الشاعر الرومانسي سيد قطب

سيد قطب رحمه الله

المفكر الفيلسوف: د. حسن حنفي

سيد قطب هو الإمام الشهيد عند الإسلاميين، وهو المفكر الشهيد عند مجموع المفكرين. وهو الناقد الأدبي عند جماهير النقاد، وهو الشاعر الرومانسي المنتسب إلى مدرسة (أبو للو).

والحقيقة أن سيد قطب له جوانب متعددة طبقاً لمراحل حياته، فهو الشاعر الرومانسي في العشرينيات (1925- 1945)، وكاتب قصص الأطفال.

وهو الناقد الأدبي في الأربعينيات (1945- 1950) في (النقد الأدبي، أصوله ومناهجه)، (التصوير الفني في القرآن)، (مشاهد القيامة في القرآن).

وهو المفكر الإسلامي في الخمسينيات (1950- 1954) ابتداء من (العدالة الاجتماعية في الإسلام) (1949)، (معركة الإسلام والرأسمالية) (1950)، (السلام العالمي والإسلام) (1951)، (المستقبل لهذا الدين) (1953)، (في ظلال القرآن) على مدى عشرين عاماً.

والمرحلة السياسية (1954- 1965) وفيها أسوأ ما كتب (معالم على الطريق) الذي كتب وهو في السجن تحت آلام التعذيب الذي يكفّر فيه المجتمع ويقسّمه إلى إسلام وجاهلية، نور وظلام، إله وطاغوت، إيمان وكفر، ولا حوار بين الحق والباطل إلا أن يقضي الحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً)(1).

كان الشعر مرحلة من العشرينيات حتى الأربعينيات لم تستمر. كانت أول قصيدة (وردة ذابلة) عام 1925 وآخر قصيدة (أخي) عام 1957 وهو في السجن، وكانت الذروة في الثلاثينيات خاصة عام 1934.

* كان يمكن تصنيف قصائده طبقاً لموضوعاتها، ولكن كان من الأفضل بيان خصائصها الشعرية وموضوعاتها، ويتضح سيد قطب شاعر الغزل ثم التأمل ثم الحنين ثم الوصف ثم الرثاء. ولا يأتي شاعر التمرد والوطنيات إلا في النهاية.

* هو شعر تقليدي عمودي وليس شعراً حديثاً. يستعمل الألفاظ العربية غير المتداولة كما هو الحال في الشعر الجاهلي. يحتاج إلى شرح اللغويين والنحاة، يغلف الروح الرومانسية بغلاف لغوي وغطاء لفظي يمنع من الإحساس الجمالي المباشر بالمضمون الشعري.

قد يرى النقاد فيه بعض الصنعة والتكلف في الصياغة، ومع ذلك يبدو المضمون الرومانسي واضحاً، لم يدخل معارك الشعر الحديث كما فعل العقاد، وطه حسين، وصلاح عبد الصبور، بل دخلها في الرواية في عرضه لثلاثية نجيب محفوظ، وانتصاره للجديد ضد القديم، للعقاد على طه حسين، له قصته مثل (الأيام) لطه حسين وهي (طفل من القرية) و(يوميات نائب في الأرياف) لتوفيق الحكيم.

* وهو شعر عاطفي وجداني رومانسي، ينبع من أعماق النفس (خبئية نفسي) فالشاعر غريب في العالم يدعو في (دعاء الغريب).

يخطو الزمن به وثباً، يتوه في الصحراء، وتغوص أقدامه في (أقدام في الرمال).

يحن إلى الماضي وإلى أيام الصبا وتذرف الدموع (الحنين والدموع) ويشعر بالحرمان في (ريحانتي الأولى أو الحرمان) والحاجة إلى الإشباع الروحي وإلى (هتاف الروح) ينبع شعره من أعماق القلب (هدأت يا قلبي) يمدح الإبداع في الفن والحياة وكما كتب في 1931م في محاضرة قدمها مهدي علام: (مهمة الشاعر في الحياة) وظل كذلك حتى في مرحلته الإسلامية عندما كتب (الإسلام حركة إبداعية في الفن والحياة) ويتردد لفظ (الحياة) عشرات المرات في قصائده: (خريف الحياة) (عودة الحياة) (رسول الحياة) (سر انتصار الحياة) (داعي الحياة) (تحية الحياة) (حلو الحياة).

