تكوين حلم

المسافة بين الألق والأحزان

نوره شاهين

اتخذ الخطوة الأولى بالإيمان، لست مضطراً لأن ترى السلالم التالية كلها.. فقط اصعد الأولى (مارتن لوثر كينج).

في القول السابق لمارتن لوثر كينج، إشارة إلى حتمية البداية والحلم، ومن ثم النجاح، فأصعب خطوة هي البداية ، ثم يسهل ما يليها من خطوات، فهل يمكن للإنسان في وقتنا المليء بالتناقضات أن يحلم ويكون متفائلاً في نسج حلمه ورؤياه، وماذا إذا كان ذلك الإنسان شاعراً مرهف الحس رشيق الكلمات ، وما هو ذلك الحلم.. هل حدثنا الشاعر عن تفاصيله..؟ ومن أين استمد ينابيع حلمه وغذائه..؟

نحن أمام مجموعة شعرية مميزة، وكان تميزها سبباً لفوزها بالمركز الأول في الشعر في جائزة الشارقة للإبداع العربي، ولعل ما يتبادر إلى الذهن إذا ذكر الشعر حالياً.. سيل من الدموع والأحزان، ومتاهات لنفس حائرة وألغاز تحتاج إلى تفسير وما يتصف به الشعر وعوالم الشعراء هذه الأيام غالباً، ولكننا في ديوان الشاعر صهيب محمد خير يوسف والمعنون ب «تكوين حلم».. نجد قلباً متفائلاً، ونفساً واثقة، وحلماً ينسج بخيوط من أمل، ولا يخلو الأمر من بعض الجمل الشعرية الحزينة المتناثرة هنا وهناك، وذلك لأن من طبيعة الحياة أن تحزننا أحياناً، فمنا من يستسلم للحزن ، ومنا من ينفض الحزن ويبدأ من جديد.

في معظم قصائد الديوان والتي تندرج تحت شعر التفعيلة، أشار فيها الشاعر إلى حلمه، سواء مصارحة في عنوان القصيدة أو تضميناً في ثناياها، وذلك من دعائم الديوان الأولى، ثم ترتسم ملامح الدعامة الثانية بابتعاد الشاعر عن أسطوانة الأحزان والآهات والمتاهات والحيرة والرموز الغامضة إلى غيرها من عادة الشعراء في أشعارهم اليوم، وليس معنى ذلك كراهية التعبير عن الحزن والألم والمعاناة، فهي صفحة موجودة في حياة كل إنسان، من منا لم يبك يوماً أو يشعر بضياع و حيرة طال ذلك الأمر أم قصر، ولكن من المزعج الإغراق فيه والإدمان عليه.

فأنت أمام شاعر واضح في رؤيته، يريك ألواناً كألوان قوس قزح، فالقلب أخضر في أحاسيسه ومشاعره، والروح نورانية سابحة في فضاء من الإيمان والصفاء، والرؤية شفافة كزرقة الموجة الوليدة القادمة من بعيد، والجمل الشعرية رقيقة عميقة شجية..

وإذا تساءلنا عن مصدر التفاؤل والتوازن في مشاعر الشاعر، والتي انعكست على قصائده في الديوان، سنجد الإجابة تتكشف رويداً رويداً من بداية الديوان بالتدريج، ويمكن تلخيص ذلك في ثلاث نقاط هي حب الوطن والجانب الروحاني والتعلق برموز دينية وتاريخية أثرت في وجدان الشاعر.

ففي سياق حب الشاعر لوطنه، وهو أحد مجدافي التفاؤل في نفس الشاعر، تطالعنا أولى قصائد الديوان «بين القناديل» وفيها يبدو الشاعر محباً لوطنه دمشق متغنياً بجمالها خاصة مسجدها الأموي وأصوات الأذان منساباً بين مبانيها فيقول:

ورأيت المآذن تتكئ الياسمين،

تلوح بالسنديان إلى بردى،

وتردد بين القناديل تكبيرها

في مهب السفر

أما المجداف الثاني فهو الجانب الروحاني الذي يتجلى بقوة في الديوان، ففي قصيدة (إلى الله) يقول الشاعر:

إلى الله حين يكون المساء تقيا

وتكتمل العبرات

يمدون أيديهم في خشوع

يفرون منه إليه

وباباً فباباً يدقون

تطهر أرواحهم في الصعود إلى الكوثر العذب والمغفرة

وتذكرنا هذه الأسطر الشعرية بالقصيدة المعروفة للشاعر عمر الأميري- رحمه الله- (مع الله) ، وما فيها من شفافية وروحانية.

