المصطلح واللامعقول

المصطلح واللامعقول

يوسف يوسف

مصطلح " القرية الكونية ".. هذا الوافد الجديد الذي بزغ نجمه في تسعينيات القرن الماضي ، من أين جاء ؟ سؤال فيه قدر كبير من الجدية والمشروعية على حد سواء . بل إن الأمر لا يستقيم بدون هكذا سؤال . وعندما جمع إميل حبيبي الروائي الفلسطيني النقيضين في مصطلح "المتشائل " ، قامت دنيا الأدب ، ولم يقعد الأدباء فترة طويلة هي التي سبقت مرحلة استقرار المصطلح ، وظلوا آنذاك ردحا من الزمن يبحثون عن المعقولية في جمع النقيضين : سعيد وأبي النحس ، حتى أصبح الاثنان واحدا في المنحوت الدلالي داخل بنية أدبية وصياغة نصية ، أقل ما يقال عنها أنها ثورة على فقه اللغة وعلم الاجتماع معا . وشبيه هذا ما حدث أمام مصطلح "الأعدقاء " الذي نحته الدكتور محمد الرميحي من جينات متضادة لا يجمعها رابط . فأولئك الذين لم يقعدوا أمام حالة إميل حبيبي الاستثنائية ، ظلوا واقفين كذلك أمام الحالة الجديدة ، التي يراد منها هي الأخرى ، إلقاء حجر كبير في بحر اللغة ، ليصيب رذاذها واقعنا الاجتماعي الذي نؤلهه ونقدسه ونحفز الفيالق للدفاع عنه . وإذا كنا قد انقسمنا بين رافض "للانشقاق" بلغة البعض ومؤيد "للاشتقاق" بلغة البعض الآخر ، فما بالنا اليوم لا نناقش أمر مصطلح " القرية الكونية " ، أم إنه التماهي في الآخر ، وقبول ما يصدره إلينا ، بدون إخضاعه لشرطنا الخاص الذي تنحصر فاعليته في حدود منجزاتنا التي نعاملها بمنطق الريبة والشك ؟

 مصطلح " القرية الكونية " ومرادفه " العالم القرية " أحد إفرازات خطاب العولمة الثقافية . وفيها جمع للنقائض مع بعضها كذلك ، وإن كان الجمع هنا فيه من الرغبة في مراءاة المتلقي أكثر مما فيه من شفافية الدلالة وصدقها . وهنا نسأل حول طبيعة هذه المراءاة ثم نقول : لماذا اختار هذا الخطاب القرية ولم يقع اختياره على المدينة لتكون هي المقصودة بالكونية المكانية ، أم أنه ثمة إغراءات في الاولى تفتقد الثانية إليها وتسهل عملية الجذب ؟ وإذا كان الأمر كذلك ، فما هي طبيعة هذه الاغراءات التي فرضت

عليه التظاهر بالتبشير بالقرية الكونية وليس بالمدينة الكونية ، التي هي أقرب من الاولى للأخذ بمفاهيم العولمة ؟ أخيرا كيف تجتمع النقائض في المصطلح ؟

 إن العولمة وكما هو معروف اشتقت من الكلمة الانجليزية globalisation . وهذه تعني جعل العالم عالما واحدا موجها توجيها واحدا في إطار حضارة واحدة . ولذلك قد تسمى ( الكونية ) أو ( الكوكبة ) . وهي بحسب تعبير صاحبي كتاب ( فخ العولمة ) هانس مارتين وهارلد شومان تعني إيصال البشرية إلى نمط واحد في التعبيروالملبس والمأكل والعادات والتقاليد . وعند الدكتور سيار الجميل فإنها عملية اختراق كبرى للانسان وتفكيره ، وللذهنيات وتراكيبها ، وللمجتمعات وأنساقها ، وللدول وكياناتها، وللجغرافيا ومجالاتها ، وللاقتصاديات وحركاتها ، وللثقافات وهوياتها ، وللاعلاميات ومدياتها .