* وهو شعر واقعي يصف الجوانب السلبية في الإنسان، وفي الحياة كما يصفها القرآن، ووصف الإنسان بالجدل والتسرع والغرور والجهل والظلم. لديه إحساس بالاضطراب والحنق في (اضطراب حانق) والأقدار تسخر من الإنسان في (سخرية الأقدار) والدنيا خراب في (خراب). والنفس ضائعة في (النفس الضائعة) والصدق مفقود في (الصديق المفقود) والغد مجهول في (الغد المجهول) وهو غريب في العالم في (غريب) و(دعاء الغريب). يرثي عهداً ولّى في (رثاء عهد) و(عهد ذاهب). والشعاع خاب في (الشعاع الخابي) والشاطئ مجهول في (الشاطئ المجهول) والشاعر في وادي الموتى في (السر... أو الشاعر في وادي الموتى). والخطيئة تغمر وجود الإنسان في (الخطيئة). وللقصيدة مصرع في (مصرع قصيدة).

والخلود خدعة في (خدعة الخلود). والنظرة موحشة في (نظرة موحشة) والناس في خصام في (خصام). والأفواه ظامئة في (الظامئة). واللحن حزين في (اللحن الحزين).

والحب في مصرع (مصرع حب). والحب مكروه في (الحب المكروه)، والبكاء على أطلال الحب في (على أطلال الحب). والسلوان أكذوبة في (أكذوبة السلوان) والكأس مسمومة في (الكأس المسمومة) والوردة ذابلة في (وردة ذابلة) والجمال عبث في (عبث الجمال) واليوم خريف في (يوم خريف) والجبار عاجز في (العاجز الجبار) والجمال حزين في (جمال حزين). والهرة سوسو ماتت في (موت سوسو) وللفاجعة صدى في (صدى الفاجعة) والبداري مأساة في (مأساة البداري) والحنين يذرف الدمع في (الحنين والدموع) والحياة نكسة في (نكسة).

* وفي الوقت نفسه هو شعر مثالي يعبر عن حضور المثل الأعلى في الإنسان، كما هو الحال عند الرومانسيين الألمان فخته وشلنج، يعبر عن الجوانب الإيجابية في الإنسان كما يفعل القرآن في بر الإنسان بوالديه. يريد الصعود إلى القمة (على القمة) يعشق المحال في (عاشق المحال)، يحقق الحلم القديم في (حلم قديم) و(جولة في أعماق الماضي). الشعراء فيه سعداء في (سعادة الشعراء) و(السعادة حديث الأشقياء). والروح تهتف في (هتاف الروح). والابتسامة على الوجوه في (ابتسامة)، والبسمة بعد العبوس في (بسمة بعد العبوس)، والوجوه طريفة في (وجوه طريفة). وهناك بعث بعد الموت في (بعث)، والحب حقيقة وتعبير في (أحبك) و(لماذا أحبك؟) والقبلة نتيجة طبيعية للحب في (قبلة). والحب رقية في (رقية الحب)، والحب لا يخطئ في (عصمة الحب). والخواطر تتوارد في (توارد خواطر).

* وهو شعر إنساني عام، لا يفرق بين شرق وغرب، إذ لم يبدأ العداء للغرب إلا بعد 1950 بعد الصدمة الحضارية إثر زيارته للولايات المتحدة في بعثة تربوية، والتي كان يكتب في أثنائها الرسائل لشقيقته (حميدة) يصف فيها انطباعاته عن العالم الجديد، والتي جُمعت بعد ذلك في (أمريكا التي رأيت).

كل أشعاره تجارب إنسانية عامة يمر بها كل إنسان بصرف النظر عن لغته وثقافته ودينه ووطنه وقومه، الموت والحياة، المحبة والعشق، الواقع والحلم، الماضي والحاضر والمستقبل) الزمان والخلود، أطوار العمر، الربيع والخريف، الألفة والغربة، السعادة والشقاء، البسمة والعبوس، الفرح والحزن.

