أيها الأميري.. نم مطمئناً، فسيعود الغزال الشارد إلى الكعبة

أيها الأميري.. نم مطمئناً،

فسيعود الغزال الشارد إلى الكعبة

عمر بهاء الدين الأميري

هاني الطايع

كلُّما أُطفئت خليةُ جسمٍ                 من كياني ، زكت بروحي خلايا

وسأمضي بالروحِ أسمو وأرقى                 ثمَّ أرقى .. وأستحثُّ خُطايا

في دروب السَّنا، وتعرجُ روحي                 بي حتّى في النّور ألقى مُنايا

فأحطُّ الرحال ثم قريراً                 في مدى الخلدِ ، ينتهي بي مدايا

منذ أيام ، أطلَّ فجرٌ على حلب الشهباء يسألها : قد كنتُ أعهد ها هنا ، في قلب الظُّلمة نوراً وضياء .. وأراه اليوم غاب .. فهل غاب وجه " عُمر" ؟! أجل يا فجر ! غاب وجه عمر ، غاب ..!

كان ابن حلب ، يُحبها وتحبه .. ما قَلَتْه ولا جفته . وهو كذلك ما سلاها ولا عزّاه عنها هوى .. هي مسقط الرأس ، وموطن الأهل ، وملعب اللِدات ، ومسرح الإلهام : ألهمت قبله شاعره الأثير أبا فراس ، فكانت محطَّ أشواقه ، وناجت المتنبي فكانت مفجّرة مطامحه ، واتصلت الأسباب بينها وبين البحتري وأبي تمام ، وكان آخر الدُرر في سلكها النَّضيد عمر أبو ريشة .

غير أن الطيور حين يدهمها الصقيع ، تهاجر بين أرضٍ في فضاء الله ، إلى أرضٍ أخرى لا تضيق صدورها ، ولا تحتبس أنفاسها ، ترتقب الدفء وعودَ الربيع .. كذلك طَوّف شاعرنا طويلاً طويلاً في الزمان والمكان ، وحوله العصافير الحسان ، تواسيه وتشجعه ، وتُغني له :

بناتُ زيادٍ في القصور مصونة                 وآل رسولِ الله في الفلوات

طوّف طويلاً في الزمان والمكان ، حتى استقرّ به المطاف عند رباط الفتح ، فأقام يرقب الموقع الذي انتهت إليه حوافر جواد عقبة ، وينتظر أن تعود صحوة الأمة بهذا الجواد " جامح الخبب " ، لعله يرسل في أمواج المحيط نوراً إلى الشاطئ الآخر من بحر الظلمات ، يريح الزمان من حضارة السامري التي تنكرت للرحمن ، ولم تبعث الطمأنينة في الإنسان ..

على أن الانتظار قد طال .. فلا الشتاء دفئ ، ولا أماليد الربيع نبتت عليها براعم الحياة ، أو عادت إليها الأوراق الخضراء ... وهوى الطائر المُغترب .

لكن الله الرحيم الكريم ، حقق له في موته واحداً من آماله الغوالي ، فأبدله أرضاً خيراً من أرضه ، وثوى في البقيع الطاهر الحبيب ، حيث يرنو كل روح مؤمن ليجد فيه مستقرا .. كان عمر الأميري يوحي ، ويدعو ، ويرجو أن يكون مستقره في مدينة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، فحملته سحابة طهور ليودع الحياة في " الرياض " ، ويجاور الأبرار في ثرى طيبة .. أليس مثله في ذلك مثل سميّه سيده وسيدنا " عمر " أمير المؤمنين ، الذي سأل ربه : اللهم ارزقني الشهادة في سبيلك ، واجعل موتي في بلد رسولك . فعجب الناس من ذلك ، وقالوا أنّى يكون هذا ؟! وفيمن قاله حفصة رضي الله عنها ، لأن الشهادة ـ في ظنهم ـ تكون في الثغور البعيدة . فقال أمير المؤمنين : يأتيني به الله إذا شاء .

