بين يدي ديوان للأستاذ الشهيد سيد قطب

بين يدي ديوان للأستاذ الشهيد

سيد قطب رحمه الله تعالى

سيد قطب رحمه الله

عبد الباقي محمد حسين

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

فملكة الإبداع الأدبي عطاء من الله، يهبه لمن يشاء من عباده، ولهذا سميت موهبة، وهي تكمن في القدرة على استخدام اللغة استخداماً جميلاً قادراً على حمل الأفكار والمشاعر.

إن الأديب يرى الكون والحياة رؤية متميزة خاصة، وتتوفر له القدرة على التعبير عن هذه الرؤية تعبيراً دقيقاً وجذاباً. فإدراك الحياة والقدرة على التعبير عن هذا الإدراك سمتان لازمتان للأديب.

والمواهب كثيرة ومتنوعة، والله أعطى لكل مخلوق موهبة خاصة به، ولكن المواهب تتفاضل ولا تتساوى، ويقع الإبداع الأدبي في أعلى المنازل، والشعر في أرقى مراتب الإبداع، لأن الأصوات تتآلف فيه وتترابط في إيقاع جميل تطرب له الآذان، وتهتز له النفس والمشاعر، وتلك مزيته، وهو من المواهب النادرة التي لا يلقّاها إلا القليل، فمن رُزقه بلغ به مقاماً عالياً، وأصبح موضع إعجاب وإكبار، ولهذا كانت نظرة العرب للشاعر قديماً على أنه من طينة الجن، يأتي بما لا يقدر عليه غيره، فقدموه على كل أفراد القبيلة، واعتبروه ضرورة من ضرورات العيش في الحياة، حتى إن القبيلة التي لا شاعر لها كانت تُعيّر، وتبقى في المؤخرة حتى يخرج من بين أبنائها من يعلي شأنها، ويرفع ذكراها.

وموهبة الشعر عطاء تحفه الفتنة والغواية من كل جانب، مثل فتنة المال والصحة والولد.. ولا يقدر عليها إلا من خشي الرحمن وجاء بقلب منيب، وهذا يتفق في أساسه مع حكمة الخلق: من العبادة والطاعة مع القدرة على المعصية والغواية: (والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً وانتصروا من بعد ما ظُلموا وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون)(1).

إذن الشعر عطاء، مسئوليته عظيمة في توجيه الناس إلى الحق والتعرف عليه، وتربية أذواقهم، وتعظيم الفضائل، وتحقير الرذائل وأهلها، وترقية الحياة والنهوض بها إلى المستوى الذي أراده الله لبني آدم.. ترشد الناس إلى الحق، وترسم لهم منهجاً في الحياة متكاملاً، إن دور الشاعر في ريادة الناس وتهذيب مشاعرهم وأذواقهم لا يُنكر إذا أدرك حدود هذه المسئولية وتبعاتها، وهذا لا يتأتى إلا أن يكون لديه إيمان قوي وتصور جلي عن الحياة والناس والكون، ينبع من عقيدة صحيحة قويمة، تعصمه من الزلل، وتحدد معه الغاية وترسم له الهدف. والإسلام – كعقيدة- "لا يحارب الشعر والفن لذاته كما قد يفهم من ظاهر الألفاظ في الآية الكريمة السابقة، إنما يحارب المنهج الذي سار عليه الشعر والفن، منهج الأهواء والانفعالات التي لا ضابط لها، ومنهج الأحلام المهومة التي تشغل أصحابها عن تحقيقها".

وحدود هذه المسئولية متفاوتة، كشف الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) عن بعض ملامحها حين قال لحسان بن ثابت: "اهجهم وروح القدس معك"، بينما فهم لها حدوداً أخرى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الموقف التالي:

"ذكر محمد بن إسحاق، ومحمد بن سعد في الطبقات أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل النعمان بن عدي بن نضلة على ميسان من أرض البصرة، وكان يقول الشعر فقال:

ألا هـل أتـى الحسناء أن iiخليلها
إذا  شـئـت غنتني دهاقين iiقرية
فـإن كنت ندماني فبالأكبر iiاسقني
لـعـل أمـيـر المؤمنين iiيسوؤه