 لقد تحدث روجيه غارودي في كتابه ( العولمة المزعومة ) عما أسماه افتراس المستضعفين بذريعة التبادل الحر وحرية السوق . ومثل هذا القول ، وغيره مما سبق ، يدعونا للبحث عن مقاربة إلى فكرة الافتراس . وسنبدأ بالسؤال مباشرة : هل يعتبر خطاب العولمة الثقافي فكرة القرية – المكان بكل دلالاته وإحالاته الاجتماعية والنفسية ، بمثابة المصيدة التي يستدرج إليها طرائده من البشر ، لاصطيادهم أو افتراسهم بتعبير آخر ؟ فإذا صح هذا، ما الذي في القرية من مفاتن جاذبة لا تمكن مقاومتها ، أو ماذا فيها مما يمهد الطريق أمام الخطاب أعلاه للوصول إلى البشر ، بحيث يمكن القول أنها تمنح العولمة القناع الذي يمكن أن تتخفى وراءه لإخفاء عيوبها عن الطرائد التي تريد افتراسها ؟

 تعبّر القرية عن حيز مكاني ضيق ، وعن تجانس اجتماعي إلى أبعد الحدود . لكن هذا الحيز في خطاب العولمة يمتد بحيث يصبح مكانا شاسعا في الشرط المتمثل بالكونية . أي أن القرية في حالة كونيتها المفترضة ، تكون قد تخلت عن صفة التجانس الاجتماعي ، لصالح فكرة التعدد التي

ستحتضن الثقافات الوافدة ، التي ستكون الغلبة فيها لصالح الثقافة الأمريكية على وجه التحديد . وهنا تطل علينا حالة جمع الأضداد ، فالقرية التي تمتاز بالتجانس كما أشرنا ، تصبح مكانا تلتقي فيه ثقافات ومنظومات لا يجمعها سوى ناظم سيطرة الأقوى على الأضعف ، وهذا مما يتنافى مع مفهوم القرية وإحالاتها الدلالية .

 وحتى المصطلح المرادف " العالم القرية " ، فإنه يشير إلى حيز مكاني واسع وممتد ، يضيق ويتقلص إلى أدنى صوره ومعانيه : العالم – القرية . وفي كلا المصطلحين : القرية – الكون ، والعالم – القرية ، ثمة طرفان للمعادلة ، يجمعهما التضاد : الضيق والاتساع ، التجانس والتعدد ، كما تجمعهما الحياة نفسها ، بصرف النظر إن كانت الثقافة الواحدة بؤرتهما ، أم تعدد الثقافات ، ما دامت الفكرة من أساسها تقوم على مبدأ التحول : القرية في تحولها إلى الكون ، أو العالم في تحوله إلى قرية صغيرة , وهنا يقع الرياء في المصطلح الذي يمارسه خطاب العولمة الثقافي ، ذلك لأنه ليس في حالة جهل بمعاني المصطلح ودلالاته ، وهو يعرف الاحالات التي تنطوي عليها مفردة القرية ، وكذلك مفردة الكون ، لكن المهارة في تبليغ الرسالة المعولمة سياسيا وفكريا تقتضي أسلوبا في الترويج للبضاعة ، لا يختلف عن أسلوب أصحاب السوق ممن يصدّرون أكياس الحليب المجفف ، بعد أن يكونوا قد رسموا فوقها بقرة في مرعى أخضر .

 هنا يجدر التنبيه إلى أن الانسان هو الذي يعمر كلا من القرية والكون ، وبالتالي فإنه وحده القادر على تحديد المعنى الدلالي لكل منهما . ولسوف يعتمد الواحد منا على مرجعية خاصة به ، قد تلتقي مع مرجعيات الآخرين أو تختلف عنها ، لكن إذا كانت القرية مما يبعث الاطمئنان في النفوس ، فإن الكون – الامتداد – الأفق اللامتناهي لا يبعث مثله . وهكذا فإن القرية تصبح الحاضنة التي يأوي إليها الكثيرون ، هربا من القلق والحيرة والضياع في المدن الكبيرة . وعلى سبيل المقاربة فإن القرية لضيق مساحتها يمكن

 

 

 

 ضبطها وتقنين حركة الناس فيها . أما في المدينة فإنه ليس من السهل إجراء عملية الضبط نفسها . وهنا نقبض على هدف الخطاب الثقافي للعولمة ، الذي

يحاول تكريس النمط الحضاري الواحد ، والثقافة الواحدة ، وليس تعدد الثقافات والأنماط الحضارية كما يزعم ، إذ لو كان الأمر كذلك ، فإن المدينة وهي الصيغة الأكثر تطورا للمجاميع البشرية ، تصبح هي الأقرب إلى مفهوم العولمة الأساسي ، الذي يعول على العلم والآلة والجهاز والكهرباء والاتصال وما إلى ذلك من مفردات مدينية لا نجد ما يماثلها في القرى عموما في مختلف أصقاع العالم .

