منهجية الكتابة للأطفال

دراسات ولقاءات وشهادات ونصوص في أدب الطفل

جاسم محمد صالح وأدب الطفل

جاسم محمد صالح

[email protected]

فاضل الكعبي

ناقد متخصص في أدب الطفل

 هناك حقيقة ، واضحة كل الوضوح لدى المعنيين والعارفيين والمتابعين لكنها غير واضحة لدى البعض ، وقد تكون خافية ولايدركها البعض الآخر من الافراد المجتمع ، خاصة في مجتمعاتنا النامية ، وهي ان المجتمعات الانسانية المتقدمة لاتعتمد في رقيها ، وفي تقدمها وفي نهوضها الحضاري ، على ما هو متطور من وسائل التكنلوجيا ، وتقنياتها العصرية ، وأدواتها الالكترونية المتقدمة فحسب ، انما تعتمد في كل ذلك ، بشكل أساس على الانسان بوصفه ، المحرك الاول والمفكر المبدع الذي أوجد الفكرة الخلاقة التي كانت أساس الحركة والجهد والفاعلية والتخطيط المنشط للسلوك الابداعي والانساني العام والخاص في مجمل زوايا ، واتجاهات الحياة .

 بهذا الاعتقاد وبهذا التوجه قد أدركت المجتمعات المتقدمة ان الانسان في كل عمليات الرقــــي ، والتقدم ، والنهوض ، هو الغاية والهدف ، وهو أساس قاعدة الانطلاق ، واليه تعود نتائج هذا الانطلاق فبنت أسس ثقافتها بالاعتماد على قوة الانسان وعطاء مخيلته الخلاقة ، وقد تعزز ذلك لايمانها الرسخ ان الانسان هو الذي يصنع ارادة التطور ووسائل التكنلوجيا، ويحركها ، ويطورها، كيفما شاء ، ووقتما شاء بارادته ، وقوته ، فهو مصدر الحركة والطاقة والفاعلية لذلك فان ارادة الانسان وقوته تسبق فاعلية الأله وقوتها في كل الحالات..

 ان ارادة الانسان وقوته الفاعلة والمؤثرة في اتجاهات الحياة ، لايمكن لها ان تنمو ، وتتبلور ، وتأخذ دورها ، ووظيفتها الابداعية الخلاقة ، من دون ان تجد من يتكفلها ويتعهدها بالرعاية والاهتمام والتشجيع والدعم ، منذ بداية خطواتها الاولى على طريق الحياة ، أي منذ نشء الطفولة الاولى ، بوصفها قاعدة النشؤ والبناء الصحيح لكيان الانسان . وهو يخطو ، ويترعرع ، وينمو ، ويسمو ، نحو مقامات المتعددة ، والمتعاقبة ، تضع المجتمعات المتقدمة جل اهتمامها ، وانطلاقة تفكيرها ومجمل وسائلها ، وستراتيجيات ومتقدمة ، وصحيحة بكل المقاييس ، وبالمستوى الذي يليق بما تريده لها من نتائج ، وغايات ، ومظاهر تظهر في ظواهر المجتمع وسلوكياته ، الى تفكير ، وتأمل ، وتحرك لكي تراها متناسقة ، كل التناسق مع خططها وبرامجها التقنية والإنسانية ، والعلمية في صناعة الانسان ، وصياغة تطوراته في صناعة الحياة المتقدمة لانسان هذا المجتمع.

 هكذا تفكير مجمل الشعوب المتقدمة بالطفل ، وهي تحيط هذا الطفل بكل ما يستحق من الرعاية والاهتمام والدراية والدراسة ، والاستجابة السريعة ، والمناسبة ، لمجمل احتياجاته الاساسية في الحياة ، لانها تعلم ، علم اليقين ، ان صورة الطفل الحاضرة ، هي اساس الصورة الحقيقية التي سيكون عليها انسانها ومجتمعها في المستقبل ، سواء القريب او البعيد منه ، لذلك عليها ان تحرص كل الحرص من الان ، ان تعد عدتها ، وكل قدراتها وامكانياتها ووسائلها لتهتم بهذه الصورة وتصوغها حسب ما تريد لها ان تكون عليها في المستقبل الذي تريده لها ، لذلك راحت تهتم بعوالم الاطفال وعلومهم ، وبكل ما يختص بمناهجهم ، ووسائلهم ، وادواتهم ، التعليمية ، والتربوية والتثقيفية ، وعلى مختلف الاتجاهات والمناحي ، والاصعدة .

 من هنا نجد ان اهتمام هذه المجتمعات بمدارس الاطفال ورياضهم ، ومعاهدهم ، ونواديهم الثقافية ، والتعليمية ، والتربوية ، والاجتماعية ، والترويحية ، يأخذ مساحة اكبر في تفكيرها ، وفي عملها ، وقد اصبح اكثر اهتماما" من مدارس الراشدين ومعاهدهم ولكلياتهم ونواديهم واكثر من ذلك راحت تنظر الى المربين والمعلمين والكتاب والادباء والمثقفين الذين تختص وظائفهم وادوارهم الحياتية ، والانسانية واساس عملهم وتوجيهاتهم للأطفال وفي وسط الاطفال اكثر أهمية من نظرائهم العاملين في مجالات الراشدين .

 لذلك يعدون (البنّاء )العامل في عمليات بناء الطفل اكثر اهمية ، ومصابة من البنائين الاخرين العاملين في المجتمع انطلاقا" من أهمية الطفل والطفولة في الحياة العامة ، ومن صعوبة المهمة التي يقوم بها هذا (البنّاء المربي) الذي يدرك أهمية دوره وقيمة مايقوم به من وظائف في قواعد البناء الانساني للانسان ، درس ينطلق فيها من الطفولة ، ابتداء ، ومرورا" وانتهاء ووصولا" الى شكل ومضمون الانسان السوي ، المتقدم ، المتحضر ، الذي يأمله المجتمع ليكون قائدا" مؤثرا" ضمن القادة المؤثرين في سير هذا المجتمع .

 على هذا الاساس راحت المجتمعات المتقدمة تؤسس للثقافة الصحيحة التي تريد أن يتأسس على أساسها الانسان ، والمنشأ الصحيح لهذا الانسان ، المؤثر في طبيعة ، وسير المجتمع ، وقد ادركت مسبقا" اهمية هذه الثقافة وخصائصها في التوجهه المؤثر في اتجاهات الطفل من كل النواحي والاتجاهات فراحت تهتم بثقافة الطفل بشكل يوصفها ثقافة فرعية من ثقافة المجتمع ، بوتائر متصاعدة وعلى اسس علمية ومنهجية وعملية متواصلة وصولا" الى تحقيق النسب المتقدمة من النتائج الى تتأملها وترجوها من ذلك في شخصية الطفل .

