لماذا هذا الديوان؟ "ورود من زناتة"

لماذا هذا الديوان؟

"ورود من زناتة"

نبيلة الخطيب

[email protected]

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

 لقد قرأت ديوان"ورود من زناتة" للشاعرة المغربية أمينة المريني غير مرة، فوجدته يستحق أن يوقف عليه ويعتنى به، وذلك لعدة أمور منها:أنه ينبعث وينطلق من العقيدة الإسلامية الواضحة والصافية والصادقة بالنظر في الكون والإنسان والحياة من خلال التصور الإسلامي. وكما أنه يهتم بقضايا الأمة الإسلامية العامة والخاصة، السياسية والاجتماعية والأخلاقية والنفسية، فقد استطاعت الشاعرة بذلك أن تقدم صورة مقاربة للوجدان المسلم المعاصر.

 إن المضامين التي وقفت عليها الشاعرة متنوعة وشاملة، ويحسب لها أنها وازنت بين الشكل والمضمون دون أن تغلب أحدهما على الآخر. فقد حفلت قصائدها بالصور الفنية والخيال والكلمة المعبرة، دون تكلف أو إقحام، فقد كانت الصورة المحسة المتخيلة وسيلة للتعبير عن المعنى الذهني والحالة النفسية. هذا بالإضافة إلى أن لغة الشاعرة وعباراتها رصينة مسبوكة وقوية.

 لقد ظهر التفاعل بين ذات الشاعرة وبين المؤثرات الواقعية كالبيئة التاريخية والمكانية والمجتمع البشري، وما القصيدة إلا ثمرة ذلك التفاعل، فآتت أكلها....

لقد مثل الديوان درساً حضارياً في أخلاق الشاعرة والتزامها بالقيمة التراثية الأصيلة وفاءً لدينها واستجابةً لتراث قومها، هذا شأن الشاعرات الحرائر الملتزمات بالقيم العربية والسجايا الإسلامية. وفي نطاق شموخها وإبائها فإن الشاعرة تفخر بقومها وتذكر أمجادهم التي ترفع من شأنهم. وهي ذات وفاء وحب لموطنها الصغير الذي على أرضه نشأت ودرجت وبين مروجه شبت ودبت.

 لقد أثبتت الشاعرة أنها موهوبة بالفطرة وليست مقتحمة على الشعر ،ومن ثم فهي صاحبة نفحة جديدة ونغمة رشيدة في سماء الشعر النسوي في زماننا ومجتمعنا الذي قلت فيه الشاعرات الحقيقيات.

 وفي ظل الدعوات التي راجت والتسميات المختلفة، وقد ضعفت اللغة بين الناس وغابت في كثير من الأحيان قوة العبارة، وجمال الأسلوب، وغابت بلاغة الشعراء والأقدمين ورونق البيان والتبيين، وجدت هذا الديوان خير معبر عن الشعر بكل صفاته المطلوبة يملأ فراغاً من الذوق الأصيل والاهتمام للحفاظ على لغة القرآن ومعاني الإيمان.

 إذا كان الأدب يعد معلماً من معالم حضارات الأمم ورقيّها فإن الأديب الذي يجلو هذا الأدب في صورة رائقة مصوّراً تجارب أمته وآفاق نهضتها ومناحي رفعتها له منزلته السامقة في وضع لبنات صرح أمته وتشييد أمجادها ليكون مرآة لمراحل انبعاثها وتطور فكرها وحياتها. وإذا كانت سائر الأمم قد جعلت من الأدب قوة عظيمة مع سائر القوى وسلاحاً مع سائر الأسلحة، فأمة الإسلام أحق بذلك وأجدر، فأدبها ينبع من عقيدة ويصدر عن إيمان، حتى يصبح قوة تدافع وتنافح وتدعو وتكافح. ولكم دوّى الشعر- شعر العقيدة والإيمان- بين يدي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في الميادين وساحات القتال، حتى جعل الرسول لحسان بن ثابت في مسجده منبراً يقوم عليه، ويقول لعمر في عمرة القضاء حيث أنشد ابن رواحة شعراً:" خلّ عنه يا عمر فلهي أسرع فيهم من النبل" .

 إن الشعر المسلم يلمس جوانب الحياة لمسة طهر ونظافة ويطرق أبوابها طرق القوة والثبات ويجول في شتى نواحيها جولات الحق واليقين، ويرى أرضه وداره منبت خير وحمى عقيدة وميدان جهاد وتاريخ أمة، ويرى في المرأة طهر جمالها وجمال طهرها، ويرى كرامة عونها وأنس عشرتها وأمن سكنها.

 بذلك استطاعت الشاعرة أن تحقق مطالب الأدب الإسلامي جميعا: القيم والأدوات والتقنيات الفنية من جهة، والتصورات والمنظومات القيمية الإيمانية من جهة أخرى. إن تحقق قيم الفن والتصور هو أمر ليس بالسهل الوصول إليه، ولا يتحقق إلا لمن ملك أدواته كلها، وهذا ما سماه الدكتور عماد الدين خليل "النسبة الذهنية".

