رِثَاءُ الحيوان

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

مِنَ الحقائق التي حملها إلينا التاريخ، وسرت مسرى الأمثال، قولهم: "العرب أمة شاعرة". وكذلك قولهم: "الشعر ديوان العرب". ولا مبالغة في ذلك: فالشعر هو الذي حفظ تاريخهم، وأيامهم، ومسيرة حياتهم.

***

 عزيزي القارئ: بدأنا مسيرتنا في ديوان الشعر العربي هذه المرة، وليس في ذهننا موضوع معين نحاول أن نلتقط من ديوان العرب ما نظمه الشعراء فيه، فما راعنا ـ ونحن على أول عتبة من عتاب الديوان، إلا رجل شيخٌ نحيل، يبكي بكاءً مرًّا إلى رسم حمار في رِقٍّ بيده، وأخذ ينشد بصوت متحشرج حزين:

عـزيـزٌ  علينا أن يغيبك iiالقبر
تموت  وما كحلت عينيك iiبالمنى
أقـولُ وفي نفسي الكسيرة iiكربة
ولو  صح أن تفدي فديتك iiطائعًا



ولـيـسَ لنا إلا البكاءُ أو iiالصبرُ
وما  نلت حبا من أتان هي البدرُ
"كذا فليجل الخطبُ وليفْدح الأمرْ
وقلتُ  فداك المالُ والنعمُ iiالحمر"

سألناه: عجبًا: من أ،ت يا رجل؟ وماذا تفعل هنا؟

ـ أنا أبو الأنوار السجستاني، أبكي حماري الذي وسدته الترابَ اليوم.

ـ أمجنون أنت يا رجل؟ أيرثي شاعرٌ حمارًا؟

ـ وقطًا، أو كلبًا، أو عنزًا، أو ديكًا.. ولو واصلتم السير في ديوان العرب لوجدتم في رثاء الطير، والحيوان الكثير والكثير.

***

 وصدق الرجل ـ يا عزيزي القارئ ـ فبعد خطوات قليلة. نلتقي بأبي نُواس الحسنِ بنِ هانئ، يبكي كلبه "خلابا"، ويقص علينا قصة مصرعِه بأنياب حيةٍ غادرةٍ رقشاء. يقول الشاعر:

يـا بـؤس كلبي سيد iiالكلاب
يا عينُ جودي لي علي خلاَّبِ
خـرجـتُ  والدنيا إلى iiتبابِ
فـبـينما  نحنُ به في iiالغابِ
رقـشـاء  جرداء من iiالثياب
فـخر وانصاعت بلا iiارتيابِ





قـد كـان أغناني عن iiالعقابِ
مـن لـلظباء العفر iiوالذئاب؟
بــه وكـان عـدتي. iiونابي
إذا بـرزتْ كـالـحةُ iiالأنيابِ
لـم تـرع لي حقا، ولم تُحابِي
كـأنـمــا  تنفخ من iiجرابِ

***

ونلتقي بأحد الشعراء، وهو في هم عميق، فقد رشَق صبيان قطه الأثير حتى قتلاه، وكان يسمى قطه "الخناق"؛ لأنه كان للفئران والثعابين في منزله بالمرصاد. فقال راثيًّا مهددًا قاتلي قطه:

 قضى الخناقُ يا لهفي عليهِ         ألا  ما  شد حاجتنا إليه

 يروع  فأرها ، ويقط  أفعى        سأثار عاجلا من قاتليه

***

وأولى من ذلك بكثير رثاءُ الشاعرِ أبي الحسن التهامِّي لقطة الذي سقط في بئر عميقة ومات، يقول الشاعر التهامي:

ولما طوالك البينُ، واجتاحكَ الردَى
ولـو  كنتُ أدرى أنَّ بئرا iiتغولني
ولـكـن أيـدي الحادثات iiبمرصد
فـهـل  نـافعي أني رثيتك iiبعدما