 لعلنا لانبالغ اذا قلنا ان من بين ابرز السمات التي تؤثر بالثقافة العامة للطفل هي سمات الأدب ، وتحديدا" الأدب الخاص الموجه للطفل ، شكلا" ومضمونا" ، والذي يُنظر اليه في مختلف المجتمعات على انه الأدب الابوي والتربوي الاكثر أهمية وجدوى في حياة المجتمع بشكل عام اذ تكمن أهمية هذا الأدب ، أي أدب الأطفال بتلك الفاعلية الانسانية والفنية والاسلوبية المؤثرة في طبائع وقيم وانفعالات وتفاعلات وسلوكيات الطفل ، وطبيعة انشطته وتحكماته البايلوجية والسايكولوجية والانثربولوجية والي من خلال كل ذلك ، يجد نفسه ، مثلما يجده الاخرون كائنا" ايجابيا" في ابعاده الانسانية ، له تأثيره في طبيعة الحياة الي تحيطه ويدور في فلكها ... اما الجدوى من هذا الأدب فهي تأتي من اتجاهات متعددة تبعا" لطبيعة توجهات وتأثيرات هذا الأدب في ماهية وظائفه فهناك الجدوى التربوية والجدوى التعليمية ، والجدوى النفسية والجدوى الجمالية ، والجدوى الاجتماعية ، والجدوى الامتاعية ، وغير ذلك .

 اننا اذا ما أردنا تفسير وتحليل كل شكل من اشكال الجدوى هذه سيطول بنا الحديث ، ويأخذنا الى محاور متعددة واستنتاجات لاتتوقف عند حـد ، وتحليلات لسنا بصددها لكننا واختصارا" لكل ذلك ، يمكن ان تتوقف قليلا" ، وباختصار شديد ، عند حقيقة علمية قد تكون غائبة لدى الكثير وهي أن لأدب الاطفال تأثيرا مباشرا وتربويا على الطفل يفوق تأثير منهج دراسي متكامل يحمل صيغة الفرض على الطفل وكذلك يفوق تأثيره تأثير نصيحة مباشره يقدمها أب لابنه ويفوق تأثير اي شيء آخـر نستخدمه في وسائلنا المباشرة لتعليم الطفل أو توجيهه ،لذلك تفسير أدب الاطفال حياة كاملة للطفل .

 اننا حين نقول أدب الاطفال لانقصد بذلك كل مايكتب للأطفال إذ أن ادب الاطفال الحقيقي هو ذلك الأدب الذي يتصف بصفات عدة ، ويمتليء بمزايا كثيرة ، تجعل منه عالما" خاصا" يؤثر ويتأثر بعوالم الطفل ، وتصبح له سلطة وجدانية وأخلاقية ومدرسية وبيئية على الطفل ، بوصفه أدبا" قيميا" وسلوكيا" وجماليا" ، يتصف بصفات الطفل وطباعه وموصوفاته النفسية والاخلاقية والتربوية ويتفاعل مع غرائزة وحاجاته وسلوكياته باوجه متعددة لاتتقاطع مع الوجوه العامة للسلوك المرغوب فيه اجتماعيا" داخل المجتمع الانساني لذلك ُعّد الأدب المكتوب للاطفال اصعب بكثير من الأدب المكتوب لعالم الراشدين ، او ما يسمى بأدب الكبار - ان صح التعبير وصعوبته تتأتى من عدة نواح ، لعل في المقدمة منها ان الأدب يكتبه كاتب راشد لمتلق صغير هو الطفل ، والطفل منا ليس هو الطفل الذي نفهمه ككائن صغير ،أو فرد في مرحلة النمو ، انما هو كيان في كيانات متعددة ، والمرحلة في مراحل متدرجة وسلوك في سلوكيات عدة وغرائز وطبائع وأمزجة وقدرات متفاوتة في شخصيات متعددة تدور في ذلك الطفل والطفولة .

 من هنا تتأتى صعوبة التعامل مع الطفل ، او ارضاء انفعالاته ورغباته ، والاستجابة لحاجاته وكل ذلك يتطلب من كاتب ادب الاطفال الحقيقي ان يتماهى مع عوالم الطفل بكل افعاله وانفعالاته وغرائزه ويرتقي بلغته الى المستوى الذي يجعل منها لغة طفلية حية ، ومؤثرة في الايحاء والتجسيد وفي التوصيل وفي الفهم وفي الاستلام والتسليم الايجابي ، والمؤثر من ناحية الطفل ، وحسب طبيعة العمرية الي تتطلب من الكاتب النبه والمبدع ان ينتبه اليها ويدركها بدقة ، وأن لايتجاوزها الى الحالة التي تجعل من الكتابة تجسيدا" وممارسة تسير في اتجاه وحالة الطفل وتلقيه لها في اتجاه آخر , الى جانب ذلك كله هناك مسألة التفاوت في القدرات بين طفل وآخر سواء في المراحل المتعددة او داخل المرحلة العمرية الواحدة حين نجد الطفل الذكي اللماح، ونجد ايضا" في الفئة نفسها طفلا" آخـر أقل ذكاء ونباهة او عديم الذكاء والنباهه مثلما نجد الطفل الخامل الذي لايتفاعل مع المؤثرات التعليمية والتربوية والثقافية بذات المستوى والدرجة والاستلام الى تفاعل معها طفل آخر أكثر منه نباهه وكل ذلك يفرض على كاتب الاطفال ان يكون مدركا" لكل ذلك ولديه الدراية والفهم بكل هذه التفاصيل وطرق التعامل معها والكيفية التي يجب عليه ان يقوم بها ، ومن خلالها لمخاطبة الطفل خطابا" تربويا" أدبيا" ، فنيا"، جماليا" يسهم في اعداد الطفل وانعاش روحه ونفسه وقدراته وسلوكياته بكل ما ينميها او يهذبها وينشطها ، ويأخذها الى الطريق الصحيح في دنيا الحياة . وفضلا" الى ذلك هناك ماهو اكثر دقة وأهمية في وظائف كاتب الاطفال وهو يتوجه الى الطفل وينظر الى مراحل تضجه ونموه ، ذلك هو تحوله الانساني والسلوكي والانفعالي من مرحلة الى اخرى ، وما يفعله هذا التحول في طبيعته الطفل النفسية والخلقية والثقافية والانفعالية من مؤثرات وتأثيرات في ذاته الداخلية والخارجية داخل اطار بيئته الاسرية او في اطار بيئته الاجتماعية الصغيرة وما يحيط بذلك من مؤثرات تنعكس على سلوك الطفل ومدى تقبله او رفضه لهذا الادب او ذاك مما يغير او يوجه له من صفوة الأدب الخاص المكتوب للطفل .

