رواية "كم بدت السماء قريبة!!"

مشروع تحليل خمسين رواية عربية نسوية :

رواية "كم بدت السماء قريبة!!"

لبتول الخضيري

د. حسين سرمك حسن

(1)

(إنّها فكرة بلهاء ، قضية الإنتماء ، فنحن لا ننتمي إلّا لظلّ أجسامنا التي ترافقنا ، مادمنا أحياء)

(ليتَ صفّ النخيل يرحل عن منامي)

(يبدو أن الوحدة أكثر احتمالاً إن كنّا سنموت بعدها مع الجماعة .. إنّه أشبه بهذا الشعور ونحن على وشك عبور الشارع . فنحن ننتظر لاشعورياً أن نعبر مع جماعة العابرين وليس بمفردنا .. الآن هذه فرصتنا الأخيرة في أن نفهم .. لأننا ، بعد قليل ، سنكفّ عن أن نكون)

(شعرتُ أنني أملكها . تُرى ، أنمتلك أحياء أخرى ثمّ نعذّبها ؟! أم نعذّبها أوّلاً ثم نشعر أننا نمتلكها ؟!)

                                                     بتول الخضيري

                                            رواية "كمْ بدتْ السماء قريبة !!"

 

(تنبض ذاكرتي على رصيف شارع . كان ذلك الرصيف ينزلق تحت قدمينا) (الصفحة السابعة طباعياً والأولى سرديّاً) .

هذا هو السطر الأول من رواية "كم بدت السماء قريبة !!" (1) للروائية العراقية "بتول الخضيري" ، وهي روايتها الأولى وبعدها أصدرت رواية "غايب" (2) . هذا السطر ، بالنسبة إليّ ، يحدّد الرؤية النفسية الحاكمة للرواية ، وهذه الرؤية الحاكمة تصمّم بدورها أفكار ورؤى الشخصية الرئيسية فيها ، وطبيعة علاقاتها ، ونظرتها إلى متغيّرات الحياة . وأنا هنا لا أتفق مع أطروحة أنّ الإستهلال هو "ثريا" للنص كما روّج البعض ، بحماسة ، للعنوان على أنّه الثريا الكاشفة لزوايا النص المظلمة ، بمعنى أن المكتوب يُفهم من عنوانه . أنا أتفق مع "الصورة الكلّية – GESTALT" التي يقوم الناقد – والقارىء إلى حدّ أقل اعتماداً على ثقافته القرائية والنقدية وموقفه من عملية القراءة وغيرها - وفقها ، بإكمال قراءة الرواية ، وتحليل وقائعها ، ورسم الصور النفسية والاجتماعية لشخصياتها ، ثم يقوم بوضع المكوّنات الأخرى لجسد الرواية ضمن "إطارها" لتأخذ موضعها الصحيح والدقيق بالترابط مع المكونات الأخرى ، فتتسق الصورة ، وتتألّق دلالة كلّ مكوّن بالعلاقة الحميمة والوثيقة مع الأجزاء الأخرى ، وفي الظلال المُلهبة لتداعيات الزمان والمكان في نفس القارىء .

وبعد أن أكملتُ قراءة الرواية للمرة الثالثة ، وهذه عادتي حيث تكون القراءة الأولى تمهيدية سريعة ، والثانية تأمّلية عميقة ، والثالثة للتأشير بالقلم الرصاص استعداداً للكتابة ، وتهيّأتُ لكتابة هذه الدراسة مبتدئاً - من جديد - باستهلالها ، استوقفني هذا السطر بجملتيه المترابطتين بوثاقة مدروسة شدّت أواصرهما مفردة "الرصيف" منكّرة في الجملة الأولى ، ومُعرّفة في الثانية – ولكل شكل من شكلي هذه المفردة معنى كما سنرى – أحسستُ – وهذه من المرّات القليلة ، بأنّ مفتاح عذابات بطلة الرواية كلّها ، وسرّ ارتباكات حياتها الجسيمة ، قد ضغطتها – بعنف وسلاسة – في هذا السطر . وهذا السطر يمثّل النواة لحبكة الرواية المركزية ، ولأغلب ثيماتها حين تنضاف إليه – ليس بصورة ميكانيكية طبعاً ، ولكن بتفاعل جدليّ خلّاق – تأثيرات وأفعال الشخصيات والمتغيّرات الأخرى في الرواية ، كما يحصل ، الآن ، حين تنضاف مفردة جزئية هي : "كتفكَ" – للمذكّر – كعلامة على حضور "آخر" تُقسّط الراوية – والرواية تُسرد بضمير المتكلّم الذي لم تتضح طبيعته الجنسية حتى الآن – كشف هويّته كجُرَع لسرّ صغير ، وهذا التجريع الذي يقسّط "السرّ" ، هو جوهر الفن السردي مأخوذاً من أميرة الحكائين "شهرزاد" في سيّدة الحكايات "ألف ليلة وليلة" :

(تنبض ذاكرتي على رصيف شارع . كان ذلك الرصيف ينزلق تحت قدمينا ، وسياج المدرسة الخريفي يمسح كتفكَ معتاداً على مرورنا اليومي) (ص 7)    

ويجعل هذا التجريع - المحكوم بعوامل نفسية عميقة عادة - وليس كلعبة سرديّة مجرّدة ، صورة الطرفين : الراوية / الراوي حتى الآن ، غير محدّدة الملامح من ناحية هويتيهما الجنسيتين (الذكورة والأنوثة) ، ومن ناحية التوازي العمري ، وكأنّ الراوية / الراوي يتعمّد "تعطيل" انكشاف هذه التفاصيل طمعاً في تصعيد التوتر والفضول في نفس القاريء ظاهراً ، وتعبيرا – وهذا هو الأهم – عن رغبة مُلحّة في تغييب "الفوارق" لمصلحة نفسية غائرة قد تتكشّف لاحقاً . تواصل الرواية تقديم جرعة كاشفة أكبر بالقول :

(أنتَ تصرُّ على أن تركن السيارة عند التالة في بداية الشارع لنكمل طريقنا سيراً ، وأنا حينها مثل أنثى البطريق أجرّ قدمي للحاق بك . تسحبني من يدي الصغيرة مسرعاً إلى حيث سأتعلّم أصول المشي الرشيق . فقد قالت لي "مامي" – عذراً أقصد "أمّي" – هذا الصباح إنهم سيعطونني دروساً في أنواع المشي وعادات الجلوس وأشكال الرقص) (ص 7) .

الآن تتضح بصورة قاطعة هوية الراوي الجنسيّة كأنثى ، والعمرية كطفلة صغيرة ، تتعلّق بكفّ أبيها الذي ستتكشّف هويّته بصورة كاملة من خلال إشارة الراوية إلى العلاقة القائمة على الشجار الدائم بين أبويها ، وأحد أمثلتها الخلاف حول قصّ شعر البنت حيث تريده الأم قصيرا عمليّاً ، في حين يريده الأب طويلاً نامياً . كما سنعرف أنّ قرار التحاق الطفلة بمدرسة الموسيقى والباليه ، كان قراراً من الأم ، جاء برغم معارضة الأب الشديدة ؛ الأب الذي يغادرها الآن وهي تنتزع صورة ابتعاده الحركية الآسية من أعماق ذاكرتها وقد ابتعدت عن أعماقها الغائرة لمسافة عقود :

(تُسرع الخطى ، فيبدأ صف النخيل الموازي للسياج بابتلاعك . نخلة بعد أخرى تقتطع جزءاً منك . ألوّح لشبحك ثم أخترق القوس الهائل الذي يزيّن مدخل الفناء) (ص 7) .

وهي حركة أقرب إلى الرحيل والغياب النهائي منها إلى المغادرة الوقتية التي ستليها عودة .