 الشعر الجميل هو ذلك الذي لا ننساه بعد قراءته بأسبوع واحد، وللحق فإن هذه المجموعة الديوان شدّتني حتى آخر قصيدة، بينما كثير من الشعر ذلك الذي نلقي به جانباً بعد مجاهدة النفس لإكمال الملزمة الأولى.

 الشاعرة أمينة المريني التي اختارت لنفسها لقب " فتاة المحيط" نسبة إلى المحيط الأطلسي الذي يخط العالم الإسلامي والعربي غرباً، هذا المحيط الذي تنبسط مراكش على ساحله من الشمال إلى الجنوب تغسل أمواجه الهادرة أخمصيها، كما قال الشاعر العراقي " الجواهري" في يافا فلسطين التي يخطط حدودها الغربية أيضاً البحر الأبيض المتوسط:

وموج البحر يغسل أخمصيها وبالأنواء تغتسل القباب

ولا ننسى أن المتوسط كما ينتهي شرقاً بفلسطين فإنه ينتهي غرباً برأس مراكش المغرب العربي، فالرباط الذي بين( فلسطين مراكش) كما أنه عضويّ مادي فإنه روحيّ مهيب مهابة وقفة القائد المسلم عقبة بن نافع على ساحل المحيط مقتحماً "جبروته" -على حدّ وصف الشاعرة- بقوله: ( لو أعلم أنّ وراءك أرضاً لخضتك)، هذا المحيط لم يغب عن ديوان الشاعرة الذي نقف عليه اليوم وقفات متواضعة:

ويعرف الأطلس الجبار غضبتنا عند النفار إذا ما شدّت الهمم (ص28)

صرح ثوى فوق المحيط كأنه عرش تألق فوق صفحة ماء (93)

سبحان من جعل الفنون رواسيا فوق المحيط بضفة البيضاء (94)

العنوان والدلالة

 عنوان الديوان ( ورود من زناتة)، فقد اختارت الشاعرة أمينة المريني عنوان ديوانها، وهو عنوان مقطوعة شعرية جميلة وقصيرة أثبتتها في الديوان، مع أن هذه المقطوعة مثبتة في ديوان لها آخر بعنوان ( براء من التطبيع) تقول فيها:

" أنا ورد أطلسي

وجذوري ... أزلية

 ... وشذائي

سال نهراً من دماء

 بربرية

غير أنّ اللون- آه – عربي

 وحروفي

 وقيودي

 ولحوني عربية

ويح نفسي

 من قيودي

 العبرية" ص53

وعنوان المقطوعة الكامل هو ( ورود من زناتة .. البربرية) وهذا العنوان يحمل دلالات نفسية داخلية معمقة، فرغم ما في الديوان من مواضيع مختلفة ومتنوعة- سنأتي عليها بعون الله- فيها الألم والبكاء والصراخ والعنف والثورة والرفض، فإن العنوان يعطي انطباعاً آخر عن محتويات الديوان يعبّر عن المكنون النفسي الداخلي للمرأة بشكل خاص والمسلمين بشكل عام، لما تحمله طاقة الورد من رمزية لطيفة وجمال نفسي تكويني ومكتسب، ودلالة واضحة على حب الخير والجمال، وإشاعة الحب والسعادة. فالعنوان يحمل دلالة نفسية صادقة ومعبرة أكثر منها دلالة موضوعية صاخبة ثائرة، هذه هي الطبيعة الأنثوية في داخل المرأة المسلمة، التي تنظر إلى الأزاهير والورود فترى الخلق وهو يتجدد حتى يخبت ويؤوب ويسبّح ويتوب.

الشكل والمضمون

يأتلف هذا الديوان من سبع وأربعين قصيدة، كلها عمودي إلا خمس قصائد "تفعيلة"، وهذا يحكم أنّ الشاعرة تنحاز للشكل الخليلي الذي يتميز في الغالب بالرنّة الموسيقية العالية التي تلائم ذلك الحس الحماسي الداخلي والخارجي الذي أشاعته الشاعرة، وفي الوقت عينه لا تتجاهل البناء الشعري الحديث الذي شاع مؤخراً، ولكن تبقى التفعيلة هي الوتر الذي يعزف عليه الشاعر العربي الأصيل.

 ولعل الشاعرة أرادت أن توازن في المعمار الشعري ما بين عمودي و"حر" مع التوازنات الأخرى بين الذات والموضوع أو الخاص والعام وبحور الشعر، مما يمنح الديوان تنويعاً مقصوداً في الشكل والمضمون لتزيده قيمة فنية مطلوبة.

 وقبل أن أدخل في المضمون فإني أحب أن أقف على البحور الشعرية التي اختارتها الشاعرة لقصائد ديوانها، وسأحاول الربط بين البحر وما يحمل من موسيقى ومضمون، فقد نظمت الشاعرة قصائدها في هذا الديوان على خمسة أبحر فقط:

البسيط: خمس عشرة قصيدة

الكامل: إحدى عشرة قصيدة

المتقارب: ثماني قصائد

الرمل ومجزوؤه: سبع قصائد

الطويل: قصيدتان

وقد لاحظت أن القصائد الروحية وهي تسع عمودية نظمت على أربع أبحر:

البسيط: خمس قصائد

الكامل: قصيدتان

المتقارب: قصيدة واحدة

الرمل: قصيدة واحدة

ولعل الشاعرة باستبعاد قصيدة التفعيلة هنا أرادت المحافظة على الطابع الروحي بما يحمل من أصالة حتى في الشكل.