 من هنا اصبحت مسؤولية أديب الاطفال الى مسؤولية كبيرة ومهمة ووظيفة صعبة وعصيبة على كثير من كبار الكتاب والادباء ، وقد سبق ان ذكرت ذلك مع العديد من الشواهد الحية والواقعية في أكثر من دراسة وكتابة في هذا الاتجاه ، ولا اريد تكرار ذلك هنا والمهم لابد من القول هنا ، وتكرار ما سبق ان قلناه وكتبناه مرارا" في هذا المجال وهو أن هناك العديد من الكتاب في عموم الوطن العربي عامة وفي العراق خاصة بل وحتى في العالم .. هناك من سعى واجتهد في جهده وكتب للأطفال غير ان اغلبية هؤلاء لم ينجحوا في اجتياز امتحان الاطفال لكتاباتهم ، وفشل في الدور الاول أدنى والدور الثاني ، وحتى في دور ثالث ورابع ، وما عاد يجرؤ على المحاولة مرة أخرى ومهما يكن من محاولاته فانه لا يمكن ان يستحوذ على اهتمام الاطفال ،أو ينال رضاهم على ماكتبه لان هذا الذي كتبه واعتقد – خاطئا" – انه حمل جوازه مرور الى وجدان الطفل وعوالمه واتصف بصفة الادب الذي يتوجه للاطفال فهو واهم ، وعليه ان يدرك ان الادب الحقيقي الذي يكتب للاطفال . ويتمنطق بمنطق المفهوم العلمي الدقيق لماهية ادب الاطفال وسماته ، لابد ان يكتب بمهارة عالية وبفنية مفعمة بالروح الطفلية الشفافة والمرحة والبرئية ، انطلاقا" من عوالم الاطفال ومن توجهاته اليهم بكل سحر وبراعة وادهاش وبحرفية اسلوبية ، تصوغ اللغة صياغة ماهرة مبدعة وبفنية عالية تتسابق مع فنية الخيال وعوالمه التي تسحر مخيلة الطفل ووجدانه وانطلاقا" من كل هذه الأسس وهذه المحددات وهذة الوظائف ، وهذه الواجبات التي يتطلب من كاتب وأديب الاطفال أن يتحلى ويتصف بها فقد اخفق الكثير من الادباء والكتاب في محاولاتهم للوصول الى عقل الطفل ووجدانه والانطلاق من هذا الطفل وعند الوجدان في مخاطبة الطفل والسيطرة على مجساته النفسية والادراكية والسلوكية وتحريكها تحريكا" أدبيا" جماليا" لغويا" تربويا" مؤثرا" في شخصيته وسلوكه .

 ومع هذا الاخفاق الذي واجه البعض ، ونحّاهم عن الوصول الى رحاب الطفل ، هناك قلة قليلة من الادباء البارعين الذين نجحوا في مهمة الكتابة للاطفال ومن هؤلاء القلة جاسم محمد صالح ، الذي يقف وراء كل ما أثرناه هنا تمهيدا" للدخول الى عوالمة في الكتابة للاطفال باعتقادي كأديب وباحث متخصص في أدب الأطفال خاصة وثقافة الاطفال عامة لايمكن الدخول الى عوالم أدب الأطفال خاصة وثقافة الاطفال عامة لايمكن الدخول الى عوالم أديب الاطفال مالم يمهد لهذا الدخول تمهيدا" عاما" يختلط فيه التغريب والتوضيح والشرح لافهام البعض ممن لم يفهم حقيقة الكتابة للأطفال ولم يصل ادراكه الى فهم ماهية المهار والوظائف والمسؤوليات التي يؤديها ويقوم بها كاتب وأديب الاطفال في شعاب المجتمع .

 على هذا الاساس فأن ما مر ذكره والاصالة في الحديث والبحث فيه هنا ، جاء لتوضيح حقيقة وما هية أدب وأديب الأطفال ، وسعى بنفس الاتجاه الى رفع الالتباس وتوضيح أوجه الغموض الحاصل حول أدب الاطفال وما يحيط هذا الأدب وكاتبه من قصور في النظر حين ينظر اليه والبعض اما السبب العام الذي دفعنا الى كل هذا الكلام فهو بسبب المسبب لكل اسباب هذه الكتابة هنا وهو جاسم محمد صالح في عوالم كتابته للأطفال .

 ان تقديم الاديب الى متلقيه ليس بالأمر الهين فهو يلقي على من يقوم بهذه المهمة اكثر من مسؤولية وهو يسعى الى أن يجعل الطريق سالكه أمام المتلقي القارئ وهو يتوجه ليخطو على هذا الطريق إبتغاء الوصول الى مكنون الابداع الذي ابدعه هذا الاديب ، وعلى هذا التقديم أن يستهل هذه المهمة ويفتح ماهو مغلوق أمام سيرها الحثيث في هذا الاتجاه وقد وجدت في هذه المهمة مسؤولية كبيرة ، عليها ان تتوخى الدقة والموضوعية والعلمية ، وهي تقدم واحدا" من صناع أدب الاطفال في العراق ، ذلك هو صديقي وأخي أديب الاطفال المبدع جاسم محمد صالح الذي أقدمه بكل اعتزاز ومحبة الى عيون متلقية من الشعراء الصغار والكبار في هذا التقديم الذي أراه شهادة حقة وصادقة بحق هذا المبدع النقي كنقاء الأطفال .

 قبل كل شيء لابد ان أعترف لكم بما هو جدير بالاعتراف - وبكل الصدق – انني في مأمَن من ايام ربما تجاوزت الشهر والشهرين ، وتوالت أيام أخر ربما أتت لتقضم بتواريخها أيام شهر آخر ، كنت في حيرة من امري ، حين وصلني مخطوط كتاب ( منهجية الكتابة للاطفال ) لصديقي الاستاذ جاسم محمد صالح .. وانا لم انته بعدُ من دراسة مطولة لي كنت قد بدأتها قبل اكثر من عام عن كيفية قراءة أدب الأطفال ، فهناك الكثير الذين يدركون حقيقة أدب الاطفال ولايحسنون قراءته او التعامل معه تعاملا" علميا" ، وادبيا" ، وموضوعيا" لذا نهضت لمهمة البحث في هذا الاتجاه وانا أغوص في اعماق هذه المهمة وما تتطلبه متطلباتها من تنقيب ، وتمحيص وتدقيق وبحث ، وتحليل ، واستنتاج وما الى غير ذلك من أمور البحث العلمي الذي ارتضيت واجتهدت ليخرج على احسن مايرام .

 وأنا في اطار هذا البحث ، ولم انته بعد واجهتني مهمة اخرى وزادت من قلقي وتفكيري وانشغالي فهل أرفض القيام بهذه المهمة واعتذر عنها ؟.. فكرت بذلك ، ولكن ؟! كيف ارفضها واعتذر عنها ، وفيها كنوز ابداعات تعلن عن نفسها من بعيد ، وعوالم الاطفال تظهر من كل اتجاهاتها ، وتلوح لي وتدعوني الى الترحيب بها ، فما كان مني الّا أن استقبلها استقبال محب فاتحا ذراعي وعقلي ، وقلبي ، وعيني لها وما قلمي الا مائدة قد جعلته لضيافتها طيلة الوقت عندي لايماني انها وما يشغلني في اتجاه واحد ، فكلاهما ينتميان لأدب الأطفال ويصبان في مجراه الذي لاينضب .