بميسان يسقى في زجاج وحنتم(2)
ورقـاصـة  تحدو على كل مبسم
ولا  تـسـقـني بالأصغر iiالمتثلم
تـنـادمـنـا بـالجوسق iiالمتهدم

فلما بلغ ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:

- إي والله إنه ليسوؤني ذلك ومن لقيه فليخبره أني قد عزلته، وكتب إليه عمر:

(بسم الله الرحمن الرحيم. حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم. غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير)(3) أما بعد فقد بلغني قولك:

لعل أمير المؤمنين يسوؤه    تنادمنا بالجوسق المتهدم

وأيم الله إنه ليسوؤني وقد عزلتك.

فلما قدم على عمر بَكَّتَه بهذا الشعر فقال:

-       والله يا أمير المؤمنين ما شربتها قط وما ذاك الشعر إلا شيء طفح على لساني".

نعم لم يتعاط النعمان بن عدي الخمر ولكن الشعر غلبه وطفح على لسانه، وتلك هي الفتنة التي تتطلب عزيمة وإرادة تكبحها وتردها إلى صوابها، لاسيما إذا كان صاحبها في موضع المسئولية يرعى شئون البشر كما كان النعمان.

إن الكثير من أصحاب المواهب – وعلى رأسهم الشعراء- تغرهم مواهبهم، فلا يؤدون حقها، ويخونون أمانتها، فيسعون بها سعياً أنانياً محصوراً، ويشترون بها ثمناً قليلاً، فيفقدون ذواتهم، وتمسخ صورهم، يوماً يكتبون عن الحق فتجد لكلماتهم بريقاً ولأسلوبهم حلاوة فتحسبهم من أهله، وآخر يكتبون عن الهوى والباطل فلا ترى فيهم إلا شياطين، فترتد إلى نفسك يائساً ضائعاً.. وهؤلاء قد لا يريدون الإفساد لذاته، ولكن الفساد يأتي تبعاً لهواهم وشهواتهم.

وهناك نوع آخر من ذوي المواهب يُلبس الباطل ثوب الحق، ويمتطي صهوة الإصلاح متجهاً إلى الفساد والفاحشة، ويعجبك قوله ولكن إذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل، وهؤلاء أشرهم.

دار حوار بيني وبين أحد الزملاء المهتمين بالأدب عندما بالغ في إطراء شاعر ماجن من شعراء العربية، ووصفه بأنه أسوة تتبع، ومثل يحتذى في الشجاعة وتخليص الناس من الهوان، لأنه كتب قصيدة سياسية يعري فيها حكام الأمة العربية ويفضح سيرتهم، فقلت لصاحبي:

- إن هذا الشاعر الذي زدت في مدحه سبب من أسباب الهوان الذي ينتقده في أمة العرب، سواء في اتجاهه الفكري والسياسي أو مضامين شعره الأخرى التي تفيض بالإباحية والفجور، وإلى عهد قريب كان صاحب رأي وشأن، وأنه لم يفعل ذلك إلا لما أصابه، وأنه لو ملك زمام الأمور لمال بالناس في مستنقع الفساد ميلاً شديداً، وأضفت إنني لا أحاسبه لأني لست إلهاً ولا ولي أمر وكل نفس بما كسبت رهينة، ولا أنكر عليه شيطان شعره، ولا أنقصه حقه فهو شاعر، وأن له الحق في أن يغار على أمته وأن يحزن لهوانها.. ولكن ينبغي أن تزن الأمور بميزان واضح، وتكون الصورة أمامنا عند السماع لهؤلاء بينة: هو شاعر. نعم. وقصيدته جيدة موافق. لكن لا ننسى أن مثل هذا الشاعر ليس هو المرتجى للخلاص من الذل والضياع الذي عليه الأمة، وليس هو الأسوة التي نقتدي بها، ولا المثل الذي نضربه للناس. يجب أن يكون هناك وضوح في الرؤية والكلمة، وأحياناً يكون الصمت أبلغ من الإصلاح من الكلام، وإلا كان ذلك دليل عجز وهزيمة حيث صرنا نهلل ونعتقد في كل من هب ودب، إنها الفتنة، فتنة الموهبة التي تنطلي على خاصة الناس وعامتهم!!

