الإيقاعات الصائتة والإيقاعات الصامتة في ديوان (حين ينبت الأطفال)

الإيقاعات الصائتة والإيقاعات الصامتة

في ديوان (حين ينبت الأطفال)

للشاعر حسن مزهار

محمد يوب

[email protected]

صدر للشاعر المغربي حسن مزهار ديوانا جديدا تحت عنوان(حين ينبت الأطفال) عن دار إحياء العلوم،وقد تضمن هذا الوليد الجديد أربع وعشرين قصيدة تندرج كلها ضمن شعر التفعيلة أو الشعر الحر،الذي يعطي للشاعر مساحة أكبر من الحرية في التعبير صراحة عما يحسه من آمال وآلام عاشها او عايشها الشاعر واقعا وعبر عنها شعرا.

وأول ما يلفت انتباه القارئ هو عتبة العنوان الذي انزاحت فيه اللغة من التقرير و المباشرة إلى اللغة الاستعارية التي تكسر الحواجر بين أركان التشبيه،حيث إن الشاعر في هذا العنوان شبه الأطفال بالنباتات وهي تنبت وتنمو،مثلما تنمو البراعم في حقل من الزهور المتنوعة الأشكال و الألوان،وقد جاء هذا الانزياح اللغوي منسجما مع لوحة الغلاف التي تعكس بأسلوب سميائي ما تتضمنه الجملة الشعرية من دلالات تعبر عن مضمون وفحوى الديوان.

وكان للعنوان و الغلاف دورهام في تقديم القصائد الشعرية نفسها للمتلقي بألوان مختلفة ومتنوعة بتنوع ألوان الغلاف القوسقزحي.

 (حين ينبت الأطفال) ديوان يمزج بين الشعري و التربوي و الوطني و الاجتماعي....ديوان تتعدد فيه الأصوات بتعدد المقاطع الصائتة التي تظهر على فضاء المقاطع الشعرية، و اأاصوات الصامتة التي يستنتجها المتلقي من خلال الفراغات و البياض البلاغي الذي يتركه الشاعر قصدا من أجل توريط المتلقي في عملية الإبداع الشعري،حيث يصبح القارئ طرفا في بلورة الرؤية الى العالم.

رؤية قائمة على الصراع و التنافض الداخلي لكنها منسجمة ومتناغمة على المستوى الخارجي،حين تتحرك الصور وتنهض لتحرك مشاعر الشاعر حينما يتوجه في اتجاه لفت انتباه المتلقي للمغزى من الوطن وامتداداته عبر الهضاب و الصحاري،الوطن الذي يستحق الرفع من قيمته وحمايته،و العمل على تمهيد الطريق لبنائه في حلة جديدة تروم الاصلاح و المستقبل الزاهر.

وقد رفع مجموعة من اللاءات في وجه أعداء الوطن وأعداء الحرية،من خلال الترميز الشعري الذي دافعت عنه البلاغة العربية دفاعاً جمالياً وهوالذي يعدل فيه القائل عن الوضع اللّغوي والنّحوي المعتاد، الى الاستعمال الجيد للصور الشعرية المعتمدة على الالتفاف اللغوي والتقديم والتأخير والفصل والوصل والحذف والاستعارات ...وغيرها من المباحث التي انفلتت من سطوة علم النحو لتستأثر بعلم سمي فيما بعد بعلم المعاني، وهو العلم الذي انتصر لجماليات الاستعمال اللغوي بعيداً عن التقييدات اللّغوية والنّحوية على حدٍّ سواء، ويظهر هذا الانزياح في الديوان من خلال اسم ابن عربي الذي يرمز سميائيا ودلاليا الى الانسان العربي عامة و المغربي خاصة، الذي يحب الجميع لكنه يكون عصيا على التطويع عندما يتعرض للمهانة وطأطأة هامة الراس و الكبرياء الانساني.

(انا ابن العربي لست عدوا لاحد

انما

احب وطني كثيرا كثيرا) حين ينبت الاطفال ص19

إنه العربي الذي يسعد عندما يرى البسمة على شفاه الفقراء،ويتألم عندما يرى الحزن يتعصرهم،فتخرج الكلمة حارة وكأنها طلقة مدوية في وجه الأعداء.

ونلاحظ هنا بأن الشاعر لا يستخدم الرمز بشكل اعتباطي و إنما يستوحيه من الماضي عبر بوابة التاريخ و الأسطورة الى الواقع المعيش ليؤدي وظيفته البلاغية، وحينها يصبح الرمز وسيلة فعالة محملة بحمولة فكرية عميقة.

وهنا يمتزج الثقافي بالاجتماعي في اطار دراسة سوسيوثقافية فيربط الشاعر بين الشعر و المجتمع في اطار أدبي يصبح فيه الشعر مواكبا للمجتمع بل متقدما عليه يحدد له الرؤى ويرسم له الخطوات،فتكون العلاقة بين الشعر و المجتمع علاقة تكامل وليست علاقة انعكاس لمشاهد المجتمع بطريقة آلية،ان الشاعر في هذا الديوان عمل على رفع المجتمع من درجة المادية والتبسيط السطحي للواقع، الى درجة التخييل بان اضفى عليه ما يسمى بادبية العمل الادبي او ما سماهى تودوروف وجاكبسون بالشعرية أي ما يميز الشعر عن باقي الخطابات الاخرى السياسية و الانتروبولوجية......

ففي قصيدة رقصة الذاكرة ينقلنا الشاعر الى فضاء البيضاء المشحون بالصخب و الفوضى العارمة على مستوى البنايات الكارتونية التي تشبه القبور لشدة ضيقها، كما تبين القصيدة الانحرافات الاجتماعية التي باتت تعرف بها هذه المدينة الغول.

(في البيضاء....

آه في البيضاء،يتي الليل محملا باللاشئ...

وبالصخب اللاينتهي

عيون البيضاء تزفر بيارق

وشواهد قبور بلا اموات

ترسم خريطة للوطن

...ابحث في البيضاء

عن بنات باع بكارتهن الاعداء

للاعداء) حين ينبت الاطفال ص55/56

ان الألفاض المؤثثة لفضاء القصيدة تمثل الايقاعات الصائتة ويظهر أن لفظ البيضاء قد تكرر نظرا لأنه هو بؤرة الصوت في القصيدة ومحور الحديث،وقد نعت هذه اللفظة البؤرية بأنها صاخبة،حيث انتقل مستوى الصوت من تكرار اللفظة، الى المستوى الكاليغرافي حيث تصبح اللفظة تعبر عن نفسها صوتا وصورة،وهو ما يسمى في اللسانيات بالأنوماتوبية او محاكاة الكلمة للعلامة الظاهرة في الطبيعة، أما نقط الحذف فإنها تعبر عن المساحات الصوتية الصامتة،وهي تلك الفراغات التي تثير اهتمام المتلقي وتبعثه على ملئها بما يناسب من معاناة قد تزداد او تنقص حدة وتوثرا، كل قارئ يملؤها حسب موقعه في المجتمع.

وتصبح القصيدة الشعرية في هذا الفضاء المحموم بالصراعات وكأنها حلبة من الانفعالات و التناقضات التي تعبر عن رؤى و أبعاد كل قارئ،على أساس أن كل متلقي له مرجعية و ايديولوجية يعبر عنها ويحاول التنظير للمجتمع في ضوء هذه الأيديولوجية او تلك.