ولم تكن مشاعر "الضآلة" والإحساس بصغر "الحجم" تجاه المحيط ، مرتبطة بوقفتها في ساحة المدرسة ، وهي تنتظر المعلمة التي ستصطحبها إلى الصف ، حيث شعرت وكأنها "نملة" ، بل مرتبطة بكل ما يحيط بها : "كان كل شيء أكبر منّي" (ص 9) حتى نظرات أبيها المُعاتبة لأنها تنادي أمّها بكلمة "مامي" بدلا من "يوم" أو "يمّه" التي يفضّلها ، ولم يكن هناك من "شيء" يشعرها بأنها أكبر منه سوى "خديجة" التي صغّرت اسمها إلى "خدّوجة" ، صديقتها الطفلة إبنة العائلة الفلاحيّة التي تقضي النصف الثاني من النهار معها يومياً .

وتتضح التناقضات بين الأم والأب في سلسلة لا تنتهي من المواقف المبدئية من الحياة من ناحية ، وفي تراكمات ليس لها حد من تفصيلات الحياة اليومية من ناحية أخرى . الأم الإنكليزية تُدخن والأب يكره التدخين ويرفض أصلاً فكرة النساء المدخنات . الأب يعطف على الناس العراقيين البسطاء من الفلاحين الذين يحيطون ببيته ، والأم تزدريهم وتنظر إليهم باحتقار ، فهي – مثلا – ترفض أن تنشيء ابنتها علاقة مع خدّوجة وتصفها بالفتاة القذرة وحاملة البراغيث ، وتخشى أن تنقل إلى ابنتها الأمراض . وهي تنسعر ، وتكاد تُجنّ ، حين تخبرها ابنتها بأنها أكلت في بيت خدّوجة قطعة خبز وقليلا من الجبن ، لأنّ امّها تستخدم روث البقر كي تشعل ناراً تلقي فيه العجين ، كما أن الذباب يغطّي الجبن الذي يتركونه مكشوفاً بعد صناعته بيدين قذرتين (ص 12) . والأم لا ترفض العلاقة مع خدّوجة حسب ، بل ترفض فكرة اختلاط ابنتها بكل الناس المحيطين بهم في منطقة "الزعفرانية" حيث يسكنون ، فهؤلاء هم الغجر المعتوهين الأميين "سئمتُ الزعفرانية وبدائية أهلها" (ص 13) ، في حين أن الأب يدعو ابنته للإختلاط بالناس لتتعلم عادات أهل الريف ، وكي تتعلّق بالأرض والبشر والحيوان كما تربّى هو . ولهذا رفضت الأم أن تلتحق ابنتها بمدرسة البنات هنا ، وأصرّت على أن تلتحق بمدرسة الموسيقى والباليه ، برغم أن الأب كان يرى أنهم أناس يحيون في الشرق وأن تعلّم ابنتهما الرقص والإختلاط قد يضرّ بمستقبلها ، وقد يكلفانها غالياً يوماً ما (ص 13) .

وفي الواقع لم تكن هذه الخلافات تعكس عدم انسجام بين زوجين في حياة عائلية متوترة وقائمة على سوء تفاهم دائم ، بل تناقض بين موقفين حضاريين .. بين شخصيتين شكّلت منظوريهما إلى الحياة والعلاقات الإنسانية والسلوك البشري عوامل ثقافية ودينية واجتماعية مختلفة تماماً . وكانت النتيجة المؤلمة التي نجمت عن هذا الصراع هو شخصنة هذا الصراع والتناقض في النظرتين والموقفين في شخصية البنت التي أصبحت تحتزن هذا الصراع لتنطوي على عالمين متنازعين ارتسمت خطوطهما المتوازية التي لم ولن تلتقي في أخاديد ذاكرتها الغضّة :

(رغم تناقض الرغبات ، لم تتمكّن أنت من منع أمّي من إرسالي إلى تلك المدرسة ، وهي بالمقابل لم تفلح في إقناعك بعدم السماح لي بالنزول إلى المزرعة . خلافكما أدى إلى اختلاطي بالعالمين ، ما عدا البيت الذي كان في حدّ ذاته عالمين) (ص 13)

إن من أكثر الظواهر الأسلوبية المثيرة لدهشة الناقد والقارىء اللمّاح على حدّ سواء ، هي هذه النبرة "المحايدة" في السرد ، التي تطبع طريقة استدعاء الراوية لحكايتها منذ البداية حتى النهاية فيما يتعلق بخلافات ابويها بشكل عام ، وسلوك أمّها المُعاند والمتعالي بشكل خاص . إنّ توازناً مزعوما يجري على سطح السرد ، والبنت "تصف" بعين تشبه عين المراقب الذي يُظهر بكل قواه أمانته الصارخة في عدم الإنحياز إلى أي طرف . وهذه المسحة الهادئة تجري مدعّمة بمخزونات ذاكرة راوية راشدة "تنظر" إلى الحوادث بعد سنين طوال حيث تراكمت على الذكريات رمال الزمن الخانقة الثقيلة وتعرّضت – كما يُفترض – لعوامل التعريّة .

لكن ذاكرة الآثام المرتبطة بوجدان البنت الصغيرة هي الحي الذي لا يموت ، وهي التي تظل تتلوى لائبة تحت رماد الولاء الذي تفرضه المواضعات الإجتماعية والقيم الدينية . وعليه فإن هذا السرد المحايد يُخفي عملا هائلا لقبضة "الكبت" يستهلك طاقة نفسية كبيرة . وللاشعور أساليبه الماكرة في الإلتفاف على هذا التسلّط الشعوري على فعل "ذاكرته" الحيّة الضاغطة الباحثة عن الثأر من الأنثى المنافسه من جانب ، وفي الظفر بالإشباع لرغبة تتقلب على جمر التأجيل في سعي دائب مستتر لتمرير الدوافع المتعاطفة مع ، والحانية على ، الأب المُتعب في علاقته بالزوجة / الأم من جانب آخر . وأعتقد أن قوى اللاشعور قد لعبت لعبتها الذكيّة في الفواصل التي تستعيد فيها الراوية علاقتها بصديقة طفولتها "خدّوجة" ، فقد استغلت هذه القوى المراوغة ذاكرة مُتخمة بأفعال طفليّة مُبهجة لتُشبع ، وتعطّل ، وتناور ، وتوري ، وتكنّي عبر تمظهرات رمزية شديدة التضليل . فإزاء كل موقف يهيج مشاعر التصارع داخل نفس البنت ، ويكبت الموقف النقدي في اعماقها تجاه أحد الأبوين – الأم عادة – ينحرف العمل السردي نحو طريق فرعي مكتنز بالذكريات السعيدة . فمع استعادة ذكريات يومها الأول المُقلقة في الإلتحاق بمدرسة الباليه ، حيث الإنفصال الأول عن الأب – طبيعيا يجب أن تكون مشاعر الإنفصال عن الأم – تُدخل ذكرياتها مع خدّوجة للمرة الأولى :

(يسألني الكبار :

-كم عمركِ ؟

أبسط اصابع كفّي اليسرى ثم أرفع سبّابة يدي اليمنى وأقربهما قائلة :

-ستّة

بعد أن أتأكّد من عدّها ثانية أضيف دائماً :

-وخدّوجة كذلك ستّة .

-من هي خدّوجة ؟

-هي في المزرعة ولا تذهب إلى المدرسة ، لأنها حافية .

صدّقتُ حينها أن من لا يرتدي حذاء لا يذهب إلى المدرسة ) (ص 9) .

