للغني بجمع الأموال ثم يأتون ليعظوه بمخافة الله ويهدّدوه بعذابه هم كمن يطلب المستحيل ، فهم يتجاهلون طبيعة العقل البشري ، وينسون أن الإنسان يندفع بما تمليه عليه ظروفه النفسية والاجتماعية ثم يطلي اندفاعه هذا بطلاء من الدين والفضيلة . وهنا يعود الوردي إلى نقد المنطق القديم ( الأرسطي ) حيث يرى أن الطغيان حليف الغنى كما أشار القرآن ، وفي هذا سر لا يفهمه أصحاب المنطق القديم . فهذا المنطق يصنّف الناس إلى أخيار وأشرار ، ومن كان من الناس خيّراً بقي في نظره خيّراً حتى الموت . وهذا رأي لا يستسيغه المنطق الحديث الذي يرى أن الإنسان خيّرٌ وشرير في آن واحد . وتكوين الشخصية البشرية قائم على أساس التفاعل بين نزعة الخير والشر فيه . واختلاف الناس نسبي يعتمد على طبيعة الظروف النفسية والاجتماعية المؤثرة . وهنا يؤكد الوردي على دور العوامل اللاشعورية التي تضغط على الإنسان وتجعله يتصرف ثم يحاول إيجاد غطاء عقلاني أو ديني لتصرفاته . ثم يشير إلى حقيقة خطيرة تتمثل في :

( أن الدين لا يردع الإنسان عن عمل يشتهي أن يقوم به، إلا بمقدار ضئيل . فتعاليم الدين يفسرها الإنسان ويتأولها حسبما تشتهي نفسه . وقد رأينا القرآن والحديث مرجعا للكثير من الأعمال المتناقضة التي قام بها المتنازعون في صدر الإسلام . فلقد وجدناهم يقتل بعضهم بعضا ويكفّر بعضهم بعضا، ثم يستندون في ذلك على آية من القرآن أو حديث من النبي. وكان كل حزب من الأحزاب المتطاحنة يملك سلاحا قويا ضد خصومه من الآيات والأحاديث. ولا تزال الفرق الإسلامية تتحارب بالآيات والأحاديث .كل فرقة تملك في جعبتها أسلحة شتى مما قاله الله أو قال الرسول الكريم . يقول علي بن أبي طالب : ( القرآن حمّال أوجه ) وهو يعني بذلك أن القرآن يحمل تفاسير متنوعة وكل حزب يستطيع أن يجد له في القرآن ما يريد من دليل يسنده في عمله ) .

والوعاظ هم الذين يتصدّون لهذه المهمة غير المقدسة ، فيبررون للسلطان أفعاله بتأويل الآيات والأحاديث . فهم من ناحية يدعون الناس إلى نبذ الثورة وشق عصا الطاعة على السلاطين اقتداء بالسلف الصالح الذي كان موحَّدا و( ملائكيا ) في حين أن الوردي يقول أن الصحابة تشاتموا مرة أمام النبي وتضاربوا بالنعال . كما أنهم في أيام عثمان ساروا في طريقين متعاكسين أوصلهم إلى القتال . ومن ناحية أخرى نجد الوعاظ يضعون المتون النظرية التي تبرر أفعال الطغاة قياسا على تأويلات لوقائع التاريخ الإسلامي في عهد النبي ، هذا – حسب الوردي – ما فعله الإمام القرطبي في تفسيره حيث أدان دعوة أبي ذر إلى عدم (الكنز) جاعلا سور القرآن التي تنهى عن الكنز وقتية ، ونهي النبي عنه مرتبطا بظروف فاقة المسلمين أول الدعوة !!.