علاقة اللغة بالفن

علاقة اللغة بالفن

د. هارون الربابعة

في اللغة سحرٌ حلال، وفيض جمال، ولا يعرف حلاوتها، ولا يدرك طلاوتها إلا من سَبَر أغوارَها فعَلِم أسرارها،  أو دخل حديقتَها، فعرف حقيقتَها، وجنى من ثمرها، فأكل وشرب، وانتشى وطرب، فمن ذاق عرف، ومن عرف غرف، فكم من بلبل شادٍ على أفنانها ترنّم وغرد، ، وكم من عابدٍ متبتّل بكلام ربّه تهجّد،  وكم من شاعر ولهانَ لجأ إلى فيئها وأنشد:

فيا حاديَ العُشّاقِ قُمْ واحْدُ قائماً       ودَنْدِنْ لنا باسمِ الحبيـبِ ورَوِّحنـا

وَصُنْ سرّنَا في سُكْرنَا عَنْ حَسُودِنَا  وَإنْ نَظَرَتْ عَيْنَـاكَ شيْئًا فَسَامحنـا

فَإنّا إذا طِبْنـا وَطـابَتْ نفوسُنـا    وَخـامَرَنـا خَمْرُ الغَرامِ تَهَتَّكْنـا

وفي الفن نشوة وطرب، وارتشافٌ للضَّرَب، وتحليق في فضاءات الخيال، وتذوق لمعاني الجمال، مما يشي بأن ثمة صلة وقربى بين الأدب والفن. فإذا ما ضممنا الأليف إلى أليفه، و جمعنا القرين إلى قرينه، أضاءت جَذْوةَ الإبداع، لتكتملَ المسرة والإمتاع.

وتتبدّى صورة الفن في عالم اللغة جليّة واضحة، في كل علوم اللغة وفنونها؛ فتركيب الجملة نحويّاً هو فنّ، وصياغة الأبنية الصرفية ووضع المصطلحات العربية فنّ، والتّصرف في الجملة وإعمال يد التغيير فيها من تقديم وتأخير وذكر وحذف فن. ولا ننسى أهمية الفنون المسرحية والقصص والروايات في تكوين أي عمل دراميّ؛ لذا فقد أصبح من المألوف أن تكون لفظة الفن داخلة في تشكيل بعض المصطلحات اللغوية: كالصورة الفنية في الشعر، وفن التقطيع الشعري، وفنون الخطّ العربي، وفنّ القصّة، وفنون المسرح.    

ومن يدري لعل الشعر كان يؤدَّى بنسق غنائي منتَظِم، وقد جُمع فيه قوةٌ كامنةٌ من الموسيقى والقافية فيها كلّ مقوّمات الغناء. ألم يكونوا يقولون حين يلقي الشاعر قصيدته: (أنشد)، ولا يقولون هذا في غير الشّعر. بل إن التصريح بغناء الشعر كان واضحا في أشعار العرب. وإن كنت في شك من هذا فاستمع إلى قول حسان بن ثابت رضي الله عنه:

             تغَنَّ بالشِّعرِ إمّا كنتَ قائلَه      إنَّ الغِناءَ لهذا الشّعرِ مضمارُ

وفي العصر الحديث كان للغة دور مهم في ذيوع بعض الأعمال الفنية، وانتشارها دون غيرها، ففيلم الرسالة الذي أخرجه مصطفى العقّاد لم يكن ليكون له ذلك الذيوع والانتشار لولا السيناريو الذي وضعه عبد الحميد جودة السّحّار، وتوفيق الحكيم، وعبد الرّحمن الشّرقاويّ، ومحمد علي ماهر. وغيرُه الكثيرُ من الأعمالِ التي كُتِبَتْ مادّتُها بلسان الفُصَحاء، وبيانِ الأُدَباء. والكثيرُ من الأغاني الفصيحةِ التي اشتُهِرَتْ على الألسنة، كانت لغتُها الرائقةُ وشِعْرِيَّتُها الفائِقَة هي السببَ وراءَ انتشارها. لكنَّ الكثيرين انشغلوا بالمؤدّي والمغنّي عن المبدع والمؤلف.

ويأتي هذا اليوم يوم العربية في هذا العام الحادي عشر بعد الألفين ليعرض مجموعة من الأوراق التي تدور حول محور اللغة والفنّ. ولا ريب أن هذه الأوراق وقد جَعَلَت اللغةَ والفنَّ مادّةً تتحدّثُ عنها، سيكون للغة الرّائعة الأصيلة، والفنون البارعة الجميلة، نصيبٌ في لغتها، وأسلوبها، وعرضها.

رطِّب حياتك بالغناء إذا عرا                هَمٌ يُجَفِّف في الحُلوق الريقا

إن الغناء لمُحدث لك نَشوة          في النفس تُطفىء في حشاك حريقا

واترك مجادلة الذين توَهّموا               هَزَج الغناء خلاعة وفُسوقا

أفأنت أغلظ مُهجةً من نوقهم                 فقد أستَحثّوا بالحُداء النوقا