إنّ هذه الذكرى هي انحراف إلى "طريق" فرعي من المسار الرئيس السريع المؤلم لمسرى الذاكرة ، حيث يتمّ "تكثير" الأنا الطفلي الهش ومضاعفته . إن هذا "التماهي" مع خدّوجة الطفلة الفقيرة الحافية ، هو شكل من أشكال لعبة "الرواية العائلية" في الحقيقة ، وعلى مستوى نفسي عميق ؛ لعبة تُشفع بالضغوط الأوديبية التي تتعرض لها البنت عادة في مرحلة الست سنوات من العمر حيث – كما يفرض النمو النفسجنسي الطبيعي للبنت – أن تتماهى البنت مع أمّها لتحلّ مشاعر الغيرة والمنافسة على الرجل الوحيد في حياتهما وهو الأب . هي رواية الطفلة "السندريللا" الفقيرة الحافية التي تنتظر الإنقاذ . كما أنّ هذه العلاقة توفّر متنفّساً لتفريج العدوان المتراكم الذي يخلقه القهر والإهمال الأمومي ، مثلما تقدّم فرصة لا تُعوّض للعب "الدور الأمومي" المُتخيّل الذي تطمح إليه كل بنت في خيالاتها وأحلامها :

(في فضاء كان كلّ شيء فيه أكبر منّي ، حتى نظراتك إليّ عبر مائدة الفطور عندما أنادي أمّي "مامي" بدلا من "يوم " أو "يمّه" . لم اشعر بحجمي الحقيقي إلّا معها . خديجة ، هذه المخلوقة الوحيدة التي تُشعرني بأن هناك شيئاً اصغر منّي ، صُغّرت أكثر ، بمشيئتي أنا ، فاستحالت إلى خدّوجة ) ( ص 9) .

ومقابل كل ذكرى تشيع الإنكسار في النفس كانت الذاكرة توفّر طريقاً التفافية تعادل بها أحاسيس المرارة . ففي الموقف الذي تُعلن فيه أحاسيسها بـ "الضآلة" والإهمال ، تأتي صور منعشة للعبها لساعات - هي وخدّوجة - بالكتل الصمغية الغامقة التي تفرزها أشجار المشمش ، وكيف تشكّلها أساور وخواتم وحلقات تعلّقها في أذنيها ، أو تزّين بها يديها كأظافر مُستعارة ، أو – وهذه الحركة الأهم – حين تراقب خدّوجة وهي تنحت عجينتها على شكل عصفور ترفعه عالياً وهي تركض به بين الأغصان الواطئة (ص 10) .

هكذا تُصمّم الكاتبة الوظيفة النفسية لجانب مهم من عمل ذاكرتها ، وهي تحاول إعادة تشكيل الذكريات المُختزنة بوعي الرشد كي تداري خبايا طعنات النرجسية الطفلية الجريحة ، التي تتصاعد نداءاتها المكتومة بفعل الخلل المُستتر في العلاقة مع الأم التي تصفها الآن بأوصاف تعبّر عن الإحتقان المؤلم ، فوجهها وذراعاها وساقاها كأنها قطع من تلك الدمى الصينية المستوردة التي تُستخدم في التمثيل الصامت .. وحاوية سكائرها تُصدر معزوفة سئمتها البنت خصوصا حين تمتزج هذه المشاعر بإحساس بالغبن ، لأن الأم تحاول منعها عن اللقاء بـ "قرينتها" خدّوجة . وفي الوقت الذي تتذكّر فيه الراوية أن أمّها تكره المشمش لأنه "يجلب" لها الحساسية ، فإن ذاكرتها تسعفها بما يوازن هذا الميل المُخلّ ، فتعلن عن امتنانها لأن المشمش كان "يجلب" لها خدّوجة ، ثم تقدّم لها ممارسة اللعب الطفلي التي تأتي كـ "ذكرى ستارية" أو "ذكرى حاجبة" حين التحقت في ذاك اليوم بخدّوجة وقامتا بتدمير بيوت النمل وهما تضحكان ، ثم تقومان بـ "صلب" الحلزونات من خلال تثبيتها على جذوع أشجار المشمش بالصمغ السائل الخارج من مساماتها ، وفي نهاية النهار – كما تقول الراوية البنت :

(نجد في جيوبنا أعداداً من حلزونات أبت الخضوع لسحر أغنيتنا ، فأسأل خدّوجة :

-ماذا سنفعل بكل قواقع الزلنطح هذه ؟

تجيب دون تفكير :

-نموّتهم

في الحال تشير إليّ أن أتبعها إلى ما أسميناه فيما بعد بـ "شجرة القصاص"..) (ص 14)  .

وعلى شجرة القصاص ؛ شجرة الصلب ، الصلب الرمزي للمنافسين والكابِتِين الذين يتجسّدون في هذه الحيوانات المسكينة "التي تُعاند" . ولعل أخطر استراتيجيات الثأر التي يلجأ إليها اللاشعور هي طرق اللعب الطفلي التي يمتزج بها الجد بالهزل تحت غطاء من العبث واللاقصدية التي تغلّف أخطر الحفزات الساديّة . وفي كل هذه الممارسات المُستعادة تكون الأداة التنفيذية الإفتتاحية لرغبات الراوية هي خدّوجة التي تنبري للفعل حسب أولوية صوت الذاكرة بلسان الغائب لتتحوّل إلى ضمير الجماعة المتكلّم فيتم "توزيع" المسؤولية وانتشارها بما يخفف من استفزازات "الضمير" الراصد المعاقب :

(تتخيّل خدّوجة أن الحلزونات تعاندها ، لذا ترى أن تعاقبها دون تردّد . نقصد الشجرة الأكثر إفرازاً للصمغ في المزرعة . نلصق بها ما تبقى لدينا من قواقع حتى يمتلىء الجذع بأنواع الحشرات والأحياء المُعاقبة في عُرف خدّوجة . ندهس المجموعة القبيحة من بينها فتنفقس تحت أقدامنا مخلّفة بقعاً متداخلة من شظايا كلسية ناعمة وسوائل رمادية رطبة ) (ص 14) .

على شجرة القصاص تتم "إزاحة" المشاعر التدميرية التي تعتمل في النفوس الصغيرة ، لتؤتمن الذاكرة الأم عليها لاحقاً . وبالمناسبة فإن الفن الحكائي يقوم في الحقيقة على الأواليات النفسية نفسها من تكثيف وقلب "إقلاب" وإزاحة ، كما توسّع في ذلك المحلل النفسي الفرنسي "جاك لاكان" . فحكاية بتول الخضيري هذه توجّه منذ البداية إلى ضمير مخاطب هو "ضمير" الأب وليس إلى الأم :

(أبي ، لماذا لم تدع تلك الليلة تمر بسلام ؟! أكان يجب أن تتشاجر معها عندما رأيتها تغسل شعرها في مغسلة المطبخ ؟ عادةٌ لا أفهمها بدوري ، فلسبب ما كانت أمّي تقف أمام حوض الألمنيوم بعد الإنتهاء من غسل الصحون فتشطفه مرّتين بماء مغلي ...) (ص 15).

*****************

(2)

وقفة :

إنّ ضمير المخاطب يمثّل من الناحية النفسية ضمير "الآخر" المكافىء الفعلي وليس ضمير الغائب ولا أي ضمير آخر . وحين يكون صاحبه "غائباً" بمعنى الحضور الفعلي "المادي" ، فإن الأنا ، في الواقع ، يضع ذاته في محلّه ، في لعبة مُتقنة ، تغلق دائرة الإتصال ، وتمنحه الإحساس بـ "القدرة الكلّية - Omnipotence" على الإستعادة ، هذه القدرة التي هي من عطايا الفن السردي التي لا تعوّض والتي تجعله سيرورة خلوديّة . وقد كان استخدام ضمير المخاطب من قبل الراوية خاصّاً بالأب وامتيازاً له ، فطول مسيرة الحكاية كانت الراوية تخاطب أباها بضمير المخاطب حتى في حالات غيابه الوقتية والنهائية بالموت ، عدا مواضع قليلة جداً ذكرته فيها بصيغة الغائب (في الصفحة 193 والصفحة 199 مثلاً) وهذا يعبّر عن الحاجة الملحّة التي لا تنطفىء في نفس الراوية تجاه أبيها ، في حضوره وفي غيابه الوقتي أو النهائي .