وكان له ما تمنى . فنال الشهادة ، وثوى في مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام .. وأنت يا عمر الأميري : نرجو أن تكون قد كُتبت لك شهادة الغربة لتجمعها مع الثواء ، في الأرض التي رغبت . ولتكون قريباً من عمر رضي الله عنه الذي كنت تعتزّ بحمل اسمه ، وتراه أسوة ومثلاً ..

كان فقيدنا العظيم وجهاً وعلماً في بلاده بلاد الشام تعرفه كل المروج ، وكل الينابيع ، وكل الأوراق الخضر ، وكان في الطبقة الأولى من رجالات البلد ، لكنه لم ينتم إلى أرضه الغالية انتماء العصبية ، لأنه يأنف أن يشرب من الجرار الصغار ، ويميل إلى الأفق الأوسع في المحيطات العذاب :

تقولُ

أمِنْ سورية ؟

قلتُ : بلْ

من المشرقين .. من المغربين

أنا مسلم

وبلادي

امتداد الأذانِ

المجلجل في الخافقين

وقومي

وأكرم بها عروة

فكل مُصلٍّ

بتكبيرتَيْن

وكان عربياً يُحب العرب والعروبة : يحب الأرض واللغة والقوم .. يحب عروبة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبي بكر وعمر ، ويكره أبا جهل وأبا لهب .. لم يكن يرى في الجاهلية الفترة الذهبية للأمة العربية كما يرى الحاقدون على الرسالة ، وعلى هدي السماء ، الغارقون في المستنقع الآسن الضيق . بل كان يرى في الإسلام مجد العرب ، وعز العرب ، عزاً منبثقاً من حمل الأمانة ، والنهوض بالمسؤولية ، لا عزَّ العنصر والاستعلاء :

قالوا العروبة قلنا : إنها رحم                 وموطن .. ومروءاتٌ .. ووجدان

أما العقيدة والهدي المنير لنا                 درب الحياة فإسلامٌ وقرآنُ

وشرعةٌ قد تآخت في سماحتها                 وعدلها الفذِّ أجناسٌ وألوانٌ

كان الأميري ابن الأمة الإسلامية كلها :

أنا في الرِّباط مرابط                 ورُؤاي تُغربُ في النّواحْ

أنا في الرّياضِ وفي دمشق                 وليس عن حلبي براحْ

أنا في امتدادات الأذانِ                 كأنّ في نسبي " رباحْ "

بين المشارق والمغارب                 خافقٌ خفْقَ الرِّياحْ

قلبي العليل هناك يكدح                 في الهضاب وفي البطاحْ

قد يرتمي جسمي ضنىً                 والعزم لا يرمي السِّلاحْ

ومن حبِّ الأمة أحبَّ بلادها كبيرها وصغيرها .. لذا أحبّ قطر العربية المسلمة ، وكان يهفو للقائها ، ويشتاق لرؤية بحرها الوادع ، وناسها الطيبين . وقد جاءها كثيراً مشاركاً في مسعىً إسلامي ، أو مؤتمر نافع ، كما جاءها أستاذاً زائراً في الجامعة الوليدة ، فانعقدت أسباب الودّ بينه وبين أهل قطر ، وبينه وبين شبابها المؤمن .

وهذا الحبيب المحب حمل في قلبه الكبير مع حُبِّ الأمة هَمّ الأمة ، وكلما ذكرت حرقته ولوعاته ذكرت قصة الإمام محمد رشيد رضا مع أمه ، فقد كان هذا المسلم الفذّ الغيور دوماً مهتماً بهمِّ المسلمين في أطراف الأرض .. رأته أمّه صباح يوم قلقاً مؤرقاً ، فقالت له :

ـ مالك يا بني حزيناً ! هل مات اليوم مسلم في الصين ..

آه يا أمّ الإمام لو تعلمين لواعج الصدور الكبار !!