 وهكذا رحت خلال ذلك (أناور) هنا وهناك بين مواصلة الكتابة لاستكمال بحثي وانجازه مثلما خططت له وبين قراءة ماكتبه الصديق المبدع جاسم محمد صالح من أدب للاطفال لغرض الكتابة عنه في تقديم يليق به وبأدبه .. وبين هذا او ذاك ، وجدتني منهمكا" بين زحمة الافكار والتأملات ، والتحليلات ، والقراءات والمراجعات مرة هنا ومرة هناك ، وفي بالي انجاز المهمتين انجازا" حسنا" بل نويته ان انجز المهمة الثانية قبل المهمة الاولى لأن الأولى مهمتي والثانية مؤتمن عليها وعلىَ أن اكون أمينا" صادقا" او دقيقا" حريصا" مع الأمانة التي حملت مسؤوليتها باعتزاز وباعتزاز اتقدم بتقديم المقدمة هذه ، اولا" : اخلاصا" لأدب الاطفال وثانيا" اعتزازا" بأحد مبدعي هذا الأدب وأحد رموزه الواضحة في العراق.

 هكذا وجدتني على مدى أيام مضت مشغولا" بقراءة أدب أطفال جاسم محمد صالح ، وما كُتب عنه هنا وهناك وقرائتي له هذه المرة ، لها خصوصية استثنائية ، كونها تعد قراءة منهجية ، تتعدى مسؤولية تقديم هذا الأدب وكاتبه الى القارئ الكريم ، وهذا كله يدفعني الى الشعور بالمسؤولية العالية تجاه ما اقرأ ، وما اكتب وعلى تقديمي هذا أن يكون موضوعيا" ، علميا" ، بعيدا" عن ميل العاطفة ، وتحدنا من كل اتجاه من اتجاهاتنا الشخصية والعامة بل وانها اكثر من ذلك حين تنهض في اعماقنا لتحرك احاسيسنا ومشاعرنا وتوجه سلوكنا في احايين كثيرة ضمن دائرة العلاقة الاجتماعية والادبية والاخلاقية والانسانية باتجاهها العام ، لذلك لايمكن ان ننكر وقعها وتأثيرها في الرابط الادبي والانساني بيننا , فمن دون هذا الرابط لايمكن ان تكون هناك قوة انسانية تدفع الى تثمين الروابط وتسهيل عمليات التفاهم والفهم المشترك من أجل تعزيز العلاقات الانسانية بين البشر ، لذلك تراني قد توجهت هذا التوجه بكل صدق في الكتابة عن اخي المبدع جاسم محمد صالح ، وحسبي في هذه الكتابة ان اكون صادقا" موضوعيا" ، علميا" ، قاصدا" الدقة الحقيقية في كل ما أراه ، وما اكتبه عنه في مسار تجربته الابداعية في أدب الاطفال.

 عرفت جاسم محمد صالح منذ اكثر من ثلاثين سنة ، حيث كانت بداية تلك المعرفة عندما عملنا معا" في ثقافة الأطفال في بداية الثمانينات من القرن الماضي وقد وجدته انسانا" ومربيا" واديبا" ، بما تحمله هذه الدلالات من معان عالية كانسان ، وجدته متزنا" ، رصينا" ، هادئا" لا يميل الا لقيم الخير والانسانية الحقة يحب النماء والجمال والطفولة والصفاء والعلم وكل تلك المزايا والصفات دفعته الى العمل في سلك التعليم ليكون مربيا" فاضلا" في وسط الأطفال ، وهذا الوسط دفع بتجربته الابداعية الى الانصهار من جديد في التكون ثانية في عوالم جديدة ، هي عوالم الطفولة ، لينتج بذلك أدبا" حقيقيا" للطفولة ، اهله لأن يحمل بامتياز صفة كاتب أطفال تلك الصفة التي لا يمكن ان يحملها كان من يكون او يدعي بها ادعاء بمجرد الكتابة مرة أو مرتين للأطفال فنحن معشر أدباء الاطفال لا ننظر الى احقية الانتساب الى عالم أدب الاطفال والرسوخ في هذا العالم بمجرد الكتابة له وفي شؤونه ، بل أن أحقية الانتساب الى عالم أدب الأطفال حقيقة تحددها كتابة الكاتب ، وابداعات الاديب الذي حظى في اتجاهات هذا العالم ، وتمرس فيه ، وخبر شعابه وزواياه ، ومسالكه ، ومصاعبه وخيالاته ، وواقعياته وتمدد حدده واختلافها ، وغير ذلك الكثير من المتطلبات والتي لابد ان تنعكس في روحية الكاتب وتتجسد حقيقة ومعنى في كتاباته ، فهذه الكتابات هي التي تمدد موقعه من خارطة ادب الأطفال ، وكذلك فان كتابات الكاتب ، وابداعات الأديب الذي يريد ان يكرس كتاباته وابداعاته هذه لادب الاطفال هي التي تمنحه أولا" هوية الانتساب الى أدب الاطفال .

(3)

 هكذا هي نظرتنا الى أديب الأطفال الحقيقي فباعتقادنا أو برؤيتنا بعد تجربتنا الطويلة في هذا الميدان ليس من السهل ان نطلق صفة كاتب أو أديب اطفال على كاتب ما .. ما لم يحمل هذا الكاتب مبررات ودواعي واستحقاقات منحه هذه الصفة .

 قد يرى البعض ان هذا الكلام بعض المبالغة او التضخيم نوعا" ما .. والرد على ذلك لا يمكن ان نحدده بالقول انما بالممارسة ، ونعني بالممارسة هنا هي عملية الكتابة للاطفال ، فهذه العملية ليست سهلة ، ولا هي بالمستطاع أمام من يمارس عمليات الكتابة الأدبية لذلك فان ميزة اديب او كاتب الاطفال انه استطاع تجاوز المألوف الى ما فوق المألوف في عملية الابداع ، وهو بذلك يتميز على غيره من الكتاب بهذه الخصيصة والميزة الفائقة التي يحق له ان يفتخر بها ويفاخر غيره من الكتاب في اتجاهات الأدب الموجه لجمهور الراشدين .