عودة :

--------

... ومن الواضح تحامل الأب على الأم في ممارسة عاديّة تقوم بها الأخيرة ، وتتمثل في غسل شعرها بالصورة التي تريحها . ومن الواضح أيضاً انحياز البنت إلى الأب في نقلة سردية لغوية مسمومة لعبت فيها على الألفاظ التي وصفت بها الأصوات الصادرة عن احتكاك الأشياء المختلفة ببعضها وصفا "صوتيا" شديد الدقّة بدأته بمحاولة لإعذار الأب على ثورة أعصابه :

(تُشرع بفركه [= شعرها] بأظافرها : خشت ، خشت ، خشت . لابدّ أن صوت الفرك أثار أعصابك مثلما تُثار بسهولة إن فرك أحدهم كمّية من مسحوق النشأ بين اصبعيه أو قصّ قطعة فلّين أو ورق مقوّى بسكّين حادة : سيخ ، سيخ ، سيخ ) (ص 15)

لتمرّ بتعميم حالة الإعذار حين التساؤل عن السبب بصيغة جمعيّة :

(لماذا نقشعر فجأة لصوت احتكاك ما ؟! ) (ص 15)

ثمّ لترقيق حساسيتنا تجاه الموقف من خلال شمول ذاتها الراوية بالتصرّف المُستفَز :

(أنا .. لا أحتمل صوت مرور ظِفرٍ على ورقة أو قطعة خشب)

ثم لترمى كرّة الإستجابة المُفرطة في ملعب الأم مع وجود "ضحيّة" صغيرة تستدر عطف المتلقي :

(أمّ لا يمكنها احتمالي عندما أصرف بأسناني بصوت مسموع : جزز ، جز ، جز ، أو أن أطقطق مفاصل أصابعي على مقربة منها فتنهرني : "كفى !" . على وجهها تقزّز واضح )

وذلك خلاف الأب الذي سيُبرّر إنفعاله ليس على أساس الإستثارة الصوتيّة الغير مفهومة ، ولكن لتخوّفه من أن تسد كتل الشعر المتساقطة مجرى الماء .. ثمّ توسيع احتداده بصورة غريبة جدا حيث يجعل غسل الأم لشعرها في مغسلة المطبخ أمراً "لا أخلاقياً" ! (ص 15) .

هذه المبالغة التي تصنع من الحبّة قبّة كما يُقال ، هي تعبير عن حفزات عميقة ضاغطة مشحونة بالرفض ؛ رفض الأب للأم ، والأدق رفض الطرفين : الأب والأم ، لبعضهما ، حيث يبدو أنهما قد عبرا خط اللاعودة ، وسارا على منحدر القطيعة النهائية منذ زمن طويل حتى صار أقلّ مؤثر - مهما كان حجمه ومهما بدى بسيطاً مُبتذلاً - كافياً لإثارة شجار حاد بين الطرفين ، وأمام أنظار البنت الصغيرة التي كانت روحها الطريّة تتقطّع في الظاهر ، ولاشعورها الشامت يتلمّظ في الباطن .

لقد تكرّر الشجار بين الأبوين بعد دقائق من شجارهما حول غسل شعر الأم ، وذلك حين جلس الجميع لمشاهدة الفيلم الأجنبي الذي تفضّله الأم في التلفاز حيث بدأ الأب يطق حبّات مسبحته : طق ، طق ، طق (بفواصل تخفّف التأثير وليس مثل تلاحق أوصاف تصرّف الأم : خشت ، خشت ، خشت) ، فثارت ثائرة الأم لتصرخ بالأب : كفى . وهذا هو التصرّف المُستفز فعليّاً لأي شخص ينسجم مع مشاهدة فيلم ويتتبع وقائعه بهدوء . ومن هنا يبدأ تبادل الملاحظات الحادّة ، وتتطوّر التعليقات ، وتتضخم الجمل ، وتتصادم الأصوات الكثيرة لتملأ الفراغ المسكين في أذن البنت التي تنزوي خلف الأريكة قلقة منزعجة وخائفة ، لا تجد ما يواسيها سوى جديلتها التي تدغدغ ذقنها بطرفها ، فتضع وصفاً للطريقة عائداً لأحد أفعال الأب :
(كما تفعل أنت بفرشاة الحلاقة) (ص 16)
لتعبّر عن اللعب الإنحيازي (المُطعّم بالرغبة القضيبية المُنكّرة) نحو جبهة الأب ، هذا الإنحياز – معلناً بصورة خاصة ومستترا بصورة عامة - الذي يتجلى في أغلب المواقف التي تستعيدها الراوية من أعماق الذاكرة ، خصوصاً الشجار الذي حصل في اليوم التالي حين بدأت الأم صباح الجمعة بالصياح في تذمّر متواصل من عادة من عادات الأب لا مُراء في أنّها سخيفة ومُدانة ، وتتمثل في إصراره على أن يبصق – حين يُصاب بالرشح – في "كفّية" ، وليس في المناديل الورقية التي توفرها الأم قريبا منه ، يبصق في المناديل ويحشرها في زاوية أي مقعد يشغله حينئذ ، وينساها محشورة في كل مرّة ليبدأ عناء الزوجة في جمعها وغليها للتخلّص من قذارتها وجراثيمها المُعدية ، لكن البنت تعلق على تصرّف أمّها بنكران صارخ :

(يا له من موضوع تفتتحُ به حديث مائدة الفطور ! ) (ص 17)

ومن جديد ، يأتي المدد من الذاكرة التي أؤكّد على أنها توفّر مُحتوى طفولي مُبهج لمشروع سردي راشد ذي أهداف غير طفليّة . تتذكّر الراوية أنّها بعد توترات يوم الجمعة قد هربت إلى خدّوجة حيث مرحت بركوب الأرجوحة العالية التي نصبها "حاتم" شقيق خدّوجة :

(جاء دوري . ركلتُ الهواء بقدمَيّ .. ارتفعتُ إلى أعلى .. ركلتُ اقوى .. ارتفعت أعلى .. سبحتُ في فضاء .. أطّرتني زرقة حليبية .. كل النخيل تحت قدميّ الحافيتين .. الشمس تسبح في ماء النهر .. أفرد أصابع قدمي .. تنفذ أقلام ضوء بين الفراغات الأربع .. وبالقدم الأخرى أركل أقوى .. أرتفع .. استنشقتُ خط الأفق .. وعندها ... كم بدت السماء قريبة !!) (ص 17) .

وإذا كانت الروائية بتول الخضيري قد فسّرت سبب اختيارها لعنوان روايتها : "كم بدت السماء قريبة !!" على أنّه يعود إلى تلك العادة البغدادية الجميلة في النوم على السطوح صيفاً ، كنّا :
(نستلقي على ظهرنا ونتفرج على النجوم كأنها ماسات سيتسنى لنا قطفها من السماء بين لحظة وأخرى، إنه فضاء من الحرية والخيال) ..
فإن جملة العنوان "كم بدت السماء قريبة !!" تُطلق من عقل نضج التجربة لحظة الكتابة على فعل متحرّر في الطفولة تخفّفت فيه البنت من سطوة توترات الخلاف المستعر أبداً بين أبيها وأمّها ، حيث تبدو الحاجة للتخفّف والإنطلاق والتحليق قويّة قاهرة حدّ "استنشاق خط الأفق" .. وهذا هو لبّ مأزق االكتابة الروائية بعقل الحاضر عن تجارب الماضي ، حيث تنخذل الذاكرة وهي لا تستطيع إلحاق المكوّن العاطفي الإنفعالي الجذل الذي جرّبناه ، آنذاك ، بالمكوّن "العقلي" السلوكي ، فتنبري المهارة السردية اللغوية بعد أن ترصّنت أدواتها ، لوصف المكوّن الأول من خلال الإستعادة البعدية المديدة ، التي لابدّ أن ينجدها الطفل الرابض في أعماقنا حتى اليوم .

