شعر التفعيلة عند الأديب الشاعر محمد الحسناوي

شعر التفعيلة عند الأديب الشاعر

محمد الحسناوي

(ديوان في غيابة الجب أنموذجاً)

محمد الحسناوي رحمه الله

هيفاء علوان *

لابد قبل أن نتناول هذا الديوان بالدراسة أن نلقي ظلالا على مدرسة الشاعر ومذاهبه الشعرية .

ينتمي الشاعر إلى مدرسة الفن للحياة ونادرا ما تراه يجول في مدرسة الفن للفن .

كان يمزج في شعره وأعماله بين الأصالة والمعاصرة وتجلى هذا في إبداعاته وفي ديوانه في غيابة الجب وكان سباقا في تناوله شعر التفعيلة ومبدعاً فيه .

نافح في أعماله  عن هذا الدين العظيم، ويبدو هذا جليا في ديوانه ( عودة الغائب ). وفي جميع أعماله الأدبية .

وكان محمد الحسناوي- رحمه الله - من أوائل من نافح عن الأديب الكبير علي أحمد باكثير وأكد أسبقيته في  تناول شعر التفعيلة وكان يذكر في بعض سهراته الأدبية مع العائلة كيف أن كثيراً من الأدباء مظلومون ومنهم الأديب الروائي نجيب الكيلاني وغيره كثيرون .

تناول جميع الألوان الشعرية وأغلبها الوطنية والوجدانية، كما تناول الرثاء وفي شبابه كان أكثر  شعره  وجدانياً رومانسياً موشى بالصور والأخيلة ، التي تضفي على نتاجه الهيبة والجلال . 

لو عدنا إلى الديوان نقول :  الحقيقة إن كل قصيدة من قصائد ه نفثة حرى وجمرة تلظى في داخل الأديب محمد الحسناوي رحمه الله .

كان –رحمه الله – يلج باب  المشاق الإنسانية الذي فتح على مصراعيه عبر مجموعة من قصائد ينفثها من فلب يغلي كالمرجل من الهموم والآلام التي حزت كبده وكبد كل معذب في هذه الحياة  الفانية ، ونراه في هذه الزفرات يقترب من عوالم الإنسان الغائرة بالأسرار .

وقد كشف لنا زوايا منسية مكتظة بتفاصيل قد لا يدركها كثير من الناس أو قد يغضون الطرف عنها أو يتعامون عن تفصيلاتها .

بل إن هذا الديوان يجسد لنا مدخلاً للدخول إلى فضاء الرؤية الشعرية للشاعر ، وإنا نرى أن القصائد تتجه لاستحضار القوة الغائبة ، وإن القارئ لقصائد الديوان يرى أن الخطاب الشعري ينبعث من إيديولوجيا تنبع أفكارها من الإسلام .

و مما يميز الأسلوب في هذا الديوان  أنه زاخر بالصور والأخيلة التي تصف ما بداخل الأديب من أسى وهم وغم .فأضفت على النص جلالا وبهاءا . و يأتي  نشاط الصورة مشحونا بالفكرة وكأنه يعيد صياغتها من جديد

وقد نثرت في حنايا قصائد الديوان الحكم الرائعة التي ترشد الناس ليكونوا على جادة الصواب .

 انظر القصيدة الأولى  ( تعال )

 ذئاب عوت في شرايين حلمي ،

 توجع بابي الضعيف

 غرقت بدوامة من ظنون

 كأفعى من جبال ، تدافع سيل الرفاق .

القصيدة الثانية ( إلى أين ) .

مضيت بقلبي ورأسي رعود .

 هبطت صعدت وحولي الجنود.

3- وفي القصيدة الثالثة خمس دقائق :

ركضنا نزلنا على دفعتين

دخلنا جلسنا على جمرتين .

إنه الألم الدفين فلا يجد الأديب  ما يشبه به هذا الأسى سوى الجمر الذي يكوي ويشوي وينذر بالهلاك .

4- أسماء

إلى .  .  الجب حيث الرطوبة حيث الظلام .

وحيث علينا السلام .

إنه يعلن  النهاية في الدنيا لكل مبتلى ومظلوم ، الألم والأسى  ثم  الهلاك في هذه الدنيا الفانية.

-5- العبور :

عبرنا النهار إلى الظلمات .

 إلى غرفات وطاء على الجانبين

  يكبل أقدامها الماء .

 يكممها السقف مثل العصابة

 على وجه طفل غريق .

ظلام  :

ظلام  ظلام   ظلام  وما من كلام

ظلام  ظلام   ظلام  وجدراننا لا ترام

كأسوار بابل  كأجبال عاد

وأبوابنا رحم الله اسكندر ذا القرون ظلام  ظلام

وفوق جبين الجدار شظايا مواكب

ومن كتبت عليه خطى  مشاها .

تلاحظ أيها القارئ توظيف شاعرنا للتراث خير توظيف في البيت الأخير .