وسيد قطب سبقت لنا دراسة نشرت عن حياته وتراثه الأدبي، وتناولت بشيء من التفصيل شعره وملامح شاعريته، وانتهت إلى عدة حقائق هي:

سيد قطب شخصية سوية التكوين، متماسكة البناء، نمت نمواً طبيعياً بعيداً عن الشذوذ والمفاجآت، وجاءت نهايتها أمراً محتمل الوقوع في مثل ظروف العصر الذي عاش فيه، له قلب كبير، وهمة عالية، وشهامة في الطباع، ونفس ودودة، وهدوء في الملامح، وحديث جذاب، وقلة في الكلام، وصوت منخفض.. ولا أدل على نبله وحنانه من أنه وهب حياته لأسرته، يرعاها، ويتكلف في سبيل ذلك الشيء الكثير، فلم يتزوج حتى لا تشغله الزوجة أو الأولاد عن تلك المهمة التي وجد نفسه مسئولاً عنها. ويتعدى عطفه وكرم شمائله دائرة أهله الأقربين إلى الناس الآخرين من حوله. يروي الأستاذ محمد خضير(4)، وكان من تلاميذ سيد قطب في تحضيرية الداودية سنة 1933: أن سيد قطب – رحمه الله- كان يرعى الفقراء من التلاميذ، يشتري لهم الكساء، ويدفع لهم النفقات، وأنه كان رحيم القلب حاني النفس. ويؤكد هذا أيضاً الأستاذ زاهر حميدة(5) فيما يحضره من صفات سيد قطب قائلاً:

- "كنت أيام الطلب رقيق الحال، لا تفارقني الحاجة، وكان اللحم بالنسبة لي وبعض الزملاء الآخرين شيئاً عظيماً، ثم رزقنا الله بصحبة فتحي ابن أخت سيد قطب عليه رحمة الله، فلم يتردد في أن يذكرنا عند خاله، ويعود لنا منه بدعوة مفتوحة إلى بيته، فصرنا نذهب عندهم كل يوم جمعة لنصيب من طيب الطعام ما لم نقدر عليه، بل اتخذنا البيت مثابة نهرع إليه كلما ضاقت بنا السبل وعز علينا العيش".

إن سماحة النفس تلك ولين الجانب هذا استعداد واكتساب، استعداد وهبه الله له، واكتساب أخذه من البيت الذي نشأ فيه، فلقد كان والده – رحمه الله- كريم النفس جواداً، وقوراً رزيناً، رحيماً عطوفاً، لين الجانب حي القلب، ديّناً في سلوكه وأخلاقه.

سيد قطب أديب شاعر يملك الموهبة، موهبة الإبداع والتذوق، وإن هذا العطاء الإلهي هو الذي فرّخ لنا سيد قطب صاحب الظلال والتصوير الفني ومشاهد القيامة في القرآن. إن التذوق الرفيع للغة، والتعبير الجيد عنه هو السمة البارزة التي تميز بها الرجل وجعلت لفكره جاذبية وتأثيراً، يضاف إلى ذلك إيمانه القوي بفكره والتزامه بكل ما يصدر عنه، ولهذا نسمعه يقول:

- "إن الفكرة شيء جميل قيم ثمين، لكنها لا تؤثر إلا حين ينبض بها الشعور من الداخل حتى لينساها الفكر الواعي، حتى لتكون جزءاً من حياة صاحبه".

"إن السر العجيب – في قوة التعبير وحيويته- ليس في بريق الكلمات وموسيقى العبارات، وإنما هو كامن في قوة الإيمان بمدلول الكلمات وما وراء الكلمات، وإنه في ذلك التصميم الحاسم على تحويل الكلمة المكتوبة إلى حركة حية، والمعنى المفهوم إلى واقع ملموس".

"إن كل كلمة عاشت قد اقتاتت قلب إنسان، أما الكلمات التي وُلدت في الأفواه، وقذفت بها الألسنة، ولم تتصل بذلك النبع الإلهي، فقد ولدت ميتة، ولم تدفع بالبشرية شبراً واحداً إلى الأمام، وإن أحداً لن يتبناها، لأنها ولدت ميتة، والناس لا يتبنون الأموات..."