الأمر نفسه يُقال عن الذكريات التالية التي استدعتها الراوية ، وهي تراقب مع خدّوجة الألعاب الصبيانية المملوءة شقاوةً للأطفال ، وهم يتسربّون إلى نفايات معمل البيرة ، ويقومون بكسر القناني بطريقة تحافظ على حلقات فوّهتها ، ليلبسوها كخواتم دون أن تجرحهم ، وكيف قام مهرّج المجموعة "حسّون" الملعون بإلباس "شيئه" الصغير إحدى الفوّهات من فوق دشداشته ، وهو يهتف :

-من يلبّس شيئه عمامة زغيرة ؟!" (ص 19)

إنّ الحتمية اللاشعورية التي تتحكّم بتداعي ذكرياتنا وتسلسل حلقاتها وطبيعة ترابطاتها – شكليّاً أو مضمونيّاً – تدفعنا إلى التساؤل ، دائما ، كنقّاد - وليس كقرّاء قد تغيّب انتباهتنا مشتركات إشباع المكبوتات الطفلية مع الراوية – عن "المصلحة" التي لا تمنع الدوافع الشعوريّة المرتبطة بالإنجاز الإبداعي من محاولة النظر الفاحص العميق للإمساك بالدوافع اللاشعورية اللائبة . يشمل ذلك أدق تفاصيل الذكريات ومسارب تشكيلها اللغوي حيث بدأت الإستعادات الأخيرة بوصف البنت للكيفية التي "تعرّي" بها خدّوجة نبتة "شيخ صملّة" كما تُعرّى ثمرة الموز ، وتنتهي بالحركة نفسها بعد أن أثارت غريزة جوع الطفلتين مشاهد لعب الصغار بقناني البيرة وذروتها في الحركة "الجنسية" المكشوفة رغم غطائها اللعبي الطفولي حين "أولج" "حسّون" قضيبه الصغير في "فتحة" الزجاجة .

(2)

يستمر خطاب الراوية في القسم الثاني بصيغة المذكر المُخاطب ، وهو الأب ، حيث نعرف معلومة مهمة تتعلق ببشرة الأب الداكنة التي ورثتها البنت عن أبيها (كانوا يقولون : جاءت العبدة !!" . جاء ذلك في إطار مقارنة صوت أبيها (العميق الذي يشبه بشرته الداكنة) بصوت أمّها (الذي يشبه – حين تنفعل – صفير إبريق ماء يغلي نافثاً بخاره بعصبية) . والجانب المهم هنا هو أن البنت ورثت عن أبيها لون البشرة المُبالغة بسمرتها . ولعل هذا هو السبب الذي يعيدنا إلى مواقف أعلنت عنها البنت في القسم الأول ، وأشارت فيها – بطريقة تشوبها مسحة تهكّم أحياناً – إلى بياض بشرة أمّها . فقد وصفت بياض بشرتها – وهي ترتدي ملابس سودا - بأنّه مُشع بصورة أثارت انتباهها حين دخلت عليها عائدة من جولة لعب مع خدّوجة (ص 11) .. وحين حيّت أمّها أجابتها – كما تقول – بانكليزية بيضاء كبشرتها ، وصولا إلى الموقف التهكمي الملتبس ، وذلك حين وصفت رقبة أمّها التي انحسر عنها الشعر وهي تغسله في مغسلة المطبخ بأنها "رقبة مثل مطّاط أبيض" (ص 15) لتختصر هذا الوصف فيصبح في النهاية "رقبة مطاطية" حسب . 

ومن جديد يظهر الأب شديد التحامل على الأم حتى وهي تردد بعض النوتات والكلمات لانزعاجه من أغنياتها البيتية !! وهو موقف غريب وسلوك لا ينبغي أن يصدر عن شخص تزوّج من امرأة انكليزية ، وكان عليه أن يتوقع النتائج "الطبيعية" لزواج مختلط خصوصا في جانبين : الأول جانب التربية على القيم والسلوكيات التي اعتادتها الأم في مجتمعها المحكوم بثقافة مختلفة تماما عن ثقافة الأب ، والثاني جانب اللغة التي من المتوقع أن تتحدث الأم بلغتها الأصلية مع ابنتها ، وتتعلّم الأخيرة لغة أمّها . لكن الأب العراقي يرفض تماما أن تقوم الأم بتعليم ابنتها أي قيمة من قيم المجتمع الإنكليزي حتى لو كانت تتعلق بسلوكيات يومية ومهارات حياتية بسيطة ، مثلما يرفض أن تتحدّث البنت بأي مفردة من لغة أمّها . فما الذي سيبقى للأم ؟ وما المطلوب منها ؟ أعتقد أن الأم الإنكليزية ، بحرمانها من لغتها ومن قيم تربيتها السابقة ، تتحوّل إلى كائن أنثوي يُسخّر للإشباع الجنسي وللخدمة البيتية ، وهذا ما كانت ترفضه ، بل تثور عليه ، الأم ، وكان سبب التوتر والشجارات الدائمة بين الزوجين . لقد كانت المعارك تنشب بين الزوجين حين تُدخل البنت الصغيرة كلمة إنكليزية واحدة في حديثها : "ماما ، أعطيني صحناً و spoon ! (ص 21) .. وقد يكون "إفلات" بعض المفردات الإنكليزية من البنت والتي تثير أعصاب أبيها وتلهب نقمته على أمّها نوعاً من "زلّات" اللاشعور المرسومة ، خصوصا وهي تذكّر نفسها دائماً بألّا تمزج بين اللغتين في كلامها . إنها شكل من أشكال "ألعاب إلكترا" إذا جاز التعبير . وتتأكّد هذه الإحتمالية المستفزّة عادة حين تنتقل البنت – وهي تروي لنا موقفاً تعبيريا محرجا حصل لها في الصف – من مشكلة مزج اللغتين إلى مشكلة سوء تعبير باللغة العربية الأم ، حين سألتها المعلمة ذات مرّة :

-ماذا يعمل والدك ؟

فأجابت :

-يصيحُ عندما تغنّي أمّي ويخرج كثيراً) (ص 22) .

فتتكشّف نوايا "إلكترا" المبيّتة من خلال "النقلة" التي لا رابط لها بموضوعة اللغتين ، والتي تعرض للآخرين جانباً من نقمة أبيها على أمّها بعيداً عن "فخ لعبة المفردات" كما حاولت تبرير ذلك ، وقريباً جدّاً من الإنطلاق العارم للعدوان المُحتبس ضد الرمز الأمومي الذي "نٌقل – transferred" الآن إلى رمز آخر هو المعلّمة :

(ضحكتْ [= المعلّمة] . تذكرتُ بقرة ملوّنة ضاحكة على علبة جبن فرنسي . حذاء المعلّمة أخضر قبيح يطلقون عليه "أبو كعب الدبابة" . اسمها ست زهور أم الجغرافية . أنا أفضّل تسميتها ست جغرافية أم الزهور.

أعادت سؤالها :

-قلتُ ماذا يعمل والدكِ ، وليس ماذا يفعل؟ أقصد ما هي مهنته ؟

أجبتها بتأن هذه المرّة :

-تاجر مطيّبات ) (ص 22) .

هذه المطيّبات ، التي كانت رائحتها تثير أعصاب الأم ، في حين يعتبرها الأب أفضل من رائحة نيكوتين سكائرها ، في الوقت الذي تفكّر فيه البنت بالكيفية التي تقضي بها على النمل الذي يعشش ويسمن في الحاويات : بالماء والصابون أم بالرشاش المُبيد ؟! (ص 23) .