* وهو شاعر طبيعة مثل شعراء الطبيعة القدماء والمحدثين، ذي الرمة وشعراء المهجر. في الطبيعة جمال، كما أن في الروح جمال. وللحياة خريفها وربيعها.. سقوط أوراقها ونموها في (نداء الخريف) و(في ليلة من ليال الربيع) وما أجمل الليل في الريف في (ليلات في الريف) و(العودة إلى الريف) في ظلال الأشجار في (بين الظلال). وما أجمل الطيف وصوت حفيف الأشجار في (طيف) و(صوت). والصبح يتنفس في (الصبح يتنفس). والحيوان جزء من الطبيعة مثل النبات، ويبدو ذلك في قصيدتي (سوسو) و(نوسة) اسمين لقطتين.

* وهو شعر اجتماعي يعبر عن المفارقة بين الريف والمدينة. بالرغم من أن الريف مصدر الإلهام ووحي الرومانسية في (العودة إلى الريف) و(ليلات في الريف) إلا أنه أيضاً موطن الفقر والبؤس واستغلال الفلاح، فالحرمان هو الريحانة الأولى في (ريحانتي الأولى أو الحرمان). الناس في (قافلة الرقيق) يسعون نحو التحرر. السلوان أكذوبة في (أكذوبة السلوان) و(محلاها عيشة الفلاح، متهني القلب ومرتاح). وهو ما عبر عنه نثراً فيما بعد في (العدالة الاجتماعية في الإسلام)، الشاعر الوطني الاشتراكي مع (اشتراكية الإسلام) لمصطفى السباعي في سوريا. ويشعر بضرورة الثورة والخروج من العزلة في (عزلة في ثورة). وهو ما تحول عنه أحد تلاميذه إلى "اليسار الإسلامي" عام 1980 بعد خمسة عشر عاماً من استشهاده.

 * وهو شعر وطني يعبر عن الأماني الوطنية للشعوب العربية، استقلال مصر، ثورة 1919، سعد العظيم، وحدة مصر والسودان، الجهاد في فلسطين، انتماء مصر العربي. لذلك أعجب به عبد الناصر في أوائل الثورة، وأراده رئيساً لهيئة التحرير، أول تنظيم سياسي للثورة، وطلب منه إعطاء أحاديث وطنية في الإذاعة المصرية، وهو الذي كتب برنامجه الدعوي (دعوتنا) عندما طلب عبد الناصر كتابة الأحزاب لبرامجها السياسية. وسعد العظيم ذكراه خالدة في (الذكرى الخالدة لسعد العظيم)، وهو البطل في ذكراه في (البطل) و(ذكرى سعد)، وهو (صوت الوطنية) و(مأساة البدارى) تضحية بالمواطنين في حكومة الظلم. ومصر نبض العروبة في (إلى البلاد الشقيقة). إنما العيب في مدح الملك فاروق في (المهرجان) مهرجان العرش والشعب معاً (عاش فاروق ودام المهرجان).

* وهو شعر يعبر عن الرغبة في الخلود، وامتداد الإنسان أفقياً بين الماضي والحاضر والمستقبل، ورأسياً بين الزمان والخلود. الزمان يمر في (مر يوم) ويخطو وثباً في (خطا الزمن الوثاب) ويصل إلى نهايته في (نهاية المطاف) وهي محطات أهمها في سن الثلاثين في (إلى الثلاثين) ولحظة الانتظار هي لحظة خالدة ينكشف فيها الخلود في الزمان في (الانتظار الخالد) ويعود إلى الماضي في (جولة في أعماق الماضي) و(الماضي) و(عهد الصغر) و(رثاء عهد) و(عهد ذاهب) و(الذكرى الخالدة لسعد العظيم) و(ذكرى سعد) فالغد مجهول في (الغد المجهول).