لقد فهم سيد قطب أمانة الموهبة والكلمة، وعلم أن الصدق فيها أمر ضروري للتأثير والتعبير، فنجده يقول:

 "إن أصحاب الأقلام يستطيعون أن يصنعوا شيئاً كثيراً، ولكن بشرط واحد أن يموتوا لتعيش أفكارهم، وأن يطعموا أفكارهم من لحومهم ودمائهم، وأن يقولوا ما يعتقدون أنه حق، ويقدموا دماءهم فداء لكلمة الحق.

إن أفكارنا وكلماتنا تظل جثثاً هامدة، حتى إذا متنا في سبيلها أو غذيناها بالدماء انتفضت حية وعاشت بين الأحياء".

ويتوجه بالنصيحة إلى أصحاب المواهب:

"فإلى الذين يجلسون إلى مكاتبهم، يكدون قرائحهم لينتقوا اللفظ الأنيق، وينمقوا العبارة الرنانة، ويلفقوا الأخيلة البراقة، إلى هؤلاء أتوجه بالنصيحة: وفروا عليكم كل هذا العناء، فإن ومضة الروح وإشراق القلب بالنار المقدسة، نار الإيمان بالفكرة هو وحده سبب الحياة، حياة الكلمات وحياة العبارات".

سيد قطب يعطينا مثلاً للأديب الذي غرس فيه الطموح والاعتداد بالنفس وتسلح بقوة الإرادة والصبر والعمل الدائب كي يحقق ذاته وأمله. الأديب الذي تحددت معالم نفسيته في الوضوح والصراحة والمجابهة والثبات على الفكرة التي يؤمن بها مهما كانت النتيجة. فلا نجد من سماته المكر أو الدهاء، ولا من قيمه الازدواجية أو الانتهازية، الأديب الذي اتصل بالعقاد ليستفيد في وعي واتزان واستقلالية تحفظ عليه كيانه وتحقق ذاته.

الأديب الذي لم تفتنه الحضارة الغربية عن الصواب وإدراك ما فيها من خير وشر، وحق وباطل، وزيف وضلال، بل منحته فرصة المقارنة بينها وبين حضارة الفكر الإسلامي الصحيح، وكانت النتيجة أنه آمن بالأخيرة عن يقين وثبات، ونقد الأولى وهاجمها انتقاد خبير وهجوم بصير. الأديب الذي استطاع بالكلمة المكتوبة الصادقة أن يؤثر ويوجه الكثير من الرجال والشباب الذين التفوا حوله رغم كل العقبات والأخطار التي أحاطت بهم. الأديب الذي قدم حياته في سبيل الدعوة التي آمن بها.

لقد حققت الدراسة السابقة شعره تحقيقاً دقيقاً، وتناولته تناولاً موثقاً، يقوم على الإحصاء والتسجيل، وتحدثت عن روافد شاعريته، وطبيعة البيئة التي نشأ فيها، والظروف التي أحاطت به، ونوعية المعارف والعلوم التي تركت بصماتها عليه، كما صنفت شعره حسب الموضوعات التي يعالجها، وخرجت من تحليلها لتلك الأغراض إلى نتائج هي:

خلو شعر سيد قطب من المدح والفخر والهجاء، بعده عن الغزل الحسي الفاحش، الذي يصدر عن شهوات النفس وملذاتها وعبث الشباب ومجونه، ويتركز حول وصف مفاتن المرأة الجسدية، والحديث عن لقاءاتها المحرمة.. على العكس من ذلك تماماً نجد في غزله الحب الطاهر العفيف، الخالد الذي يرتفع – كما قال- بالإنسان عن خطل الجسم إلى عالم النور والضياء. بل نجد نوعاً آخر من الحب، حيث يحدثنا عن نفسه كواحد من شعراء الشباب في مقالة كتبها في مجلة الأسبوع سنة 1934، فيقول: "نفسه خيرة محبة، يغمر الحنان جوانبها تريد – أو استطاعت- أن تبسم لكل شيء وأن يبسم لها كل شيء، وهي تعشق الرضا والهدوء وتتلمسه في كل ناحية وفي كل مظهر من مظاهر الحياة، وتود لو كانت الحياة منبسطة هادئة لا عوج فيها ولا نتوء.