إنّ "الإنزلاقات" التي تحصل في افكار وذكريات البنت ، وتأتي متناشزة مع المسار الرئيسي لتلك الإرتجاعات (الفلاش باك) ، كثيرة جدا ، وتفصح عن المكبوت أو المقموع الحقيقي في لاوعيها "الصغير" ، لكن هذه "الإنزلاقات" والانحرافات والمناورات تنعدم تماماً حين يكون الأمر متعلّقاً بخدوجة وعالمها وعلاقات عائلتها وطقوسها وتفاصيل عيشها . هنا تكون الذاكرة متّقدة وشديدة الدقّة ومتعلّقة بقوة بالمسار الرئيسي للحوادث لا تحيد عنه أبداً . إنّها تتذكّر كل ملمح من ملامح وجه خدّوجة .. طبيعة البيوت والحجرات .. كيف يتناول أهلها طعامهم ويعلقون ملابسهم .. حتى طبيعة قطرات الماء التي تلتصق بالطريق الترابي المرشوش ، وهنا وصف رائع :

(... أمّأ هي [= خدّوجة] فدخولها بيتنا من أول ممنوعات أمّي ، تسمّيها القذرة وناقلة القمل ، كلّما زادت رفضا لخدوجة زاد انتظاري ، رغما عنها ، للنصف الثاني من النهار ، حيث سألتقي بذات الوجه الأسمر في منتصف الطريق الترابي بين بيتنا والنهر . سيرشّونه بالماء ، وستستلتقي قطرات هائمة على تعرّجات الأرض متماسكة ككرات زئبق تمرّغت في التربة لتنحشر بين مساماتها . تأتي خدوجة بوجهها السنجابي الجاف ، وزوايا فمها المتيبّس ، والكلف الشمسي يبقّع بشرتها لتقودني إلى مأواها) (ص 24) .

إنّها تستعيد كل تفصيل لتلك الحياة المفقودة بالنسبة لها ، حياة "روايتها العائلية" المُتخيّلة .. هي البنت الضائعة التي عثرت عليها عائلة خدّوجة : دلّة الأم وكاظم الأب ، والتي تنتظر أن يعثر عليها أبواها الحقيقيان . والبيوت الطينية التي تصفها الآن بكل دقّة هي – في الواقع النفسي - بيتها الضائع :

(المنظر الخارجي لتلك الكتل الطينية الثلاث المركونة عند حافة النهر يوحي بهياكل منسية قد تُشعر الرائي من بعيد بإحساس الـ "لا شيء" ، لكنها كانت لي كلّ شيء . كنتُ أرقبهم يبنونها بعلب السمن الفارغة . يصفّونها طابوقاً من معدن ، يحشون الفراغات باللِبِن والطين ، ثم يسّدون الفجوات والزوايا بأنواع مختلفة من علب الحليب الجاف وقناني قديمة وقطع حديد مستهلكة . عندما تسقط سهواً لطخة طين عن الجدار ، تظهر كلمة "نيدو" ، أو وجه فتاة علبة "زيت البنت" . كان ذلك ملكهم المتواضع ، فيه كلّ ثقتهم التي تقيهم الشمس والمطر، كما كان فضاءهم الوحيد لاستضافة غريب يفكر بالإقتراب منهم . كم كان هذا الإقتراب يشغل تفكيري . غير أني لم اشعر قط بأنني غريبة . بالرغم من تسميتهم إيّاي ببنت الأجنبية ، كانوا يرحّبون بي في أي كوخ اخترت دخوله. كانت خدوجة ، إن لم تجرّني من يدي ، تدفعني من ظهري حتى اعتدتُ أن أدلف إلى أوكارهم دون حاجة إلى تشجيعها : "تعالي تعالي لا تستحين" ) (ص 23) .

(3)

إنّ البنت تبني روايتها العائلية في إتجاه معاكس لما رسمه معلّم فيينا وطوّرته – تطبيقياً – "مارت روبير" في كتابها "رواية الأصول أصول الرواية" ، فالبنت – التي لا نعرف اسمها حتى الآن -  تنتقل من واقع العائلة "الواقعية" المُقلق النابذ لفرص التوافق والتكيّف بين أطراف المثلث الأوديبي ، إلى "واقع" مقابل لعائلة "واقعية" مشتهاة تكون فيها بنتاً لها – وأختاً وقريناً لإبنة العائلة الأصلية : خدّوجة – وتنظر من بعد وبحرقة مكتومة إلى العائلة التي نبذتها والتي تحنّ إليها ، منتظرة الإنقاذ من أبيها ، والإلتمام في أحضان أمّها . وهي في سبيل ذلك لا تتردّد – عن لاوعي – في توريط نفسها بصورة متكرّرة حين تفشي لأمّها المتعنّتة الكارهة لعائلة خدّوجة بعض "الأسرار" الصغيرة لأفعال تقوم بها في بيت خدّوجة ، كما حصل حين أخبرت أمّها بأن بيبي الحجّية – تقصد جدّة خدّوجة – قد سرّحت لها شعرها بمشط الخشب العائد لها :

(أقامت الدنيا وأقعدتها قائلة : jessuss ، القمل" . لم تفرغ من تأنيبها حتى نصحها أحدهم بأن تدخلني الحمّام لتغسل رأسي بالنفط . مُنعتُ على أثرها من زيارتهم لمدة أسبوعين ، قضيت أولهما في محاولات مزعجة للتخلص من رائحة النفط) (ص 25) .

ومن المهم بمكان أن نذكّر أنّ هذه البنت هي الطفلة الوحيدة ، ومن المُعتاد أن الطفل الوحيد يحظى برعاية ملوكيّة من أبويه متربّعاً على عرش قلوبهم ، لكن ما نلاحظه أنّ معاملة الأم لابنتها صارمة في الكثير من الجوانب ، وفي بعض الأحيان تثير المرارة في نفسها إلى الحد الذي أوصلتها فيه إلى أن تعلن أنّ :

(هناك مرّة أولى وأخيرة لكلّ شيء) (ص 25)

وشاءت المصادفة أن يكون ذلك "الشيء" عِقداً من زهر أبيض ؛ عِقد من زهور القدّاح صنعته هي وخدّوجة ، وهرولت به نحو أمّها ، ووضعته على الأريكة المفضّلة لديها ، كي تكون مفاجأة سارّة . ولكن عندما عادت بعد مدّة لترى وقع المفاجأة ، وجدت "ديفيد" – الذي يصر أبوها على تسميته بـ "داوود" ، والذي يزور أمّها مع شقيقته "ميلي" كلما جاء إلى بغداد من البصرة حيث يعملان في شركة نفط البصرة – قد جلس على العقد وسحقه بثقله . كانت الهديّة الأولى من البنت إلى أمّها .. وها هي تُسحق بإهمال وبلا رحمة ، الأمر الذي جعلها تقطع عهداً على نفسها :

(لن أقدّم قلادة قداح النارنج لغير خدّوجة بعد اليوم) (ص 27)

ليمثّل هذا العهد إعلاناً مبرّراً بالإصرار على وضع حلّ لروايتها العائلية بما يتضمنه من تهشيم للآصرة الحبّية بينها وبين أمّها أوّلاً ، وتوسيع دائرة العدوان على أيّ طرف تسبّب في تدمير بادرة مشروع الحلّ – ديفيد مثلا – ثانياً ، ووضع كلّ ثقل الرجاء في كفّة الأب المُنقذ ثالثاً . وقد تمظهر الموقف الأول في حركة رمزيّة قامت بها وهي تتهيّأ لشرب قدح الشاي :

(تناولتُ مكعباً من سكّر أمسكته بطرفي سبابتي والإبهام ، جعلته يلامس سطح الشاي في فنجاني برقة غير متناهية . رحت أرقب تصاعد امتصاص السكّر للشاي من بين أصابعي بلذة ، حتى تحوّل لونه من أبيض إلى بنّي فاتح ، ثم ذاب وتهشّم في يدي ، فلعقتُ الحلاوة المتبقية . حركة لا تحبّها أمّي ) (ص 27) .