 من هنا نقول دون ادعاء ان صفة اديب الاطفال صفة كبيرة ، وكبيرة جدا" لايحملها الا الكتاب الكبار ، الذين خبروا الكتابة وخبروا الطفولة معا" ، وكتابات جاسم محمد صالح لجمهور الأطفال هي الي ادخلته الى حدود أدب الاطفال ، وأهلته ليكون مؤهلا" يحمله صفة أديب اطفال فاجح ، يحسب بكل فخر على أدباء وكتاب الاطفال ، وهذه السمة وحدها ميزة خاصة تميز جاسم محمد صالح عن غيره من الادباء والكتاب في دنيا الادب يكتمل عام . فجاسم محمد صالح كان قد كتب القصة للكبار ، لكنه لم يتميز بها وكتب القصة للأطفال فتميز بها واصبح بذلك يحسب على ذلك كتاب أدب الاطفال في السوق ، فحين يُشار الى التجارب والاسماء الراسخة في ميدان الكتابة للأطفال في العراق سنجد تجربة واسم جاسم محمد صالح ضمن عداد هذه التجارب وهذه الاسماء وهي ليست بالاسماء الكثيرة بل هي على عدد الاصابع وعلى مختلف الاتجاهات الشوية والقصصية والمسرحية ، وللأسف الشديد لم تأخذ هذه الاسماء حقها من الاهتمام والرعاية قديما" والان ، ولم تسلط عليها الاضواء بشكل واسع ولم تنل نصيبها من الاهتمام النقدي ، وادعو الله ان يمكنني من أن اضع مجمل هذه الاسماء والتجارب المبدعة لأدب الأطفال عندنا في دائرة الضوء النقدي والخروج منها بدراسات مهمة تفي حق هؤلاء المبدعين الراسخين في ميدان أدب الأطفال العراقي – أقولها دون مبالغة – يستحقون هذا الاهتمام بجدارة وما أديب الأطفال الكاتب المبدع جاسم محمد صالح الا واحد من هؤلاء المبدعين ، وحق عليَ كزميل وكدارس وباحث في قضايا ادب الاطفال وثقافتهم ان أشير الى ابداع المبدعين وافتخر وأفاخر به ، وهذا ما عكسته وجسدته في مجمل ما كتبته من دراسات وابحاث ومقالات في اتجاهات أدب الأطفال .

 اذا انني اؤمن وارى ان اشارتي الى ابداع زميل مبدع هي اشارة لترسيخ وتعزيز هذا النوع من الابداع ، لذلك لايمكن لمبدع ان يكون مبدعا" حقيقيا" مالم يحاط بمبدعين حقيقين يسيرون معه بنفس المسار وان اختلفت التوجيهات ، فانها لن تختلف في الاشارة الى ابداع المبدع ، وان سعى وعمد هذا الكاتب او ذاك الى تجاهل ابداع زميل له عن قصد مسبق فهنا تكمن الحالة المرضية التي تكتنف هذا الكاتب أو ذاك وباعتقادي ان كاتب الأطفال الحقيقي لايسمح لهكذا حالات مرضية ان تتلبس نفسه وسلوكه لتشكل له حاجزا" يحول بينه وبين الاخرين من المبدعين .

 يحدث هذا في الغالب لغياب المعايير الصحيحة في معطيات أدب الأطفال وبسبب ضيق الرؤيا لدى البعض ولغياب النقد الموضوعي الحقيقي في أدب الأطفال ولتجاهل الكثيرين لمهمات ووظائف وادوار ماهيات أدب الاطفال وأهميته في المجتمع مثلما نوهنا عن ذلك مسبقا" .

 في الحقيقة ان اغلب أدباء وكتاب الأطفال عندنا أن لم أقل جميعهم يشكون من تجاهل ابداعهم وتهميش أدورارهم ولكن أقولها صراحة هنا أن البعض من هؤلاء الادباء والكتاب قد ساهموا الى حد ما بتوسيع مساحة هذا التجاهل لابداعهم ، وبتأكيد هذا التهميش لادورارهم من خلال ممارسات عديدة منها على سبيل المثال لا الحصر عندما يدعون غير المختصين للحديث في اختصاص ادب الاطفال أو عندما يقدمون انفسهم ويتحدثون عن تجاربهم من دون ان يشير الى تجارب مبدعين آخرين من زملائهم .

 ان هذا وغيره ضمن اسباب كثيرة ساهمت بتهميش ادوار أدب وأدباء الاطفال في الواقع الثقافي ، وجعلت اللبس والألتباس والنظرة القاصرة تلاحق ابداعاتهم وماكتابتي هذه عن تجربة المبدع جاسم محمد صالح في كل ما اعطى لادب الاطفال والا من له جديدة تتصل بمحاولات سابقة عملت فتمكنت من رفع اللبس والالتباس عن ادب الأطفال وتفسير تلك النظرة القاصرة التى مازال البعض ينظر بها الى كتاب وأدباء الاطفال هؤلاء المبدعين الذين ينظر اليهم في المجتمعات المتقدمة نظرة اكبار واجلال ، ويحيطهم بما يستحقون من الرعاية والاهتمتم والاضفاء وهذا ما يجب ان يلقونه من مجتمعهم .

 ان كان المجتمع لم يحتف بادباء وكتاب الاطفال عندنا فأنا سأحتفي بهم على طريقي الخاص في لآليء الكلمات على الورق مع انني قد سبق لي ان احتفيت بهم جميعا" مرارا" وتكرارا" بصورة جماعية ، غير انني الان سأحتفي بهم الان بصورة فردية واحدا" بعد الآخر اختفاء يليق بابداعهم ، فباعتقادي ان الكتابة عن تجارب مبدعي أدب الاطفال وتسليط بعض الضوء على هذه التجارب وتناولها تناولا" نقديا" وموضوعيا" وتقديمهم تقديما" ابداعيا" ، وفنيا" ، وانسانيا" امام القراء بعد ذلك احتفاء مهما" بهؤلاء المبدعين الذين سأمر عليهم واحدا" بعد الاخر تباعا" وقد جعلت الكاتب المبدع جاسم محمد صالح اول المحتفى بهم هنا في هذا التقديم ..

 بين يدي ّوان شاء الله سيكون بين يدي القاريء الكريم ، كتاب (منهجية الكتابة للأطفال ) والذي يجمع في صفحاته مجمل نصوص الاديب جاسم محمد صالح ، وما كتبه من مقالات وشهادات الى جانب العديد من اللقاءات الي اُجريت معه حول تجربته في أدب الاطفال .

 الكتاب على سعته وتعدد مناحيه ، وتباين محتوياته ، وتنوعها يقدم الكاتب جاسم محمد صالح في تجارب واتجاهات كتابيه وابداعية متعددة وان اختلفت سماتها ، وماهياتها واساليبها ، فهي لن تختلف في مسألة الأنتماء الى دائرة أدب الاطفال ، وهكذا هو محورها الجامع العام ، الذي يجمعها والاطار المميز الذي يؤطرها ويضمها في مساحته .

 احتوى الكتاب في مجملة على اقسام متعددة ، حيث جاء الاول تحت عنوان ( دراسات في أدب الطفل ) وجاء الثاني تحت عنوان : ( لقاءات في مجال ادب الاطفال) وجاء الثالث تحت عنوان ( كتاباتي للطفل كما يراها الآخرون – رؤية نقدية .) اما القسم الرابع فقد جاء بمحاور عديدة اولها : المجاميع القصصية والقصص المقروءة ، والثاني : نصوص روائية للطفل ، والثالث : نصوص مسرحية للطفل .

 اذن فأن هذا الكتاب قد قدم (جاسم محمد صالح) بصفات متعددة تبعا" للحقول الابداعية التي مارسها فقد قدمه دارسا" ، وكاتبا" ، وشاهدا" وروائيا" ، وكاتبا" مسرحيا" ، وكل ذلك يجمع لنا السمات الابداعية لتجربة جاسم محمد صالح في الكتابة للأطفال ، وبهذه السمات التي اجتمعت في هذا الكتاب اراد الاديب والكاتب جاسم محمد صالح ان يبين لنا حدود روآه لعملية الكتابة للأطفال ، وماهية طريقته واسلوبه في آليات هذه العملية الابداعية .