تصطدم هذه الطبيعة بالواقع فتحار وتتألم وتشكو، وقد تغضب وتنفعل، وقد تسخر وتهدد بالانتقام، ولكنها مع ذلك تحتفظ بخيرها وحنانها في أشد ساعات الغضب والانفعال والسخرية، وهي تود ألا تغضب وألا تنفعل في يوم من الأيام، حتى إذا انتهى ذلك الموقف عاد إليها حنانها، وعادت تبحث عن مظاهر الود والمحبة بحث اللاهث المستزيد.

وكل ذلك في غرارة بريئة مندفعة في رضاها وسخطها على السواء، وفي طفولة كبيرة لا تخرج منها إلا وهي تحن إليها، وتسخط على الحوادث والتجارب التي فجعتها فيها.

ولو تهيأ لصاحبنا أن يتخيل الكون من جديد ما أحسبه كان يتخيله إلا حدائق ومتنزهات تجري من تحتها الأنهار، وتغرد فيها الأطيار، وتجمع فيها الأصدقاء والخلان والمحبون للتناجي والسمر الهامس اللطيف، ولا ضجيج ولا اضطراب، ولا تجني ولا تزاحم في ذلك النعيم المقيم.

وهذا الحب الذي يخفق به قلب شاعرنا ليس مقصوراً على حب المرأة ولا حب الأصدقاء، وما أردت ذلك فقط حين قلت إن نفسه محبة، وإنما قصدت إلى معنى أشمل هو معنى الحب العام الذي يغمر النفوس، فلا يدع فيها مكاناً للبغضاء أو الحقد، والذي يجعلها نزاعة أبداً إلى الاجتماع والعطف، وتلقي كل مظهر من مظاهر الحياة بنوع من القبول والرفق، فهو يودّ لو يشمل الكون جميعه بالحنان، وأن يشمل كل شيء في الكون بالحنان كذلك، يكون بينهما تعاطف وتراحم وتواد، وهذا الحب يظهر في حب المرأة، أو في حب الأصدقاء، أو حب العهود الماضية والدروب البالية، والأشجار الناضرة والذابلة، والطيور المغردة والنائحة.. فيكون كل أولئك منصرفاً لذلك الحب الشامل ومظهراً له، لا تستوعبه، ولكن تدل عليه، لأنه أكبر من أن ينحصر في بعضها أو فيها جميعها:

هو قلب ما درى كيف السرور         لا ولا كيف يرائي أو يخون

يحفظ  الود  وحاشا  أن  يجور        وَلَكَمْ  يبكي  لمرأى البائسين

وهو قد يصبر ويتجلد حين يصاب في نفسه، ولكنه يأسى لمصاب غيره، لأن هذا المصاب، يهيج فيه عاطفة الحنان الدفينة:

عجبت لنفسي لا تراع من الأسى        ويقتلها  خطب  ينيخ على غيري

ويا ربما  أبكي لمن  خلت  بائساً        على حين يقضي ليله باسم الثغر

والقارئ لهذا الشاعر يجد حب المرأة، وحب الصديق، وحب الطبيعة – ولا سيما الأشجار والأطيار- وحب الذكريات والعهود والأطياف، وكل ذلك يسير معاً في تيار واحد، وبقوة تكاد تتماثل لأنها جميعها ترجع إلى معين واحد، هو معين الحب العام في تلك النفس الحانية الرؤوم".

ويقل الرثاء في شعر سيد قطب، مخافة أن يندرج تحت اسم (شعراء المناسبات) وقلّت وطنياته للسبب نفسه، ولسبب آخر هو الكبت الذي فرضه المحتل، وقلة الأعمال البطولية والوطنية التي تحرك قرائح الشعراء وتلهب مشاعرهم.