كذلك كان الأميري يهتمّ بمسلمي الصين ، والهند ، وأندونيسيا ، وإفريقيا ، وكل أرض فيها مُجرَّحٌ مكلوم . وقد رأيت في أوراق قديمة رسائل جاءته من مسلمي الصين في أوائل الأربعينات ـ قبل أن تسقط الصين في قبضة الماركشية الجائرة ـ إلى دار الأرقم في حلب تستهديه النصح والرأي . كما رأيت رأيه السديد الرشيد ، ولما يفارق عنفوان الشباب .

وقد جعل الهم المؤرق شعره نبضاً بآلام الأمة وآلامها .

كان همُّ فلسطين يجري في شعره مجرى الدم في العروق . أليس هو القائل :

أرنو إلى الله ، والضرَّاء تحدقُ بي                 ونكبة المسجد الأقصى على حدَقي

دمُ الفؤاد ودمعُ العين بن لهبٍ                 ذَوْبٍ ، وزفرةُ صدري الجمرُ في الحرقِ

مسرى الرسول وأولى القبلتين بها                 واحرّ قلباه ، ماذا للفخارِ بقي ؟!

ما لي أرى الصخرةَ الشّمّاءَ في كمدٍ                 تذوي ، وعهدي بها مرفوعة العنقِ

ومنبرَ المسجد الأقصى يئنّ أسىً                 قد كان يحبو الدُّنى من طُهره الغدقِ

واستمر يهب فلسطين قلبه وجسمه وشعره .. جاهد بالسِّنان وباللسان ، حتى انبلج فجر الانتفاضة فخاطب فتاها خرّيج المسجد وربيب الإيمان :

صائحاً : اللهُ أكبرْ

ضاق بالقُممِ .. واستعلى عليهِ

فتكسّرْ

وانبرى من سجنهِ ،

مثل شهابٍ ..

وتحرّرْ

عقدَ العزْمُ أبيّا

ومضى لا يتعكّرْ

صائحاً : اللهُ أكبرْ

***

صائحاً : اللهُ أكبرْ

كفّهُ اليسرى تضمُّ الجرحَ

في الضّدر المعَفّرْ

واليد اليمنى بها القرآنُ

ملءَ الكون يزأرْ

وهو يشتدُّ ولا يرتدُّ

يمضي كالغضنفرْ

صائحاً : اللهُ أكبرْ

وهتفَ للجزائر أيام ثورتها على الاستعمار الفرنسي وأيام نصرها ـ والجزائر معوّدةٌ أن تنتصر للإسلام وبالإسلام ـ

يجلجلُ الحقُّ والأكوان آذانُ                 بأن آية هذا النصر إيمانُ

كان الجهادُ عريقاً في ضمائرهمْ                 كما تفاعلَ في الأعماق بركانُ

هذي بشائرُ (كتشاور) لقرطبة                 وفي غدِ العربِ والإسلامِ بُرهانُ

وكم وهب من شعره لشعب أفغانستان وجهاده العظيم :

عقد العزمَ واستعدَّ وأبرمْ                 جعلَ الله قصده ثم أقدمْ

مَعدِنٌ في صلابة الماس ، شعبٌ                 عبقريُّ الجهاد حرٌّ مطهّمْ

يا شعوبَ الإسلام عينُ يقيني                 تبصرُ الحقّ ظاهراً غير مُبهمْ

وترى في غدٍ ـ وقد يتناءى ـ                 موعدَ النّصر بالغيوب تلثّمْ

صدقت يا أبا البراء !ّ ها قد مُتَّ قرير عين بفتحِ (كابل) ، فانتقل إلى شهدائنا بُشرى الفتح ! خبِّر سيد الشهداء عبدالله عزّام ، وشهداء قطر الأبرار : الخُليفي والعُبيدلي ومن لا تحضرني أسماؤهم ولكن الله يعرف أسماءهم ووجوههم ، وعابد الشيخ الذي قفز إلى الجنان من قطر عبر أفغانستان .. وخبِّر كل أحبَّائِنا شهدائنا ، وقل لهم : إن أعلام الشِرك قد هوت ، وإن دماءكم الطاهرة كانت دليل رَكبنا ، ومقدمة نصرنا واشكُ إليهم أحِبّتنا رفاق الجهاد الذين شابوا نصْرنا بالغُصص ، كأنها لا تَسوغُ لنا المنى إلا محفوفة بألوان الضنى .