 ويعني هذا من بين ما يعنيه ان الكاتب هنا بهذا الجمع وهذا الظهور أراد أن يوضح لنا منهجيته الخاصة في الكتابة للأطفال ، وكما هو معروف ان لكل كاتب اسلوبه الخاص ومنهجيته التي تميزه عن غيره من الكتاب في هذا الإتجاه لذلك فقد جاء العنوان هنا تأكيدا" على ما ذهبنا اليه ، وما كان يدور في ذهن الكاتب وغايته حين قدم نفسه وتجربته بهذا الوضوح الذي جاء في عنوانه العنوان الي قدمت المنهجية على الكتابة بالصيغة التالية : ( منهجية الكتابة للأطفال ) أي ان مجمل ما جاء في الكتاب من كتابات ونصوص وشهادات هي توضيح وتحديد ، وتعبير ماهية هذه المنهجية التي اتبعها جاسم محمد صالح في كتاباته للأطفال.

 وفي ضوء هذا الفهم وهذا الادراك للاطار العام الذي اطّر تجربة الكاتب جاسم محمد صالح في مناحيها المتعددة فاننا ازاء ذلك أمام تجربة ابداعية مهمة ونشطة ، وواسعة لايمكن النظر اليها من زاوية واحدة ومحددة ، وتتاولها بذلك تناولا" أحادي الرؤية والجانب ، خاصة عندما نريد ان نتناول هذه التجربة تناولا" نقديا" منهجيا" ، يخضعها الى معايير ومقاييس المنهج العلمي وهذا لا يتيسر لنا بهذه العجالة ، وهذه القراءة السريعة ، فما كتبه جاسم محمد صالح ووصلنا في هذا الكتاب قد جاء في اتجاهات متعددة وفي معان تعبيرية مختلفة وفي اشكال فنية وكتابية عديدة وهذا يحتم علينا ان ننظر اليها من زوايا متعددة وان تتعامل معها تعاملا" خاصا" ووفق اوجه متعددة حسب ما تقتضيه اسلوبية ومنهجية هذه الكتابة وطرائقها الفرضية والشكلية في عمليات الكتابة .

 اذن هناك عدة اتجاهات وعدة رؤى وعدة اشكال وعدة مضامين وهذا كله يحتم علينا أن نستخدم عدة اساليب وعدة مناهج وعدة تحليلات ورؤى نقدية وبحثية مختلفة لدى دراسة ومعالجة ماكتبه الصديق المبدع جاسم محمد صالح لأدب الاطفال .

 ان هذه المقدمة لاتحتمل التعامل ،أو النظر الى تجربة جاسم محمد صالح الابداعية ودراستها باستفاضة نقدية ومنهجية واسعة لذا سأترك ذلك الى مجال آخر لحين القيام به في وقت آخر ان شاء الله وسأكتفي هنا في قراءة نقدية وموضوعية مركزة وسريعة تفي حق هذه التجربة ومبدعها الأديب جاسم محمد صالح .

 حين نقرأ ما جاء في هذا الكتاب ابتداء من قسمة الاول الموسوم: ( دراسات في أدب الطفل) نجد ان الإهم في هذه التسمية هي ان تكون : ( مقالات وشهادات في أدب الطفل) لأنني لم اجد دراسة واحدة وانما وجدت مقالات وشهادات لمقالات هي : ( اساطيرنا العراقية كنز مسرحي مختف) و( الهوية الثقافية للطفل ) و ( الحكاية الشعبية العراقية وأدب الطفل). و(منهجية كتابة التاريخ في ادب الطفل) اما بقية الكتابات في هذا القسم فهي شهادات الاول عنوانها : ( تجربتي في قصة الطفل) والثانية بعنوان : ( تجربتي في مسرح الطفل) وقد كنت اتمنى من الكاتب لو توسع اكثر في هاتين الشهادتين ، وخاصة أعمق مما كان في أعماق تجربته في هذا الاتجاه .

 اما القسم الثاني : فقد احتوى على مجموعة من اللقاءات المنشورة التي اجريت مع الكاتب الاديب الاستاذ جاسم محمد صالح في اوقات متفرقة ، وبتقديري انها لم تكن بالمستوى المناسب الذي يتوافق وتجربة الكاتب فقد جاءت بأسئلة تقليدية ومكررة ولم تتعمق في التفاصيل العميقة والاساسية لتجربة الكاتب وشخصيته ومع ذلك فهي سلطت بعض الضوء على جانب من افكاره وروآة وتجربته الابداعية .

 اما القسم الثالث والذي جاء تحت تسمية : ( كتاباتي للطفل كما يراه الآخرون – رؤية نقدية ) فهي مجموعة من الكتابات المتنوعة التي ادلى بها عدد من الكتاب النقاد والعميقن والتي جاءت لتحيط بتجربة الكاتب والاديب جاسم محمد صالح بالنظر النقدي والانطباع الشخصي ، وقد اختلفت الرؤى ووجهات النظر ، والانطباعات هنا ، وكثير منها لايحمل رؤية نقدية انما هي اراء وانطباعات شخصية قد تتفق ، وقد لا تتفق مع بعضها البعض لوجود بعض القصور في الآراء النقدية وعدم الغوص عميقا" في المادة الادبية محل القراءة والكتابة النقدية , و في الجانب الاخر من الكتاب وهو الجانب المهم الذي يمثل حصيلة التجربة الابداعية لصديقنا الاديب والكاتب المبدع جاسم محمد صالح فقد تنوعت مثلما ذكرنا سابقا" بين كتابة القصة والرواية المسرحية .

 وفي هذا التنوع نلتمس المجسات الابداعية التي تنبغي وتتحرك في مدار التجربة العامة للكاتب وتوضح ماهيتة هذه التجربة في شكلها ومضمونها وطبيعتها السردية خاصة ما يختص بطبيعتها والاسلوبية والمنهجية في الكتابة للأطفال ان هذا التنوع الابداعي الذي نهض به الاستاذ جاسم محمد صالح والذي لايمكن لنا ونحن نقرأة قراءة نقدية عميقة ومكثفة ان نقف عنده ونتناوله بهذه العجالة ، فهو يستحق بالفعل قراءة نقدية منهجية عميقة قد لاتستوعبها دراسة نقدية صغيرة ، وان شاء الله سنأتي اليها في مجال أخر لكي نحيط القارئ الكريم بما آلت اليه تجربة جاسم محمد صالح وما جسدته هذه التجربة من قيم ودلالات ورموز ومعاني وابعاد واتجاهات في اساليب الكتابة للأطفال وقضاياها .