وفي قصيدة «في الطريق إليه» يبدو تعلق الشاعر بشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم وبصحبه الكرام- رضي الله عنهم- وحبه للسيرة النبوية وأحداثها الجليلة، مثل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وتظهر شاعرية الشاعر في اختياره لأصعب اللحظات في الهجرة النبوية ألا وهي عند خوف سيدنا أبي بكر على الرسول صلى الله عليه وسلم حين وقف كفار قريش بمحاذاة الغار ، ومع ذلك طمأن الرسول صلى الله عليه وسلم الصدّيق بكلمته الخالدة «إن الله معنا» والتي خلدها القرآن الكريم، إنها بالفعل من أهم لحظات الزمن التي مرت على تاريخ البشرية .. يقول الشاعر في هذا الصدد:

في الغار كان نبي وصاحبه

يرفعان دعاء سجودهما

يلمسان خيوط السكينة بعد الدعاء

ليقتربوا الآن كالهمس:

ثمة معجزة ستواجههم بتفاصيلها:

إنه معنا .. فاطمئن

وتبدو الرموز التاريخية والدينية، تضيء له الطريق، وتبعده عن الاهتزاز أو الضياع فهو يعرف من أين يبدأ وإلى أين ينتهي به الطريق .. فمثلاً في قصيدة «في الطريق إليه» وتغنيه بشجاعة عمر بن الخطاب رضي الله عنه- عندما هاجر إلى المدينة جهاراً ولم يهاجر متخفياً كبقية المهاجرين خوفاً من فتك قريش، فيقول :

«ربنا الله»

قال وسافر في هيئة الشمس

أي واضحاً كامل النور سار عمر

مر ذات نهار على آلهات قريش

ولم يعل من يومها هبل

مر ذات نهار .. جميلاً بإيمانه حين مر

أيضاً ذكر مثالاً رائعاً لصحابي جليل آخر هو صهيب الرومي الذي تخلى عن ثروته كلها مقابل أن يتركوه يهاجر إلى المدينة أخبرهم بمكان أمواله المخبأة ..

ومن الناس من يشري نفسه

تبعوه

ولكن في يده بعض ما يعبدون

خذوه وخلوا سبيلي

أنا لن أعود

فعودوا لما تعبدون

ومن الناس من يشتري نفسه

ومن الناس مستضعفون

على سجنهم يسجدون

كل ما سبق يوضح حالة الاتزان والرغبة في الحلم وعدم اليأس والسخط من الدنيا وأحوالها..

تفاصيل الحلم..

يفاجئنا الشاعر بأنه لا يعطينا تفاصيل حلمه .. ويكتفي بوصفه بشكل عام.. وذلك في بداية الديوان ..فنجده يقول في قصيدة ( صحوة حلم):

للتوحد في صحوة الحلم كن جامحاً وأنيقاً كحلمك،

واتبع حنينك حين تنادي الغياب

وفكر:

أيكفي السقوط الأخير لأطوي من أجله كل حلمي؟!

فالشاعر يشير إلى الحلم بمعناه المجرد، يمكن أن يكون حلمي أو حلمك أو حلم شخص آخر، فلكل منا حلمه الخاص، وربما يكون الحلم بالحرية والخير والجمال..

وذلك التعميم أفاد الشاعر ، فلم يدخلنا في خصوصيات معينة وفي نفس الوقت أرانا ذاته وما يعتمل فيها من زوايا اختارها بشفافية مشوبة بالجمال..

ولكنه يعود في آخر قصيدة، ويكشف لنا عن بعض تفاصيل حلمه قائلاً..

لو يعلمون بأي بشرى كنت أحلم؟

كنت أحلم أنني أوتى الضياء..

وأن أسير مع الضياء وأن أحلق في الضياء فربما أصبحت نوراً؟

سهران كي أجد الضياع

وكي أزف إلى الجياع عشاءهم،

إلى خيامهم بخوراً،

الحلم لي: وطن القصيدة، مشرق الكلمات..

في الأعتاب تلك الحب يغفو.. يغفو صغيراً.. يغفو فقيراً

وبالنسبة للمكونات البنائية، فمن نظرة فاحصة للديوان، يمكننا اعتبار نصوصه متوسطة الطول، من شعر التفعيلة وما تعطيه من موسيقى، والموسيقى الداخلية موجودة أيضاً بوضوح، التي تجعل للقصيدة وقعاً خاصاً في النفس والعقل، فمثلاً نجد قول الشاعر..

يكبر ..يمسح دمعة أم على حبة القلب:

لا تتألم

فلم ينته الحزن بعد

أمامك طوفان ليل، وخلفك جرح

وعيناك برق، وزندك سلم

إلى الله فاصعد

ويبتسم الطفل، تبتسم الأم، تهمس:

«حبة قلبي»

.. ولا تتكلم.

بسهولة نشعر بالموسيقى الداخلية، في تقسيم الشاعر، للجملة الشعرية إلى أجزاء صغيرة، متشابهة في الوزن، وتسير قصائد الديوان على نفس الوتيرة، دون افتعال، أو تكلف، ومن أمثلة ذلك أيضاً..

جمرة في يده

وعلى وجهه أثر

لفتى كان في أحده

ينتبه

في ليالي الحنين

فيرفع أحزانه

جمرة جمرة.. بيده

ويستمد الشاعر كما رأينا وقود شاعريته من رافد الدين، وتعلقه برموز دينية وتاريخية، وأيضاً محبته لوطنه وملامحه التي يرسمها بحب ووفاء. ويعلن الشاعر دعوته لإمكانية الحلم.. وكان ذلك بمثابة خيط رفيع جمع كل قصائد الديوان، ووحّدها في اتجاه واحد .. مما أكسب الديوان قوة الشعر الخفية.

المصدر: مجلة الرافد العدد 162 – دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة – الإمارات العربية المتحدة – ربيع الأول 1432ه - فبراير 2011.