عبث :

القصيدة لاعبث وإنما في رأي الماضين هكذا تكون الدنيا عبثاًَ عندما تذهب حلاوة الحياة . حكم ينثرها الشاعر  لتصحو العقول وتستيقظ من غفوتها  .

8-هبوط :

انظر إلى التصوير الرائع

تثاءب باب   ، أطل غراب .

هبطنا بطرفة عين إلى دركات الأديم  .

لكن دمع النفوس تحدر

 ، وراء العيون تحدر .

وشارف طوفان نوح فأبشر .

دائما وأبداً ينتصر الإيمان هكذا ينهي نفثته الشاعر محمد حسناوي  .

9- شيء يجيبني :

 وومضات أخرى في قصائد أخرى

10-11- انفض عني الشتائم

مضى بي حصانان يستبقان

فكان حصان الأنا بين كر وفر 

 وكانت ثيابي تدبر أمري .

عجبت لنفسي تصير اثنتين

 فقِدما

توحدت روحا وجسما

كما اعتنق الكون جرماً فجرما

لك أن تنظر أيها القارئ إلى الرمز الرائع وإلى هذه الصور المجنحة ، وإليه وهو يسبر غور النفس الإنسانية  

وأجمل قصائده رقم 12  إذا كان :

إذا كان حزبي الربيع

وكان ألد خصومي الصقيع

إذا كان سيفي الغناء

وشطر صلاتي السماء

ونصحي وشتمي حداء

إذا غصن عند بابي اتكى

ومثل مآقي السماء بكى

إذا أنا لم أحرق الياسمين

إذا نصبوا للهواء الكمين

 إذا صلبوه وطار

نسيما طليقا

عليلا رشيقا

هذه القصيدة رائعة وأكثر من رائعة معنى و وزناً ، صورةً وخيالا ورمزا .

ثم تأمل القصيدة التي تليها :

13- بسمة :

اليوم عيد عندنا

تضرجت وانفلتت من سقمها خدود

اعشوشبت فينا المنى .

لكنما العرار و القيصوم

ونسمة البادية الرؤوم

وبحة الماء إذا ثغا الخروف

وهبجة المهباج للضيوف

تفاوحت تفاوحت تديف

مآثر الجدود

قال له الرفيق حين عاد

اقطف لنا   وردة

فما عبس ولا بسر.

ولا أدام في مآقينا النظر

لكنه واعجبا اندهش

دهشة عذراء 

حياؤها انخدش

فما الذنب ذنبي  !  .

وكذلك أحسن –رحمه الله – في هذه القصيدة الرائعة ونرى أيضا توظيفه آيات من كتاب الله  ( فما عبس  ).

الحقيقة إن هذه الصور المجنحة تجعل من هذا الديوان أنموذجا للفن الراقي وللإبداع الذي اتسم به أسلوب أديبنا محمد الحسناوي .

وفي قصيدة ( وردة )  .

أواه مما قال أواه

ليت الذي أعطاه إياه

ما كان أعطاه .

 .وفي القصيدة السادسة عشرة

16 - وراء الظل

ودبت الأيام

كسيحة الأقدام .

وفي نجاواه تلمس تضرع ودعوات حرى إلى الله .

رباه   .  .  يا وهاب .

يا راعيا يوسف الأواب

 في الجب  و في الأصلاب

رد لنا يوسفنا

بصرنا

كما رددته على يعقوب "

يا  رب  يا وهاب .

 كذلك تلاحظ توظيفه  كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين ولا  من خلفه ، ونلمس من خلال هذا الديوان بعض سجايا الأديب خضوع وتذلل اتسمت به شخصية الأديب الراحل .

ثم ما أجملها :

ودبت الأيام كسيحة الأقدام  و   .  و 

17- : وفي قصيدة في الطريق

 لعلنا نقرأ في وجوهكم ما تضمر .

لعلها تفضي بما طواه عنا القدر .

لعلنا نشيم فيكم أهلنا

وفي الدهليز :

ما للهواء  ينحبس

منصدئا

 كأنه من قعر قبر  ينبجس

 حتى الشوق يموت :

 وفي قصيدة الدهليز أيضا :

 .

الشوق كيف الشوق مات ؟

العطف أين العطف مات .؟

الأمس  يا للأمس مات

واليوم بئس اليوم يستطيل

با لدم .   . كا لوحول               

شاطئه الماضي الكليل

وفي قصيدة بسمة

قال له الرفيق حين عاد

اقطف لنا وردة

فما عبس ولا بسر.

ولا أدام في مآقينا النظر

لكنه واعجبا اندهش

دهشة عذراء  

حياؤها انخدش

وكذلك أحسن –رحمه الله – في هذه القصيدة  ونرى أيضا توظيفه آيات من كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه                      بالدم  كالوحول

 و قال الشاعر – رحمه الله – في هذه القصيدة  أيضاً :

الدرب دهليز طويل الرقبة

 يسلكه الناس فرادى وثنا

 يقتحمون العقبة

أم يعبرون العتبة  .