 باعتقادي ان هذه العملية العميقة والممتدة لاتجاهات ومديات متعددة لايمكن تناولها هنا في هذه المقدمة حتى وان طالت اسطر ومحاور هذه المقدمة فهي لايمكن ان تتجاوز وحدودها لتصبح دراسة عميقة وشاملة في هذا الاتجاه ومع ذلك فقد سعينا الى ان نكون هكذا في هذا التقديم أو ان نقترب من طبيعة واشتغالات الدراسة العلمية ، غير اننا نبقى ونؤكد ان تجربة الكاتب تحتاج المزيد من النظر النقدي والى السعة في القراءة للوقوف عند ابرز محطات هذه التجربة ومعالم اشتغالاتها الابداعية وطبيعة بنيتها الفنية .ولكي لانطيل اكثر مما يجب في هذا التقديم ، نمر هنا مرورا" سريعا" على جانب من ملامح واتجاهات كتابة جاسم محمد صالح القصصية للأطفال وما عبرت عنه هذه الكتابة من قيم واتجاهات ثم نعرج بعد ذلك على كتابة الرواية والمسرحية بعدها.

 

 مثلما نعرف ان كاتب قصة الاطفال كاتب من طراز خاص ويختلف كليا" عن مجمل القصاصين والساردين للقصة في عملية الخلق والابداع الادبي فكاتب قصة الاطفال يتصف بصفات ويتخصص بخصائص وينهض بمسؤوليات ، قد لاتجد مثليها لدى غيره من الكتاب والادباء الذين يكتبون ادبهم ان صح التعبير لجمهور الراشدين .

 هذه حقيقة لا مناص منها ولعلنا لانبالغ اذا قلنا ان اديب الاطفال عموما" وكاتب قصة الاطفال خصوصا" يتصف اول ما يتصف به هي صفة الأبوة اي انه اب في نظراته للطفل ، وفي طبيعته تعامله مع هذا الطفل ومعروف ان الأب وهو يحيط الطفل برعايته واهتمامه وتربيته يسعى الى توجيهه واعانتة على النمو والنشوء بدقة وحرص شديدين لايمكن لأحد ان يمنح الطفل اكثر مما يمنحه الأب له ، غير ان اديب الأطفال ولكي ينجح في خطابه الادبي وفي مسعاه للاتصال بالطفل لابد ان يحمل صفة الابوة ويتصف بها نظرة وسلوكا" وعملا" وفلسفة ، وهذا ما وجدته حقيقة في السرد القصصي للطفل الذي ابدعه الاديب جاسم محمد صالح ، الذي زاد ابوته في كتابتة هذه صفة اخرى تميز بها وعمقت ابوته في الكتابة للأطفال تلك هي صفة المربي وان كانت في صميم الابوة الا انها حتى اتخذت خاصيتها بشكل دقيق في اعمال جاسم محمد صالح كون هذا الاديب المربي وظيفيا" يعمل في سلك التعليم وفي عمليات الاشراف التربوي على التلاميذ الاطفال وهذا الجانب وحده يتيح له الاتصال المباشر والحي مع جمهوره من الاطفال .

وهنا نتساءل : ماذا تتوقع من أنسان أب ، ومعلم ، وكاتب ، واديب ، وهو يحمل كل هذه الصفات ويتحرك وفق مؤشراتها في سلوكه وفي عمله ، وفي نظراته ، وفي خياله ، وفي حياته بشكل عام ؟ , ماذا تتوقع من هكذا انسان وهو يمارس عملية الكتابة للأطفال ؟ اننا لا نتوقع من هذا المبدع الا ان يجسد في ابداعه كل القيم الخيرة ، والمعاني العالية ، والرموز النبيلة ، والدلالات الجميلة والقضايا المهمة في أدبه للأطفال .

هذا ماوجدته في ادب جاسم محمد صالح للأطفال ومنه بشكل خاص القصص ولا اريد من استعراض ذلك بدقة ، فهذا يأخذنا الى مديات اخرى ويجرنا الى مسار الدراسة الاسلوبية المعمقة التي لانريد الخوض فيها هنا , المهم ان جاسم محمد صالح في قصصه للأطفال طرح مفاهيم مفعمة بالحياة الكاملة للطفل وما يحيطه من عوالم لايمكن تجاوزها في نظرتنا الى الطفل ومساحته .

في قصص جاسم محمد صالح التي ضمتها مجاميع القصصية التي اصورها للأطفال لمجموعة (الحصان الابيض) و(عروس البستان) و(الشجرة الطيبة) و( السمكة الملونة) و(العصافير تقاتل) الى جانب عشرات القصص القصيرة الاخرى المتفرقة تتلمس بوضوح قيم الحب والخير والوطن والتعاون وسلوك طريق الارشاد والابداع وما شابه ذلك من قيم نبيلة تحد عالم الطفل وتتفاعل في سلوكه الخير .

لقد عمل الاديب المبدع جاسم محمد صالح على أن يجعل الطفل وهو يقرأ ما كتبه له من سرد قصصي يدور في احداث ومواقف حية لا يجد نفسه ازاءها مشتتا" او بعيدا" عن قيمتها ، بل هو وهذا شعور القارئ الراشد ايضا" يمتثلها ويمثلها في بحث الواقع الحي ، وهذا التماثل الواقعي في الكتابة القصصية يجعل الطفل اكثر قربا" وتمتعا" لواقعية واحداث هذا الواقع..

لقد أجاد جاسم محمد صالح اجادة تامة في ادارة احداثة ومواقف وشخصيات قصصية وتوجيهها الوجهة الدرامية والفنية المناسبة لواقع الطفل وهذا ما جعلنا نؤكد على ان الكاتب في مقدار التوجه يصر على ان لايخرج من مدارات الواقع الى ما ورائية هذه المدارات التي قد تبعد القارئ الصغير عن عوالمه وتشتت افكاره في بعض الحالات .

هناك رفض لكل ماهو دخيل على عوالم الطفل نجده متجسدا" في قصص الكاتب خاصة عندما يتعلق الامر باعز ما يملك هذا الطفل ومنها ارضه ووطنه عندما يتعرض للأغتصاب والاحتلال وهذا ما تجسد في العديد من القصص الرافضة للمساس بقدسيات الطفل ومنها وطنه ، حيث استطاع الكاتب حتى ان يعبر عن ذلك اصدق تعبير ، وقد تميز بهذا الاتجاه ، الذي اوجدله تثمينه الخاص في كتابته القصصية وحتى الروائية والمسرحية للطفل .

 في النصوص الروائية للطفل نطالع روايات : (نجم البقال ، السيف ، منقذ اليعربي ، الخاتم ، الليرات العشر ، رواية ملكة الشمس) ,نجد ان كل واحدة من هذه الروايات الخاص وعوالمها التي تخاطب الطفل وتتفاعل مع مجسات فهمه وتطلعه في حياته الحاضرة والمستقبلية , ان مجمل ما جاء في هذه الروايات يمثل قيمة ومعنوية ، وتاريخية ، ووطنية ، وتربوية للطفل ، كونها جسور المعاني الاصلية التي لابد ان تكون منطلقا" حيا" لنشأة الطفل ونموه في عوالم النشوء الصحيح على وفق القيم الخيرة التي ننشدها ، ونعمل على تجسيدها للطفل في حاجة او في مجمل العمليات والاساليب التي تقدمه لهذا الطفل ..