إنّها "تُمتص" تماماً إلى أعماق دائرة وجودها الشخصي ، بالرغم من أنّها تجلس بين أمّها وضيفيها الثقيلين بالنسبة لها . لقد التقطت علامة سريعة على الصلة العاطفية الغير شرعيّة بين أمّها وديفيد أو داوود . فقد التقط الأخير قدّاحة من عِقدها الذي سحقه بعجيزته ، ومرّرها على شفتيه ، بحركة سريعة خفيفة لا تكاد تلحظ ، لتنزلق القدّاحة من بين إصبعيه ، وتستقر في جيب أمّها الوردي الذي يعتلي صدرها الأيسر (ص 27) . تملكها شعور غريب بأنها ستركله وتركض ، ولكنها تردّدت ، وقمعت هذا الشعور الذي انسرب في صورة رغبة جارفة في الإنسحاب من عالم المحيطين بها ، وصلت حدودها القصوى في الخطاب المكتوم الذي تحوّلت به من ضمير الغائب إلى المخاطب ، وهو الأب في كل مرّة ، وكما بدأنا الحكاية :

(أبي ، قلتَ إن بُعدكَ لن يطول وها أنا ذا لا أكاد أراك حتى نهاية الأسبوع . انغمستَ في أعمالك ، وأمّي انغمستْ في مرطبات الجلد تعتني ببشرتها . خفّت الأصوات في البيت لقلّة وجودك. لم تعد تضفر لي جديلتي في الصباح ) (ص 30) .

وهنا تتفاقم المحنة النفسية للبنت ، فبعد أن شكّل أهمال العِقد من قبل الأم ، وسَحْقِه من قبل "صديقها" ديفيد ، "الشيء" الذي مثّل نهاية الآصرة الحبّية بينها وبين أمّها ، ووضعت كل ثقل رجائها في كفّة الأب ، ها هي تُخذل من جديد من خلال عدم وجود الأب الذي اعتقدت أنّ حضوره سوف يعوّض كل خساراتها ، وخصوصا الفراغ الأمومي العاطفي الذي نجم عن إهمال أمّها لها وانهمامها بشؤونها الشخصية حسب :
(أمّي تحب نومتها المتأخّرة ، لا داعي لإيقاظها لتربط لي شريط حذائي أو تعدّل ياقة قميصي) .
وبعد أن حُسم الأمر ، واستولى عليها شعور متكرّر بأن (صوت الأّمّهات يأتي دائما من بعيد) (ص 33) ، هذه القناعة امتزجت مع صوت "دلّة" أم خدّوجة الذي كان يأتيهم متوعّداً من بعيد وهم في ذروة لعبهم الطفولي الآسر . لكن لم يصبح صوت الأب – كما كانت تتوقع – هو الحاضر دائماً ، وهو الذي سوف يملأ عالمها الصغير . وليس تأكيد البنت المتكرّر على أن لا ينسى أبوها ضفر جديلتها كل صباح سوى تعبير عن هذا التحوّل في العلاقة الحبّية من ضفّة الأمومة إلى ضفّة الأبوّة ، مع إحالة ما هو من اختصاص الأمومة في رعاية البنت ، كأنثى ، إلى الأب ، كإعلان ختامي عن إزاحة الأنموذج الذي يجب أن تتماهى معه البنت في تلك المرحلة الحسّاسة من تطوّرها النفسجنسي ، لتضمن تحقّق المسار الطبيعي في هذا النمو ، بلا تشوّهات ، ومن دون عقد مستترة . ويبدو حلول الأب محل الأم ، كموضوع حبّ وحيد ، مسوقاً بضغوط حاجات نفسية شديدة تجتاح وجدان البنت الصغيرة حين تتحسّب البنت من أدنى الظروف التي قد تعيق اهتمام الأب بها كشأن وحيد . فها هي تجلس على نهاية السلّم تراقب حركة ضيوف أبويها وأحاديثهم في حفلة العشاء التي أقامها أبوها بمناسبة افتتاح مشروع المطيّبات ، فلا تنسى للحظة النداء الملتهب الذي تحاول تذكير أبيها بالتزاماته "الأمومية" تجاهها :

(أبي ، أنت تخدم الجميع . ستسهرون حتى الصباح لكنك لن تنسى غداً ضفر جديلتي قبل إرسالي إلى المدرسة) (ص 37) .

إنّ قدراً من "التشفّي" كان يسم علاقة البنت بأمّها ، خصوصا في حالات التوتّرات الشديدة بينها وبين أبيها مثل تلك التي حصلت بينهما حين أصرّت الأم على العمل في مكتب شركة النفط الإنكليزية ببغداد بوساطة ميلي وديفيد ، فرفض الأب ذلك بقوّة متعذّراً بضرورة تفرّغها للعناية بابنتهما الصغيرة حتى تكبر :

(فجأة شهقة صغيرة منها ، وسكت النقاش .. لم أرها تبكي في حياتي ، لكنني سمعتها بالتأكيد من خلف الباب . ربما دموعها بيضاء كبشرتها . لمحتَ طرف تنورتي فقمتَ لاستقبالي ومنعتني من الفرصة الوحيدة لأراها تبكي ) (ص 43) .

وروح البنت الصغيرة كانت في الواقع ترزح تحت وطأة مطارق قلق الإنفصال والهجران ؛ الخوف من رحيل الأم وسفرها إلى البعيد ، الرحيل الذي تتوعّد به وهي تتحدّث إلى أصدقائها ، وصار ورقة حمراء تلوّح بها في وجه البنت دون أن تشعر . كان الأب مطمئناً – وفي ذلك قسوة – إلى أن الأم لا أحد لها تلجأ إليه ، ويحاول هدهدة مخاوف ابنته الصغيرة عن هذا الطريق !! ويؤكّد لها أنّ أمّها لن تذهب إلى أيّ مكان غير هذا البيت ، وأنّ الحال سيبقى على ما هو عليه :

(لن يتحرّك أحد من هنا .. ستبقى هي تنتظرك في البيت ، أنتِ ستنجحين كلّ سنة في المدرسة ، أنا سأكون في عملي طوال النهار . سيمكث الجميع في مكانهم .

تركتَ الغرفة ، وقبل أن تغلق الباب قلتَ :

-هذا وعد . ) (ص 47) .

ووعود الآباء بالنسبة للأطفال في مثل عمر هذه البنت ، هي وعود ذات طبيعة "إلهيّة" ، ليست مُتخمة بالمصداقية العالية حسب ، بل بالطابع الحتمي للتحقق وعدم تأثّرها بأي متغيّرات مهما كانت طبيعتها أيضاً . لكن ما سيحصل مستقبلا سيكون مفاجئا للبطانة اللاشعورية التي تتحكم بحياتنا من وراء ستار وتحتفظ بكل هذه العهود المطمئنة وذات الفعل التخديري العظيم ، فالأب هو الذي سيغادر بصورة مفاجئة . لكن قناعات اللاشعور الطفلي تتلاعب بها أذرع وموجات الصراعات والرغبات العاتية التي لا ترحم ، والتي تؤسسها الوقائع اليومية التي تتكسّر على صخورها المسننة التطمينات الأبوية مهما كانت . ولعلّ المنفذ الأشدّ دقة في تصوير مخاوف الروح الصغيرة هي الأحلام ، التي تنسرب عبرها – مصوّرة – تلك الصراعات في هيئة درامية :

(حلمتُ تلك الليلة أنني سمعتُ محرك سيارة داوود عند باب البيت الأمامي الذي صُفق بشدة . عندما نزلتُ السلالم إلى المطبخ في اليوم التالي قلت : "صباح الخير مامي" ، استدارت ، فإذا بها ميلي ! كان فمها الصغير بلا أسنان ، منخرطاً إلى الداخل . شفتاها الرقيقتان مدهونتان بطلاء شفاه بنّي غامق ، فهي تحبّ صرعة الأزياء . قالت لي دون تردّد متقدّمة نحوي : "أنا التي سأعتني بك من الآن فصاعدا" . فمها البنّي المنخرط إلى الداخل كأنه نجمة متشنجة أسفل منخريها ، يشبه ثقب الكلب الصغير النحيل التائه في المزرعة المجاورة . بخطوة واسعة مني إلى الوراء ، تحوّل المشهد إلى سحابة ، لأجالس لحظات ذعر في فراشي عند الفجر) (ص 47) .