ويا فقيدنا الراحل العظيم ، بشّر كل الأحبة ، كل الشهداء ، كل الدُّعاةِ من سابقينا بأن الماركسية لم تهوِ راياتها في أفغانستان وحدها ، بل تداعت ذميمة مدحورة في أرضها الأمّ ، لم يبكها أحدٌ ، ولقد كان يمكن لشجارٍ محلّيّ في حيٍ صغير أن يترك ضحايا وجروحاً أكثر مما تركه موت الشيوعية ، لأنها عاشت خارج الضمائر تعادي الرحمن والإنسان . وستهوي مثلها كل عقيدة ، وكل حضارة عوراء ظالمة .

ويا أبا البراء خبّرني خبّرني ! ألم تحمل في الحدق الطاهرات ، وطيّ الجفون ، " ألوان طيف " لانتصاراتٍ مأمولةٍ أخر ؟! بلى أيها الحبيب ! لقد تعلّمنا من " فقهك الحضاري " أن النصر للإسلام في كل عاصمة جحودٍ عنود ، وأنّ تيهَ الإنسان سيطول بين الحضارات حتى يؤوي إلى ظلّ الكعبة فيستريح :

النّواميس في ركابك يا إسلام                 تمضي وتستحثُّ الزّمانا

سترى أعينُ العصور انبلاجاً                 من دياجيرنا لنور هدانا

موعدٌ مبرمٌ إذا مات عنه                 شيخنا القرمُ ، فيه ينمو فتانا

علمُ الكونِ فس غدٍ ، ونشيدُ                 الكون طرّاً ، وخطّنا وخُطانا

ونجاةُ الوجود في القدرِ المرصود                 أمرٌ يحكّمُ القرآنا

لقد خسرنا بوفاة الأستاذ الأميري تجربة ثرّةً أيْسر كنوزها الشعر ، فالفكر أرقى من الشعر ، والدعوة أعلى مرتبة من مجرد الفكر ، والجهاد أعلى من الدعوة لأنه ذروة سنام الإسلام :

يا عابد الحرمين لو أبصرْتَنا                 لعلمتَ أنك بالعبادةِ تلعبُ

وقد كان في ذلك كله رحمة الله عليه .

كان علم الأعلام ، وكان العلم بين الأعلام ، وكان صَحبهُ الأبرار القمم الشوامخ في الدعوة والجهاد والعلم (شكيب أرسلان) ، و(محب الدين الخطيب) وهما (رادار) المسلمين في هذا العصر ، والبنّاء العظيم ، و(السباعي) ، و(الإبراهيمي) ، و(القاضي الزبيري) ، و(أمين الحسيني) ، و(الشيخ دراز) ، وإخوانهم .. وأنّى لواحد أن يحيط بصحبة هؤلاء جميعاً ؟!

أما الشعر ..

فإذا ذكر الشعر الإسلامي المعاصر فإن الأميري أمير الركب .. كنا قبله نعلم أن لهذا الشاعر بعض الشعر الإسلامي ، وأن لذاك أنفاساً صوفية ، وأن لثالث أشواقاً روحية ، ولم نكن نعلم أن شاعراً وهب الشعر الإسلامي هذا العطاء الوفر والتنوع الثري ، والانتماء والالتزام .

وإذا كان للمسلمين الأتراك جلال الدين الرومي ، وإذا كان للفرس الشّيرازي والعطّار ، وإذا كان للباكستانيين والهنود إقبال ؛ فسنقول ـ نحن العرب ـ إن لنا عمر الأميريّ .. ألم يقل فيه أستاذنا الذواقة الدكتور شكري فيصل كلمته العبقرية :

".. من يدري ، حين تكون العربية لغة أهل الجنة ، أن يكون هذا الديوان ـ مع الله ـ بعض الذي يختار أهل هذه الفانية ، يحملونه معهم إلى الدار الباقية ، علامة من علامات الطريق التي اهتدوا بها إلى الآخرة ..." ...