بـكـيناكَ  ما لم نبْكِ يوما على iiقط
بـمـثواكَ  فيها لاحتبستك iiبالربط
إذا أرسـلـت سـهم المنيةِ لم تحط
رأيـتـك توفي لي، وتحكم iiبالقسطِ

وإذا كان القط قد حظى بحطظ وافر من الرثاء، فإن الشاعر القاسمَ بن يوسفَ لم ينْس أن يرثي هرته التي كان هو الجيرانُ يحبونها، ويأنسون إليها. يقول الشاعر:

يـقـولون  كانت لنا iiهرةٌ
وكـنـا بصحبتها حامديـ
فـعنَّ  لها عارضٌ iiللردى



مـربـيـة عـنـدنا iiتالده
ـن، وكان بصحبتنا حامدنْ
فـأمـسـت بتربتها iiهامدة

وللقاسم بن يوسف كذلك قصيدةٌ طريفةٌ يرثي فيها عنزهُ السوداء التي وافتها منيتها فجأة، وهي قصيدة لم تَخْلُ من طوابع غزلية. ونقتطف من هذه القصيدة الأبيات التالية:

عـيـن  بـكى لعنزنا iiالسوداء
أذن سـبـطـة، وخـد أسـيلٌ
أصبحت في الثرى رهينة رمس
كيف  لي بالعزاء، لا كيف iiعنها
كـيـف يرجو البقاءَ سكانُ iiدارٍ




كـالـعروسِ الأدماء يوم iiالجلاءِ
وابـتـسـامٌ عن واضحات iiنقاءِ
وثـنـاهـا  حـي لدى iiالأحياءِ
سـلـبتني السوداء حسن iiالعزاء
خـلـق  الله أهـلا iiلـلـفـناءِ

***

 ونرى لأبي بكر العلافِ قصيدة في "رثاء هر" كما نقرأ في العصر الحديث قصيدة للعقاد في رثاءِ كلبه الذي كان يسميه "بيجو" وحتى لا تضيق بنا الجولةُ في ديوان العرب، نقفُ لدقائقَ أمام ما قاله بعضهم من رثاءٍ في الطيور، فالأصفهاني يقول في"ديكهِ الذي سماه (أبا النذير).

خطبٌ طرقتُ به أمر iiطروق
فـكأنما  نوبُ الزمانِ محيطةٌ
ذهبت بكل مصاحبٍ ومؤانس
حـتى  بديكٍ كنت آلفُ iiقربة



فـظ  الحلولِ على غير iiشفيق
بـي راصداتٌ لي بكل iiطريقِ
ومـوافـقٍ ومرافقٍ iiوصديق
حـسن إلى من الديوك iiرشيق

ثم يلتفت الأصفهاني إلى ديكه "أبي النذير" فيوجه إليه حديثه الباكي ويقول:

لـهفي  عليكَ أبا النذير لو iiانه
أبكى إذا أبصرتُ ربقك موحشًا
ويـزيدني جزعًا لفقدكَ iiصادحٌ
صبرًا لفقدك لا قلى لك بل iiكما
لا  تـبـعـدن وإن نأتك iiمنيةٌ




دفـع الـمنايا عنك لهف iiشفيق
بـتـحـنـن وتأسف iiوشهيق
فـي  منزل داني المحل iiلصيق
صـبـر  الأسير لشدة ومضيق
فـي مـنزلٍ نائي الحل iiسحيق

***

 وقبل أن نتركك في أمانِ الله أن نشيرَ إلى أنَّ هذا الغرضَ الشعري، ينم على عاطفة إنسانية بمفهومها الشاملِ عند الشاعر العربي، ولا عجب، فالرحمة في ديننا تتسع للحيوان كما تتسع للإنسان.

 وقد نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن أن يتخذ المسلمون الحيوانَ الحيَّ هدفًا للتدريب على رمي السهام. وهو القائل "في كل كبدٍ حَرَّى أجْر" وهو القائل "عذبت امرأة في هرة حبستها حتى ماتتْ جوعًا، فلا هي أطعمتْها، ولا هي تركتها تأكلُ من خَشَاشِ الأرض" أي من حشراتها.