إن شعره في مجمله يقدم صورة فعلية للشباب الذي تلتهمه الحياة المعاصرة بواقعها المر، الشباب الممزق الذي تداعبه آماله وطموحه، ويرده واقع الحياة خائباً خاسراً، فيسقط فريسة الضياع والتمرد والشكوى، ويبحث عن نفسه هنا وهناك، فيضل وينحرف، ولا ينجو من ذلك إلا من رحم. وهنا يأتي دور العقيدة الصحيحة التي تعصم الإنسان من الزلل وتبصره بذاته وغايته.

وأشير إلى مسألة مهمة هي: ليس في أدب سيد قطب ما يشين أو يشكل مغمزاً في حياته، أو يضع من قدره كعلم بارز في الفكر الإسلامي المعاصر، أو يحط من جهده في مجال الدعوة والإصلاح، حتى نسمع كثيراً من التحفظات حول نشر تراثه الأدبي، بدعوى أن سيد قطب قد تبرأ منه وتخلى عنه، والحقيقة أن كل هذه التخوفات لا مبرر لها ولا دليل عليها. فهذا التراث ليس فيه ما يعارض تراثه الإسلامي أو ينقصه، وما هو إلا نتاج مرحلة من حياة الرجل عبرت عنه تعبيراً صادقاً، ولا يمكن إسقاطها حين نريد أن نعطي صورة متكاملة عن مبادئه، بواعثها ومكوناتها، زد على ذلك أن لهذا التراث أهمية بالغة في حياة سيد قطب بعد ذلك، فهو – كما ذكرت- يمثل الأساس الذي كونه وأكسبه كثيراً من التجارب في الحياة والتذوق والفكر، ولولاه لما كان "لظلاله" أثر، ولا "لمعالمه" وضوح.

لم يرد نص مكتوب ولا نقل موثق عن سيد قطب يفيد تخليه عن أدبه، وكان بإمكانه هذا، وإذا كان الناشر لكتابه "في ظلال القرآن" قد أعرض عن ذكر مؤلفاته الأدبية وأسقطها من قائمة إنتاجه قائلاً: "ليس في النية إعادة طبعها للشعور بأنها قد أدت دورها في حينها، ولم يعد لها إلا الاعتبار التاريخي. وبعضها مما يحتوي آراء أو اتجاهات للمؤلف تبين له خطؤها فعدل عنها" أقول: هذا اجتهاد من الناشر لم يوح به أحد إليه، وهو اجتهاد غير دقيق، لأنه أثبت في القائمة كتابي: التصوير الفني، ومشاهد القيامة وهما من الكتب الأدبية، وإذا كنت متفقاً معه في أن تراث سيد قطب الأدبي قد أدى دوره في حينه، فإن هذا ليس معناه التخلي عنه أو التبرؤ منه كما يشاع، بل أؤمن بأهمية حفظ هذا التراث ومناقشته وإبراز أهميته، وقد لا يكون هذا ضرورياً لمن عاصروه وعاشروه عن قرب، بل هو مهم للأجيال القادمة التي ستتمنى – يوماً- سيرة واضحة لحياته ورصداً كاملاً لأعماله، كما نطلب نحن آثار من سبق من العلماء، ونأسى لضياع شيء ولو كان يسيراً. وخلاصة الأمر: أن سيد قطب لا يضره أبداً أن كان يوماً أديباً أو شاعراً.

ولقد سبق دراسة شعره دراسة فنية مفصلة، أبرزت ملامح تجربته الشعرية في الشكل والمضمون، فعالجت: بناء القصيدة، اللغة، الصورة الشعرية، المفارقة التصويرية، الخطابية والمناجاة، وأخيراً الموسيقى الشعرية المستخدمة. وانتهت إلى أن شعر سيد قطب يغلب عليه الوجدان وتميزه العاطفة، إذ ينتمي إلى جيل الشباب، جيل: إبراهيم ناجي، وعلي محمود طه، والهمشري، ومحمود حسن إسماعيل.. الجيل الذي تلا أوائل النهضة المعاصرة، جيل البارودي وأحمد شوقي والرافعي والعقاد.. ولا عجب أن نجده محافظاً على منهج الأقدمين خاصة في رثائه وقصائده الوطنية، ومجدداً على منهج العقاد في تأمله ووصفه.

