ليلة النهر

ليلة النهر

رواية: علي أحمد باكثير

الأديب الكبير الأستاذ: علي أحمد باكثير

عبير الطنطاوي

علي أحمد باكثير .. هذا الأديب العربي العبقري .. الذي يسبح بك في بحار من الشاعرية والواقعية في آن واحد .. روايته (ليلة النهر) في نظري من أعظم ما قرأت من السير الذاتية .. فهو قد تحدث فيها عن موسيقار وشاعر مصري (فؤاد حلمي) عاش في بداية عصر الموسيقى الراقية وكان رائداً ومبدعاً وفناناً أصيلاً ملتزماً بأخلاق دينه وأخلاق الفن الراقي الأصيل ..

حيث تحدث عن سيرة ذلك الفنان القديم بأسلوبه الشيق ورومانسيته العذبة التي تصور الدنيا التي نعيشها دنيا أخرى مليئة بالزهور والحبور . حتى إنه لما يمثل لنا منظراً من المناظر العادية اليومية التي نراها كل يوم مثل إشراقة الصباح ؛ أو لسعة الليل البارد ؛ تجد نفسك في تصوير خيالي رائع رغم أنه منظر واقعي عادي.

وكم أخذ قلبي وهو يتحدث عن الفتى اليتيم النابغة (فؤاد) حتى وجدتني والدموع تترقرق في عيني وكأني أرى ذلك اليتيم وأشفق لحاله ؛ وكم وجدت نفسي في سعادة وأنا أقرأ عن تفوّق (فؤاد) في المدرسة وحنو خاله عليه وعلى أمه ؛ بينما يضيق صدري حين يتحدث عن محبوبته الجميلة (إحسان) وهي يتيمة مثله ولكن الزمن لم يمنّ عليها بخالٍ حنون كخال (فؤاد) فكان خالها قاسياً لئيماً يحب المال ويسعى إليه بما أوتي من قوة ، وما أجمل وصف باكثير لنهر النيل وهو يحمل على ظهره قارباً صغيراً عليه هذان الحبيبان الشابان اللذان جمعهما الحب العذري الطاهر الذي لم نعد في أيامنا هذه مع الأسف نقرأ عنه ؛ لأن الكاتب يتعمد في العادة إلى إدخال التلوث في قصص الحب وينفي الطهارة في حب أيامنا هذه ، فتقرأ وهو يصف نهر النيل والليل فيه أجمل وصف وأحلى إحساس يغمر القلبين البضين الصغيرين في (ليلة النهر) وهي كأنها نسج الخيال الحالم .. والأبيات التي نطق بها الشاعر وهو يعتقد أن روح شاعر (قد فارق الحياة منذ مئات السنين بسبب حرمانه من محبوبته) هي التي تلقنه هذه الأبيات وكيف صار يتردد على (خرابة الشاعر) وهو المكان المهجور الذي دفن الشاعر الميت فيه ليدندن بلحنٍ قد أعدّه فيسمع بعد مرتين أو ثلاث من دندنة اللحن قصيدة توافق اللحن .. فبثّ رعباً واستغراباً في نفسي أنا القارئة لهذا العبقري وحيرة من أمري حتى كشف لنا في آخر الرواية أن (فؤاد) كان يقول الشعر ولكنه يعتقد أن شاعره الميت هو من ينقله إياه .. لأن لكل شاعر عادة غريبة في الشعر وكان عادة فؤاد نطق الشعر في (الخرابة) أو (النيل) حتى وعى على نفسه أنه ينطق هو الشعر دون صديقه الشاعر صدفة .. حين فرق خال حبيبته (إحسان) بينهما وزوجها لابن باشا غني ولكنه غير مستقيم .. إنما تزوجها لأنها تشبه راقصة في حانة يتردد عليها وكان فؤاد قد رأى تلك الراقصة صدفة فاعتقد أنها حبيبته التي سافرت لسنوات خمس لكنه تأكد أنها ليست هي .. وفي تلك الفترة ظهرت حبيبته وقدعادت مع أسرتها من (الصعيد) فعاد فؤاد إلى حبها والتعلق بها حتى فرق الدهر بينهما .. فانغمس هو في عمله وأصبح من الأعلام المشهورين في مصر بينما أهمل صحته من شدة حزنه على حبيبته الضائعة فأصيب بمرض في رئتيه كان سبباً في حتفه ؛ أما (إحسان) فقد لاقت المرار مع زوجها ابن الباشا العربيد وولدت له ولداً كان سلوتها في دنياها الحزينة إلى جانب عمها والد زوجها (الباشا) الذي كان يعطف عليها وكأنها ابنته ويدافع عنها ضد خالها ؛ حتى في أحد الأيام قررت تلك الراقصة التي هام بها ابن الباشا الانتقام لفؤاد من ابن الباشا بعد أن علمت أن فؤاداً حرم من حبيبته من أجل عربيد كهذا تزوجها فقط لأنها تشبه عشيقته الراقصة فدارت بين الراقصة وابن الباشا مجادلة كان نهايتها أن ضربها بقنينة على رأسها قضت عليها وأدخل بعدها إلى السجن .. فأصبحت (إحسان) وحيدة وكانت ألحان وأغاني فؤاد تتسلل إليها من الراديو تارة ومن الجيران تارة أخرى حتى تعبت أعصابها وقادتها حالتها النفسية إلى الاقتراب من الجنون لولا وعد الباشا لها أنه سيطلقها من ابنه حال خروجه من السجن ويزوجها حبيبها فؤاد .. فاطمأنت نفسها خاصة أن عمها قد حجز لها وله في صالة الأوبرا ليحضرا أحدث أعمال فؤد حلمي وفجأة أتاهما من المذياع خبر شؤم حزين وهو أن الأوبرا توقفت عن عرض آخر أعمال فؤاد حلمي (وقدكان فؤاد يمثل في ذلك العمل ويغني) بسبب وفاة الشاعر والملحن العبقري بسبب مرض عضال أصاب رئتيه .. فما كان من إحسان إلا أصيبت بلوثة في عقلها قادتها إلى مستشفى الأمراض العقلية ..

فبقدرما أدهشنا الأديب باكثير رحمه الله بقدر ما أفرحنا بقدر ماأبكانا في هذه الرواية الرائعة (ليلة النهر) فياليت هذه الأجيال تعود إلى قراءة تلك الأعمال الراقية ولعل هذه الأجيال تتأثر برقي الفنان ورقي الحب البعيد عن الماديات والمصلحة الشخصية ..

رحم الله باكثير ومن كتب عنه (فؤاد حلمي) ورزق الله هذه الأمة أمثاله ..