وابتداءً ، يشيد الحلم بناءه الصوري عادة على "بقايا" نهارية من اليوم السابق تشتغل كمادة أوّلية لعمليّات تحقيق الرغبات المكبوتة وإشباعها ، التي هي "عمل الحلم – Dream Work" الأول ، من خلال نقلها من مستوى "المضمون العميق المستتر – Latent Content" إلى مستوى "المضمون الظاهر – Manifest Content" ، حيث تتمظهر الرغبات الدفينة – والكثير منها شائن – بصورة محرّفة ومنكّرة . وهذا ما يقوم به "عمل الحلم" الذي يحقق إصابة عدّة عصافير بحجر واحد كما هي عادة اللاشعور في تسوياته الخلّاقة ، فقد غيّب الأم الحقيقية التي اختفت من ساحة مسرحه بعد أن سمعت الطفلة محرّك سيّارة الغريم "داوود" الخائن والمنافس الأبوي كما ترسّخ في نفسها . وكانت إشارة مغادرة الأم الناقمة هي صوت انصفاق باب البيت الخارجي بقوّة ، حيث تعبّر شدّته عن "نوع" الرحيل النهائي والناقم . ثم استبدلت أمّها بميلي التي شوّهها عمل الحلم بقسوة وجعل فمها بلا أسنان ، منخرطاّ كنجمة متشنجة أسفل منخريها ويشبه ثقب الكلب الصغير ، وكأنّ هذا التشويه المُغثي عقاب على الجملة التي قالتها ، وهو عقاب "استباقي" حيث لا يتمسك اللاشعور بالتسلسل الحرفي لعلاقة الأسباب بالنتائج . وهذا - أيضاً - تعبير عن محنة "التضاد العاطفي – Ambivalence" التي تسم علاقة كل إبنة بأمّها في هذه المرحلة العمريّة الهشّة ، وتحت ضغوط هذه العلاقة المتوترة المجافية من أمّها بأبيها ، والباردة المهملة لها والمليئة بالممنوعات بها . لكن تبقى الأمّ أمّاً ، خصوصا حين يكون البديل غير مستساغ نفسيّاً من قبلُ فعليّاً ، ولا يصلح للتعهّد برعاية الإبنة بعد رحيل الأم الاصلية . وهذه الطبيعة المتضادة وجدانياً ، لم تدع الرغبة في الخلاص من الأم تمر دون حساب ، فكانت لحظات الذعر التي يوقعها الأنا الأعلى / الضمير النامي بالبنت مكافئا للعقاب على تلك "الأمنيّات" الصغيرة . ولكن هذا المكوّن الخطير من مكوّنات الجهاز النفسي ليس عصيّاً على التصافق .. أبداً .. بخلاف ما نقرأ ونسمع عنه في كلاسيكيات التحليل النفسي ، فقد مرّ مشهد "الخيانة" الأول الذي تشهده الإبنة الصغيرة بين أمّها وديفيد ، وها هي تقدّمه بنبرة محايدة وبعبارات وصفية وكأنّها تنطلق – فعليّاً – من فم السارد المراقب :

(كانت الشمس تخترق شباكاً صغيراً عند حافة سقف المخزن في مكان اتصاله بالجدار الشرقي للغرفة . أشعّة جانبية اصطدمت بأشياء خلف العمود لتنعكس ظلالها على الجدار المقابل ، من بينها ظلال قنينة الغاز ، والكرسي الهزّاز المكسور ، وخزانة المعدّات . فجأة ! انبثقت ظلال دون زوايا .. ببطء ، ارتفع أمامي على الجدار ظل بكتفين عريضتين ، يحتوي ظلّاً بشعر ملفوف للأعلى على هيئة كعكة .. أين ميلي ؟ الظلال تتقاطع ، الكعكة تتدحرج . الشعر يتهدل . يزداد الإحتواء . الكرسي يضطرب . يتشاركانه ) (ص 52) .

والشعر الملفوف على هيئة كعكة هي علامة فارقة للأم التي نامت تفصيلات مشهد سلوكها الخياني بهدوء وبلا ذيول ساخطة أو معاقبة في أعمق طبقات لاشعور البنت . لم ترجع إليها الذاكرة الحيّة للأخيرة ، الذاكرة التي كانت "تنبض على رصيف شارع" متوهّجة بكل التفاصيل العاديّة ، وعلى الرغم من أنّها تمثل صدمة ساحقة لوعي أي بنت بعمرها ، وتعيش ضغوط تلك العلاقة بأمها ، وبين أمّها وأبيها الذي شكّل موضوع حبّها الأثير . الأب ؛ موضوع الحبّ ، الذي لم يفي بتعهّده "الشهير" بالنسبة لطفلته حيث كان غائباً أكثر أيام الأسبوع ولأكثر من الست سنوات الحاسمة في نموها النفسجنسي .  ولكن حلّ محلّه بديل هو :الرائحة ! رائحة الفاكهة والمطيّبات المُرتبطة بعمله . ولم يكن غياب الأب نفسيّاً مرتبطاً بعمله فقط ، بل بمرضه المفاجىء أيضاً ، حين أُصيب بنوبة قلبيّة ألزمته الفراش فغيّبت رائحته ، وكشطت شيئا من قشرة "الألوهة" المحصّنة والمتعالية المُتخيّلة :

(الدكتور يقول لك : "لا تنسَ . القلب ليس لعبة" ... تسللتُ إلى حيث تستلقي . لم أعتد على فكرة عدم انبعاث رائحة فاكهة من ملابسك . جلستُ على الفراش قريبة من وجهك . ارتعشتْ دمعة في زاوية عينك اليمنى) (ص 55).

ومع اقتحام حقيقة أنّ موضوعات الحب معرّضة للإنكسار وتهديدات الفناء مهما كانت عزيزة ومحصّنة في أعماق اللاوعي ، لأسوار وعي البنت الصغيرة ، بدأت مَلَكة التفكير لديها بالتعمّق والتجوهر – ولو بصورة أوّلية - حول الحقيقة الإنسانية الكبرى والوحيدة في حياتنا ؛ حقيقة الموت ؛ الحي الذي لا يموت . فالشعور بسطوة المُثكل ، كما وصفه جدّنا جلجامش العظيم ، وبدء إرهاصات الإحساس به كمشكلة ، يمكن أن يكون فرصة كبرى لأهم شروط نمو الوعي ونفاذه إلى جوهر الحقائق الوجودية الكبرى ، ومفتاحا أساسيا لنضج الشخصية الإنسانية :

(لأول مرّة اكتشفت أنني أفكّر ! تعلمتُ أن أفكر ببطء مثلما تتعلم أمّي قيادة السيارة . رحتُ أفعل ذلك في غرفتي ، وفي المدرسة ، وحتى في المزرعة . يأتي يوم الجمعة فأخرج بعد الفطور مع اكتشافي الأخير . أحسستُ بأن لمشيتي وقعاً جديداً . أفكر ..) (ص 56) .

وتتسع دائرة هذا الوعي مع زيادة التقييدات الطبّية على حركة أبيها وتحديدات الطبيب على نشاطه الجسدي ورغبته المتأججة في العودة إلى عمله في المشروع الآخذ بالتوسّع :

(ستموت لو واصلت العمل بهذه الكثافة ، حاول أن تشغل نفسك بهواية ما .. حتى يسترد قلبك قوّته) (ص 57).