وديوان سيد قطب الذي نقدمه اليوم متمم للدراسة التي سبقت، وهو ملحق لها، ويشتمل على كل شعره سواء ما أخرجه هو في ديوان "الشاطئ المجهول" أو ما أمكنني جمعه من الصحف والمجلات، ولم ينشر في ديوان. ويشكل ديوان "الشاطئ المجهول" حوالي نصف إنتاجه كله تقريباً، وما جمعته يشكل النصف الباقي أو يزيد قليلاً.

نشر ديوان الشاطئ المجهول في يناير 1935، حجمه من القطع الصغير 11سم × 14سم وعدد صفحاته 210 صفحة، ويبدأ بالإهداء الشعري التالي:

"أخـي"  ذلك اللفظ الذي في iiحروفه
"أخـي" ذلـك اللحن الذي في iiرنينه
"أخي" أنت نفسي، حينما أنت صورة
تـمـنـيـتُ ما أعيا المقادير، iiإنّما
فـأنـت  عـزائي في حياة iiقصيرة
تـخذتك  لي ابناً، ثم خدناً، فيا iiترى
عـلـى  أيـمـا حال أراك iiمخلدي
فـدونـك أشـعاري التي قد نظمتها








رمـوز  وألـغـاز لشتى iiالعواطف
تـرانـيـمُ إخـلاص وريّـا iiتآلف
لآمـالـي القصوى التي لم iiتشارف
وجـدتـك رمزاً للأماني iiالصوادف
وأنـتَ امـتدادي في الحياة iiوخالفي
أعيش  لألقى منك إحساس عاطف ؟
وبـاعـث أيـامي العذاب iiالسوالف
لـتـبقى  على الأيام رمز iiعواطفي

وينتهي بالتصويبات، وله مقدمة نثرية كتبها سيد قطب بنفسه آثرنا أن نوردها في مكانها كما هي لأهميتها.

ويشتمل الشاطئ المجهول على أربعة أجزاء: ظلال ورموز، صور وتأملات، غزل ومناجاة، ووطنيات، ويضم سبعاً وخمسين قصيدة، وخمس مقطوعات، مذيلة بأعوام إنشائها، وأقدمها مقطوعة من ثلاثة أبيات بعنوان "وردة ذابلة" مؤرخة بعام 1925م وأحدثها مؤرخة بعام 1934، وأطول قصيدة ستون بيتاً، وهي قصيدة "السر أو الشاعر في وادي الموتى" وأقصر قصيدة عشرة أبيات مثل "ابتسامة، وخراب، واللغز..".

فيكون مجموع قصائد الشاعر خارج ديوان الشاطئ المجهول إحدى وسبعين قصيدة، ومجموع الأبيات 1470 سبعون وأربعمائة وألف.

فلقد أشيع أن لسيد قطب دواوين أخرى غير الشاطئ المجهول، والحقيقة أني لم أعثر على غير الشاطئ المجهول، وأسماء الدواوين التي نسبت له هي: أصداء الزمن، الكأس المسمومة، وقافلة الرقيق وحلم الفجر فخبرها كالتالي:

"أصداء الزمن" أغلب الظن أنه قد صدر لسيد قطب ديوان بهذا العنوان، والدليل على ذلك أنني عثرت على بعض القصائد في مجلتي: الرسالة وصحيفة دار العلوم تفيد تذييلاتها أنها من ديوان سيصدر في ديسمبر سنة 1937 بعنوان: أصداء الزمن، وعناوين هذه القصائد هي: "عبادة جديدة"، "وحي جديد" في مجلة الرسالة، "وخطى الزمن الوثاب" في صحيفة دار العلوم. ودليل آخر هو تأكيد الموظف المختص بمكتبة معهد الدراسات العربية العالي الكائن بجاردن سيتي على أن هذا الديوان كان موجوداً بمكتبة المعهد، لكنه فقد في أيام محنة سيد قطب مع الإخوان.