ألم يقل فيه الأستاذ العملاق العقّاد :

إنه آيات من الترتيل والصلاة ، وإنه دعاء يتكرر ويتجدد ولا يتغير ...

كان في شعر الأستاذ الأميري أقباسٌ من شعر حسان ، في الدفاع عن الدعوة ، وقراع خصومها ، ورفع ألويتها ، حتى ليمكن أن يُعدّ وزير إعلامها ، ومغنٍّ ألحانها وقيثارها ومن أبي فراس أقباسٌ في الحنين إلى أب وأم ، ووطنٍ وولد ... ومن ابن الفارض أقباسٌ في الشوق إلى الله ، وبوح الروح ، لكنه هنا شعر مبرأٌ مسدّد ... وفيه من غير هؤلاء وبخاصة إقبالٌ والمتنبي ... على أن شعر الأميري شيءٌ غير ذلك كلّه يصبغه بأصباغه ، ويلونه بألوان مهجته ..

سيظل سمع الزمان يرنو في شعر الدعوة ، وتصوير ملامح الشخصية المسلمة إلى قصيدته الخالدة :

فجِّر اللهم في عزمي                 من نورك نورا

واصطنعني لغد الإنسان                 في الآفاق صورا

تثب الدعوة منْ                 شدقيه بعثاً ونشورا

كانطلاق الفجر بعد                 الليل إشراقاً طهورا

أنا يا الله من روحك                 روحٌ لن يحورا

أنا نسرٌ في السماوات                 العلى أمّ النّسورا

أنا معنىً في كتاب                 الكون قد زان السطورا

أنا للقرآن فانشر                 صحفي أهدِ العصورا

أنا جنديُّك فابعثني                 لأقتاد الدهورا

وأقم حولي من                 سرِّ مقاديرك سورا

إن دولاب الهدى في                 الكون دوني لن يدورا

ها هنا أثر إقبالٍ وحسان .. وها هنا قبل ذلك وبعد ذلك قامة الأميري السامقة الشامخة .

أما أشواق الإنسان ، تلك التي تكفل استمرار الحياة والنوع ، وتقيم الحضارات .. أما عرام الحب الذي يغلي كالمرجل ، وتمسكه ضوابط العفة والتقى ، فلن نسمع فيه أرقى من مثل قوله :

كيف أنجو يا خالقي من شباب                 عارمٍ عاصف التوثبِ ضاري

مُستبد بكل ذرات جسمي                 مستفز كوامن الأوطار

كلما رمتُ كبتهُ ثارَ جهلاً                 وتخطى عقلي وأعيا وقاري

آه يا ويح همتي وجِلادي                 إن نبا بي عن الفلاح اقتداري

أنت سوّيتني وألهمت نفسي                 خُطَّتيها من التقى والفَجارِ

فتخيّر لمن خلقت سبيلاً                 ترتضيها ، فإن ذاك اختياري

وأنا مقسمٌ عليك بأسمائك                 من راحمٍ ومن جبّار

لا تفرّط بمن دعتك خلاياه                 دِراكاً في ليله والنهارِ

سَفر الفجر فاستبان خطاه                 فرآها اهتدتْ بلا إبصارِ

أما الشعر الروحي ، والمناجاة الإلهية فثمّ الكنوز والمناجم ، وستلجأ إليه الإنسانية المؤمنة الراشدة ، في ساعات صفائها ، وسيردد فم الكون والزمانِ والإنسانِ متجهاً إلى الله :