يا أيها المدار

در دورة أخرى

در دورتين

عجل بنا

خذنا فلا أشقى ولا أضرى

من هذه الدنيا

ما أعذب الوفاة

19 – في الدرك الأسفل :

الكون ثعبان وأخطبوط

الذكريات رجفة ملذعة

الشمس كالهواء ملح أزرق

ملح مزرر على الزجاج

الشمس كالأزرار

ونحن كالأزرار

ما أسهل التعبير با لأزرار

نرى في هذه القصيدة وفي كل قصيدة من قصائد الديوان نرى طيف يحملنا الشاعر بإتقان مع الصور إلى عالم من التأملات يفصح فيها عن شخصيته فنرى الدنيا صغيرة ، و مع ذلك نجدها قاسية  .  

وفي قصيدة ليالي الجب :

أصقعت الجدران مادت

الثلج يندف

السقف يرجف

طال بنا السكون

تقطعت أرجوحة الظنون

تساقط الإعياء في الظنون .    .   .

اتسم شاعرنا بالرومانسية  كما نرى في هذا المقطع

نافورة الماء انثنت بعد ارتفاع

مثل سناً كسره البلور

سرنا مسار جدول الأزهار

ضاحكة أكثر من آذار

تمايس الطاووس ينفض الغبار

ديباج سندس وجلنار

 وفي موضع آخر من الديوان قال محمد الحسناوي –رحمه الله - :

اللحف المنجدة  ثقيلة ممددة

هناك يوأد الضجيج

هناك يفرخ العذاب

أقول وحين لايعود  للإنسان أية قيمة وتهدر قيمته يقول على لسانه الشاعر:

ياأيها المدار

در دورة أخرى

در دورتين

عجل بنا

خذنا فلا أشقى ولا  أضرى 

من هذه الدنيا

ما أعذب الوفاة

لو تسمع الوفاة

هذا لسان حال الإنسان أي إنسان ممتحن معذب ولكن المؤمن  يحتسب أجره عند الله . 

خواطر :  

لانت لي الأرض كهفهاف الحرير

وأعظمي لانت

والغرفة المربعة

تمددت تعطرت ، طارت

كمركب وثير.

وحينما غمرت الكون السعادة والفرح أصبح الرحيق والشهد يغزو كل بيت

-صباحك سكر  :

صباحك سكر

صباحك أندى وأنضر

صباحك سكر.

أنقى من الفل والياسمين .

ومما رواه العبير

وما انهل من كوثر الذكريات

وأطهر .

صباحك كوثر

وموكب شعر معطر .

برشة عنبر

صباحك سكر

إذا جئت جاء الشباب

وطاب الشراب

ومات العتاب

وصلى وكبر

حقاً إن الشعر هو الشاعر .تقطر هذه الكلمات شاعرية ندية 
 ويأتي نشاط الصورة عند الشاعر مشحونا بالفكرة وكأنه يعيد صياغتها من جديد .

نلاحظ في هذا الديوان فلسفة الشاعر للحياة وتجلياته الشعرية ، ونرى كذلك قراءته للتجربة الحياتية والرؤية الشفيفة لقضايا الإنسان .

وإننا لنلمس في تجربته النضج الإبداعي وفلسفته في هذه الحياة المليئة بالأسى والظلم فقد لمس ويلمس كل حي في هذا الوجود أن زماننا لا نجد فيه إلا العجز والوهن والكسل  الذي انتابنا وليس مصدره الأعداء كما ترسخ في عقول الكثيرين منا ، بل هو الوهن الذي مصدره الكسل وضعف الهمة والخلود إلى الراحة  والقناعة بالقليل من المعرفة والعلم ، وعدم القناعة بما في ذات  اليد ، والشراهة واللهاث الدائمين وراء ملذات الحياة الدنيا.

و يشهد الواقع العام أن شريعة الغاب قد استشرت  بل عمت عالمنا، وابتلي بها الغربي  والشرقي والمسلم وغير المسلم ودائما وأبدا يكسر جناح الضعيف الذي لا يجد من ينافح عنه .

لابد من القول أن الشاعر استطاع أن يجسد في مخيلتنا صورة الأسى والحزن والضياع والظلم التي عاشها  .

إن تجربة الشاعر محمد الحسناوي غنية الدلالة عميقة الطرح تثبت أن توهج الإبداع يزداد بحنكة الأيام وعبق السنين فقد نمت تجربته الإبداعية مع سني عمره وازدادت تألقاً ، و يشهد له بهذا كثير من الأدباء والمهتمين بالأدب الإسلامي ، وليس هذا رأي رفيقة عمره وحسب كما يظن بعض الأدباء .

                

* عضو مؤسس في رابطة أدباء الشام