 ونعود إلى السؤال آنفا : لماذا القرية دخلت في شعارات العولمة ولم تدخل المدينة ؟

 يستمد الجواب القطعي على هذا التساؤل أبعاده من طبيعة النظرة البشرية إلى العولمة ذاتها . فهذه النظرة تبدو متشككة ، قلقة ، وتتعامل بحذر شديد مع ظاهرة متشظية في كل الاتجاهات . ظاهرة فيها ما يهدد الذات – الفرد – المجتمع ، وما ينذر بتدمير هويتها التي كونتها عبر الحقب الطويلة . ولكي تفرض حضارة ما أبعادها وقيمها على مجتمع آخر سوى المجتمع الذي نمت وتطورت فيه ، عليها استعمار عقل هذا الجتمع أولا ، إذ بدون استعمار العقل ، فإن الأمور اللاحقة ستبدو صعبة المنال .

 هل نقول أن خطاب العولمة الثقافي باختياره مصطلح " القرية الكونية " أو " العالم القرية " يحاول طمأنة العقول المتشككة القلقة ، وأنه يحاول افتراسها من بوابة القرية التي لها مفهومها ودلالاتها في هذا العقل ، الذي ينتمي إلى بلدان العالم الثالث ، التي تمت صياغة المصطلح بهذه الصيغة من أجلها هي ، وليس من أجل العقل الغربي كما قد يتبادر للأذهان ؟

 يقول حاتم بن عثمان في كتابه " العولمة والثقافة " : للقرية مكانة في حضارات شعوب آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية ، ولدى الجميع في هذه الأجزاء من العالم ، معرفة جيدة بطبيعة القرية وثقافة القرية ، فهي فضاء لا تتعدد فيه الثقافات ، ولا معنى للفردية والأنانية فيها ، بل هي رمز الوحدة الثقافية الدنيا التي يتجلى فيها الانتماء والخصوصية والألفة والانسجام في أجلى مظاهره .

 

 

 

 وإذا أدركنا أن الوجدان الجماعي الغربي المعاصر لم تعد القرى ومفاهيمها تشغله ، للدرجة التي تجعله يفكر بها كمكان للخلاص ، أمكننا القول بأننا أمام حالة من المراءاة واضحة تماما . وعلى الرغم من التناقض الواضح بين مفهومي القرية والكون ، أو بين العالم والقرية، إلا أن عقل العولمة الذي يسعى إلى استعمار عقول أبناء العالم الثالث ، وجد المدخل لذلك من البوابة التي نحس بالاطمئنان عند ولوجنا منها ، وهي بوابة القرية بشكلها الظاهري الذي يغازل مشاعرنا تجاهها ، كمكان آمن أليف يبعث الاطمئنان في نفوسنا .

 هكذا يتحول التناقض إلى صياغة جديدة للمعنى . فالقرية الكونية ليست هي قريتنا ، وإنما هي قرية العولمة التي تجمع فيها الأضداد بطريقة تعسفية، تنذر بموت المصطلح بدلالة الالتباس الكبير فيه وحوله . هكذا فإن اختيار القرية لم يأت اعتباطا ، ولعل القائمين على شؤون العولمة ، والساعين إليها، يدركون ما تتحدث به عقولنا ، لذا وخشية الفشل ، فإنهم في المصطلح الجديد يقولون لنا : إذا كان همكم القبض على هوياتكم وعدم التنازل عنها ، والبقاء في قراكم وعدم مغادرتها ، فإن الكون الواسع الفسيح مجرد قرية صغيرة ، وها نحن نقدمه إليكم ، كما تشاؤون : قرية تعيشون فيها ، لكن كما نتصورها نحن ، وليس كما هي في وجدانكم ، فابقوا في قراكم ولا ترحلوا إلى المدن ، أي لا تجيئوا إلينا ، فنحن قادمون إليكم لأنكم أصل الكون .

 إنه نقيض السائد في منطق الحياة وفي ولادة المصطلحات وظهورها . فإذا كان السائد في منطق الحياة الانتقال من البدائية إلى المدينية ( بمعنى التمدن) فإن خطاب العولمة الثقافي يخالف هذا المنطق . وإذا كانت ولادة المصطلحات تعني التطابق بين الدال والمدلول ، فإن هذا الخطاب يحطم القاعدة ، نزولا عند رغبة سيف الأيديولوجيا ، الذي يهدد رقبته ، وللقرية مفهوم ، ولها دلالات لا يعرفها غير الذين يعيشون فيها ، فهل يكون خطاب العولمة قد حكم على نفسه بعدمية الفعل الذي يقوم به ، أم أنه سيستبدل المصطلح بمصطلح آخر سواه ، لا يتخفى وراء القناع.