هاك نفسي وكلّ أهواءِ نفسي                 وجوى غُلّتي ، وتبريحَ بؤسي

واصطراعَ الطّموح ملء جَناني                 واضطرابي ما بين عزمٍ ويأسِ

هاك ذاتي ، وأنت بارئ ذاتي                 وصفاتي ، وأنت مرْهِفُ حسِّي

هاك شجوي وحيرتي وحنيني                 وأنين الهمومِ في قلب أنسي

قلبُ أنسي ! وأين أنسي هذا ؟!                 إنه الوهمُ في غمارِ التأسّي

في كِياني ـ يا ربّ ـ روحي يشكو                 قلق السّعي بين مهدي ورَمسي

أَسبغ الرحمة الرّؤوم عليه                 وارعَ عزمي ، ولا تكلني لنفسي

أنت صيّرتني لِقوسك سَهماً                 كيف أرمي إن لم أشدّ بقوسي

أنت قدّرت الأمانة لي عبئاً                 فأعنّي وامدد ببأسك بأسي

واصطنع للوجود قلبي شمساً                 لأنيرالوجودَ ما دمتَ شمسي

أيها السادة :

من كلام فقيدنا : " روح العبقري جوهرٌ سماوي ، يشع النور ، ماضياً لا يحور ، ويُفيض الطيوب ولا يذوب ، وما تفاوت قدْر العباقرة المبدعين إلا بتفاوت مقدرتهم على الإشعاع المتنامي ، الذي يلبث مالكاً قدرة الإشعاع باستمرار .. تنطوي الأيام ، وتمرّ العصور وآثار هؤلاء الأفذاذ تتداولها الأجيال تلو الأجيال ، تطّلع عليها ، وتأخذ منها حتى إذا ظفرت بها ذات يوم قلوب مستجيبة ومشاعر بالغة الإرهاف ، وجدتها غصة غريضة نابضة بالحياة ، كأنها وحي الحاضر العتيد ..".

ألا ترون أن الأميري كان يصف نفسه في هؤلاء ، وأن شعره الإسلامي العظيم سيبقى قادراً على الإشعاع باستمرار ، وأن الشعر الإسلامي كله وقف حزيناً يوم وفاته ، ورفع عن رأسه علم الجدارة والإمارة ، ولفّه به ذاهباً في الخالدين ..أما نحن يا أبا البراء فإننا نودّعك ، ونحن كما عهدت ، على الأمانة والعهد باقون : إسلاماً وسطاً غير ذي عوج ، لا يعرف غلوّ الغالين ، ولا جحود الجاحدين في قلوبنا حبك ، وحب الهداة والبناة ، وعلى ألسنتنا شعرك ، نشيد طريقنا ، وغناء حادينا .. نرجو من أجلك ربنا وندعوه إن كان يقبل رجاء الضعفاء : يا رب قد جاءك عبدٌ مؤمنٌ كان يناديك دوماً بأنه ذرة صغيرة ، وبأنه قُطيرة ، وبأنه عبيد ... وكان يحب نبيك صلى الله عليه وسلم :

عبدُك ـ يا ربّاهُ ـ تَحْنانُه                 ووَجْدُهُ الأكملُ والأمثلُ

إلى رحاب المُصطفى طيفُها                 كأنه في قلبه مِشعلُ

فاجعل له في خُلدها منزلاً                 فقد جفاهُ في الدُّنا المنزلُ

فندعوك يا ربنا بأن تقبله في الصالحين ، لأنّا تعلمّنا منه أشياء كثيرة في طريق الدعوة إليك :

حلّقْتُ ملءَ سكينتي                 وتركتُ للقدرِ العنانْ

وسمَوت أدعو مُطمئنَّ                 الروح مرتاح الجَنانْ

أدعو دعاء مُجَنَّحٍ                 فوق السماء له يدانْ

والقلبُ وهو أبو القلوب                 وكلُّ ما في الكون فان

أودعْته رَبّاً براه                 ورُحتُ أغفو في أمانْ

نمْ في أمان الله أيها الأميري ... وكن مطمئناً ، فسيعود الغزال الشاردُ إلى الكعبة .

رحمة الله عليك .