في جانب من هذه الروايات عمد الكاتب الى ربط تفكير الطفل بتراثه وقيمه العريقة ، من خلال الكتابة له باسلوب يمده بالمعرفة والتواصل الحي مع حاضره ومستقبله وفي ذلك ما يجعل الطفل لصيق هذا الموضوع بواقعه وواقعيته التي تجعله بوعي تام ، ان يضيف من عندياته الى هذا الواقع داخل الواقع القصصي ان صح التعبير , والذي كتبه جاسم محمد صالح بمهارة واضحة لاتخلو من مباشرة في بعض الحالات ، وهذه المباشرة باعتقادي قد جاءت نتيجة تمسك الكاتب بتجذر واقعيته التي لايريد ان يغادرها ولايريد ان يخرج منها ولو في فسحة خيالية خارج اطار الواقع .

ان تمسك الكاتب بالواقع والذي تجسد وانعكس على مجمل ابداعات للأطفال لم يفسح لنا مجالا" للشك في واقعية هذا الكاتب والدلالات التي يريد من خلالها - في تقديرنا – ان يوصل للطفل افكاره بصفاء تام ، مع اننا قد لا نتفق مع الكاتب في جانب من تصوره هذا ونطالبه ان لايتجاهل الخيال وقياس حضوره في واقعيات الواقع , فالعملية هنا لاتشحذ الواقع بعمقة وصلته بالحياة اذا ما اردنا استضافة قيمة ما او طبيعة ما من طبائع الخيال ومنشطاته في الواقع ونحن نكتب للطفل ، سواء في كتابتنا الواقعية أو في كتابتنا الخيالية ، مع ان عملية الموازنة من بين الاتجاهيين في الكتابة الواحدة ، او في الكتابة المتعددة تحتاج الى مهارة اسلوبية وفنية فائقة في استحضار الواقعي والخيالي في عمق التجربة ، واعطاء كل منها حقه في اتجاهات هذه التجربة ومساحتها حتى لايصار الى طغيان احدهما على الآخر او جددت مايشبه سيطرة الواقعي على الخيالي او سيطرة الخيالي على الواقعي واذا ما حدث ذلك يحدث بعض التشويش او الملل البنائي في آليات الكتابة والاحسن هو الموازنة ودقة التجسيد في الكتابة وعمقها

 لقد وجدت لدى الكاتب جاسم محمد صالح دقة في ادارة عوالمه السردية ، وان اتسمت بطغيان البعد الواقعي ، هذا البعد الذي يتمثل تجربته ويحدها من كل الاتجاهات والذي بات يشكل سمة واضحة ، ومميزة من سمات تجربته الابداعية في الكتابة للأطفال .

 في النصوص المسرحية للكاتب جاسم محمد صالح نقرأ : ( بيت الجميع ، الاحتفال الكبير ، الذئب ، والاصدقاء الثلاثة ، الفأر الصغير ، الصديقان ، القفص ، الاصدقاء الطيبون ، اصدقاء الشمس ، حكاية الفتي لبيب ، الانتصار ) , حيث تتعدد في هذه النصوص المسرحية القيم ، والمواضيع والاتجاهات الفنية الا انها لاتختلف في توجهاتها القيمية والموضوعية لعوالم الاطفال .

 لقد سبق لبعض هذه المسرحيات ان وجدت مكانها في التجسيد الفني على خشبة المسرح كمسرحية ( بيت للجميع) التي اخرجها الفنان نزار الناصري وقدمت ضمن اعمال مهرجان مسرح الطفل الثالث الذي اقامته دائرة السينما والمسرح على خشبة المسرح العراقي نهاية عام 2006 ومسرحية ( اصدقاء الشمس) التي اخرجها الفنان عبد الكريم سلمان وقدمت على مسرح الطليعة في بغداد ضمن اعمال مهرجان خاص لمسرح الطفل الذي اقيم نهاية عام 2003 .

 لقد تجسدت في هذه النصوص المسرحية العديد من القيم الوطنية والاخلاقية والتربوية والدينية التي تكتنف عالم الطفل وتشوه الى قيم ثقافية واصالة وانسانيته في الواقع المعاشي وفي هذه النصوص وجدت الاديب المبدع جاسم محمد صالح كاتبا" مسرحيا" متمكنا" من صنعته مجسدا" في اختياراته لمواضيعة ولاحداثة الدراميه التي عالجها هنا في الكتابة المسرحية معالجة جيدة وطبيعة لاتتجاوز لغة الطفل ومقدرته على الاستيعاب والتعايش مع الاحداث ولمواقف والتلبس النفسي والخيالي لابعد الشخصيات وشأن الكتابة المسرحية التي صاغتها وابدعها اخي وصديقي الاستاذ المبدع جاسم محمد صالح ، فهو بحق كاتب مسرحي متمكن وبارع في صياغاته ، وفي توجيهاته وفي ابداعه لمسرح الاطفال وما ذكرناه من اسماء ومسميات لعديد من نصوصه المسرحيه للأطفال تستحق بجدارة ان تتجسد تجسيدا" فنيا" رائعا" على خشبة المسرح.

 خلاصة القول في كل ما ورد وما جاء هنا وما وصلنا اليه في سياق هذه المقدمه التي اشتغلت على غاية أساسية وواضحة وهي الاشارة والتركيز على تجربة وابداعية الوظيفة الابداعية والفنية التي نهض بها قلم الاديب والكاتب المبدع جاسم محمد صالح في عملية وآوليات الكتابة للأطفال ، والتي وصلنا بها هنا الى ما وصلنا اليه من آراء وانطباعات واستنتاجات وتحليلات هي في مجملها خلاصة الرؤية نقدية سريعة قد تتحسس الرؤية اوسع واعمق في المستقبل .

 ما نريد قوله هنا هو التأكيد على عمق وأصالة ورصانة التجربة الابداعية والتربوية ، والفنية للاديب المربي البارع جاسم محمد صالح وهو يخطو بثقة عالية وبداراية متمكنة ، وبلغة رصينة وبفنية بارعة لمخاطبة الطفل خطابا" ادبيا" وخفنيا" تتنوع بين اشكال السرد القصصي والروائي وبين الكتابة الدرامية لمسرح الاطفال واقولها من دون مبالغة ان الصديق المبدع جاسم محمد صالح بحق صانع ماهر يقف مع صفوة الضّناع المبدعين لأدب الاطفال في العراق وعموم ساحتنا العربية ولو قُدر له من وسائل النشر والتوزيع ما يليق بكتاباته لاخذ مساحة واسعة من الاهتمام والشهرة في ميدان الكتابة للأطفال .

 أتمنى له مزيدا" من الابداع والتواصل في مدّ الاطفال بجماليات الابداع التي تغني حياتهم وتنمي شخصياتهم وتنظم سلوكياتهم خير تنظيم في طريق الحياة السوية المتقدمة ومن الله التوفيق ومنه العون ومنه السداد.