وأما الكأس المسمومة، وقافلة الرقيق، وحلم الفجر فليست إلا عناوين لقصائد نشرها سيد قطب في مجلتي: الرسالة والكتاب، ولم أعثر على أي خبر أو أثر يفيد أنه قد ظهرت له دواوين بهذه الأسماء، ومن المحتمل جداً أن يكون الأمر قد التبس على الناشرين الذين نشروا مؤلفات سيد قطب أيام محنته دون إذن أو تصريح، فظنوا تلك القصائد دواوين فنشروا أسماءها في قائمة مؤلفاته.

وأخيراً فإني قد صنفت القصائد في هذا الكتاب حسب الموضوعات التي تعالجها، وهي:

1- التمرد: ويشتمل على القصائد: اضطراب خانق، زفرات جامحة مكبوحة، عزلة في ثورة، عاشق المحال، بعد الأوان، وحلم قديم.

2- الشكوى: وفيه نجد قصائد: خريف الحياة، الصديق المفقود، غريب، خراب، النفس الضائعة، نهاية المطاف، الغد المجهول، مر يوم، خطى الزمن الوثاب، سعادة الشعراء، وسخرية الأقدار، إلى الثلاثين.

3- الحنين: وقصائده هي: جولة في أعماق الماضي، عهد الصغر، رثاء عهد، وحي الريف: (العودة إلى الريف، ليلات في الريف، الليلات المبعوثة)، بين عهدين: (العش المهجور، نداء العودة)، ريحانتي الأولى أو الحرمان، السعادة حديث الأشقياء، ابتسامة، هتاف روح، دعاء الغريب، عبادة جديدة، تسبيح، في السماء، نداء الخريف، عهد ذاهب.

4- التأمل: في الصحراء، الإنسان الأخير، إلى الظلام، قافلة الرقيق، أقدام في الرمال، القطيع، خدعة الخلود، الدنيا، الخطيئة، السر أو الشاعر في وادي الموتى، بين الظلال، إلى الشاطئ المجهول، الشعاع الخابي، التجارب، هدأت يا قلب، عودة الحياة، البعث، مصرع قصيدة، في مفترق الطريق، وجوه طريفة، بسمة بعد العبوس، خبيئة نفسي، على القمة.

5- الغزل: وتتناوله القصائد التالية: هي أنت، الظامئة، رسول الحياة، تحية الحياة، أحبك، لماذا أحبك، توارد خواطر، سر انتصار الحياة، المعجزة، اللحن الحزين، الغيرة، مصرع حب، الحنين والدموع، اللغز، قبلة، داعي الحياة، الخطر، يقظة، رقية الحب، الحياة الغالية، الكون الجديد، حب الشكور، عصمة الحب، الانتظار الخالد، الحب المكروه، نكسة، على أطلال الحب، غني، وحي جديد، أكذوبة السلوان، وحي لقاء، حلم الفجر، انتهينا، الكأس المسمومة، حلم الحياة، حدثيني، خصام، بيانو وقلب، ليلة، نظرة موحشة، طيف، عينان، صدى قبلة، صوت.

6- الوصف: وتعالجه قصائد: هدأة الليل، وردة ذابلة، الصبح يتنفس، يوم خريف، وداع الشاطئ، في ليلة من ليال الربيع، وادي الخلود أو الوادي المقدس، حلم النيل، عبث الجمال، ناحت الصخر، الجبار العاجز، العود، جمال حزين، وبريشة الشعر أو صورة صادقة.

7- الرثاء: وتجده في قصائد: وحي الخلود، الذكرى الخالدة لسعد، ذكرى سعد زغلول، صدعة الفاجعة، البطل، طليعة الضحايا، نوسة أو شطر من العمر، وموت سوسو، الزاد الأحمر.

8- الوطنيات: إلى البلاد الشقيقة، مأساة البداري، صوت الوطنية، والمهرجان.

وأسأل الله أن يرحم سيد قطب، وينفعنا بعلمه، ولا يفتنا بعده، ولا يحرمنا أجره، ويهدينا سواء السبيل.

باريس في يوم الجمعة 18 من المحرم 1408هـ 11 من سبتمبر 1987م.

                

(1) سورة الشعراء: 224 – 227.

(2) الحنتم: الجرة الخضراء.

(3) سورة غافر: 1 – 3.

(4) مهندس بالمعاش.

(5) مدير عام شئون الأفراد وزارة التربية والتعليم.