* ولا يوجد دين مباشر في المرحلة الشعرية، كان الدين مجرد صور فنية، معاني علمانية للمعجزة واليقين والحب والشكر والصلاة والوحي والجنة، لا عقائد ولا شعائر ولا إلهيات، بل أخلاقيات وعمليات وإنسانيات، تذوق الجمال عبادة جديدة، والتسبيح لعيني الحبيب، يرفع الروح إلى السماء، وتهتف الروح، والدعاء للغريب، وهبل رمز الجهل في (هبل.. هبل) استدعاء للجاهلية، والبعث للوجدان والضمير والحياة كما هو الحال في رواية تولستوي (البعث)، بعث أمة لطرد المحتل. والحياة لها رسول في (رسول الحياة) والإلهام (وحي جديد)، ولقاء الحبيبين (وحي لقاء) و(وحي الخلود) للأقدار سخرية في (سخرية الأقدار) وليست موضوعاً للإيمان كما هو الحال في عقيدة القضاء والقدر. والمعجزة هي الفعل البطولي في (المعجزة أو السهم الأخير) و(الجبار عاجز) أمام دفعة الحياة و(الوادي المقدس) في الأرض وليس في السماء.

* إنما قسوة التاريخ وظلم الشاعر والناقد والمفكر هو رده إلى مرحلة واحدة بعد 1954 ونسيان ربع قرن من الإبداع الشعري والنقدي والفكري ورده إلى كتاب واحد (معالم على الطريق) الذي هو حرقة سجين مظلوم ومعذب وبريء، وقد نسيت جماعته أيضاً المراحل الثلاث الأولى، ولم تتذكر إلا المرحلة الرابعة، باستثناء المخلصين له الذين تعلموا على يديه، وعرفوه مفكراً وثائراً ووطنياً باسم الإسلام، ولولا دخوله السجن في 1954 وتعذيبه لما كفّر المجتمع في (معالم على الطريق) ولولا سفري إلى فرنسة وعودتي بعد عشر سنوات وعيشي في جو طبيعي لما كتبت (من العقيدة إلى الثورة) ولا (من النقل إلى الإبداع) ولا (من النص إلى الواقع) ولا (من الفناء إلى البقاء) ولا (من النقل إلى العقل) ولولا الصدمة الحضارية التي تلقاها من بعثته إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1950 لما كتب (خصائص التصور الإسلامي ومقوماته) رداً على (الإنسان ذلك المجهول) لألكس كاريل، وهو ما تطور بعد ذلك في (مقدمة في علم الاستغراب) ويتم استئناف (في ظلال القرآن) آخر ما وصل إليه علم التفسير من تطور في (الموقف من الواقع) أو نظرية التفسير، الجبهة الثالثة من مشروع (التراث والتجديد) جبهته الأولى موقفنا من التراث القديم، وجبهته الثانية (موقفنا من التراث العربي).

واليوم يرد – مركز الناقد الثقافي- الاعتبار لسيد قطب شاعراً عسى أن يُرد إليه نفس الاعتبار ناقداً ثم مفكراً ثم سياسياً وتنتهي أسطورة (معالم على الطريق)، فنفسية السجين استثناء في حياة الشاعر الرومانسي، والناقد الأدبي، والمفكر الحر(1).

(1) حسن حنفي: الدين والثورة في مصر 1952-1981، الحركات الإسلامية المعاصرة، القاهرة، مدبولي 1988، ص167- 300.

(2) - له في عام 1934- 41- قصيدة.

(3) ما أرى هذه المرحلة إلا نتيجة طبيعية للسقوط في وهدة المؤامرة، والانزلاق إلى مهاوي الفتنة، ومن ثم الاحتراق بألوان الحقد، من طرفي الأمة وجناحيها آنذاك، اللذين كان عليهما المعوَل لو تابعا مسيرهما معاً، كما بدأاها، التيار الإسلامي والتيار القومي المعتدل وما وصلت إليه أمتنا اليوم يؤكد أن المؤامرة يومذاك كانت كبيرة ومحكمة، نجتر عذاباتها ونتائجها المرة، والمأمول اليوم أن يدوم هذا التصالح وهذا الوعي، بل وهذا الانسجام بين التيارين في وجه العدو المشترك.. الذي لم يتغير. (الناشر).