 أما القصائد ذات الطابع القومي الإسلامي وهي عشر قصائد، فإن فيها قصيدتي تفعيلة، وبذلك تكون القصائد العمودية ثمان، وبحورها كالتالي:

الكامل، البسيط، المتقارب والرمل، لكل بحر قصيدتان بالتساوي.

 وقد لاحظت أن قصائد القضايا الإسلامية احتوت قصيدتي تفعيلة بخلاف الروحية، وكأن الشاعرة تريد أن تؤكد أنها في القضايا الإسلامية المعاصرة لا تغفل ما استجدّ من شكل شعري جديد معاصر، وكأنها أيضاً تود أن توجه خطابها الشعري إلى العقل المعاصر بشيء مما استجدّ من مفاهيم وأشكال معاصرة وحديثة، فهي تعيش عصرها شكلاً ومضموناً، ولا مانع من المخاطبة بمفاهيم العصر لتيسير الوصول إلى الأصول.

 أما القصائد ذات الطابع الوطني الخاص بوطنها فهي أربع جاءت كالتالي:

 البسيط اثنتان، الكامل واحدة، والمتقارب واحدة. بينما باقي القصائد وهي ذات طابع اجتماعي متنوع جعلت على البحور التالية:

البسيط ست، الكامل ست، المتقارب أربع، الرمل أربع وقصيدتا تفعيلة.

 وبذلك نرى الشاعرة قد نوعت في الإيقاع الشعري والموسيقي ولكنه- كما رأينا- تنويع محدود ومتزن، اقتصر على خمسة أبحر يغلب عليها الطول وفيها من مجزوء الرمل اثنتان، وفيها من القصائد ذات الوزن الإيقاعي الغنائي الرتيب مثل:

رأيت المنون تطيع القدر وتغتال في الروض ريا الزهر

وتسلب ورد الربى قطره وتطوي الزهور ببطن الحفر

كأنك لم تعبقي نسمة تواسي الجروح وتجلو الكدر ص105

وقد جاءت الراء ساكنة من أجل تكوين قافية تساعد على القرع والقطع، ولأن القصيدة كتبت في ذكرى وفاة العالمة المناضلة زهور الأزرق، فقد ناسبتها القافية المتصفة بالقطع والسكون لأن هذا شأن الموت.

 وإذا أخذنا مثالاً ثانياً من قصيدة توبة نجد أنّ المد فيها يناسب الموضوع وينسجم معه ويطابقه في ليلة القدر، حيث الأصوات الداعية المسبحة المبتهلة الخاشعة ولأكف الممدودة في جنح الليل ضارعة، فناسبها هذا البحر والقافية:

إذا جنّ ليلي سخت دمعتي وأوقد خوفي لظى زفرتي

ولذت ببابك يا خالقي فبابك أوسع للتوبة

بسطت إليك أكفّ الدعا ولي مطمع في ندى رحمة ص37

وقبل أن أنتقل إلى المضمون رأيت أن أقف على إشكال قد لا يدرك بسهولة لتعلقه بتلاوة القرآن الكريم، فقد أثّرت التلاوة في المغرب العربي على اللفظ حتى دخلت النظم والشعر، ذلك أنّ أهل المغرب العربي يقرؤون القرآن برواية ورش عن نافع، بينما يقرأه أهل الشام والحجاز برواية حفص عن عاصم. ونورد المثال ليتضح بعد ذلك المقال:

تقول الشاعرة أمينة في قصيدة النكسة:

صنعته قحطان وما أحياه عمره أو يزيده

صنماً يظل وحوله أفعى تقوده أو تبيده

يبني أعشاشه من جديد

فحتى يستقيم الوزن فإنها تقصر الهاء في"عمره، تقوده، أعشاشه" ولا تمدها أو تشبعها على مصطلح القرّاء، وهذا ما يعبّر عنه بالاختلاس، إذ لو لم تفعل ذلك لانكسر الوزن، وهذا كثير في الديوان. وهذه رواية قالون عن نافع (الشيخ) بينما عند حفص عن عاصم فلا يكون ذلك إلا في موقع واحد في القرآن الكريم (ويرضه لكم). (آية7، سورة الزمر)،وكذلك ما هو معروف عند ورش عن نافع وهو نقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها.

وهذا أيضاً نجده في هذا الديوان ليستقيم الوزن، ومنه قول الشاعرة:

وتنقرنّ كما شئتم بلا حذر وتذهلنّ عن افراخ وأوكار ص54

فحركة الهمزة في " أفراخ" انتقلت إلى النون الساكنة في "عن" التي تحركت بالفتح بعد أن حذفت الهمزة، وهذا أيضاً موجود في الديوان بشكل لافت :

ويبكي من اجل سلام كذوب موشّى الحواشي بدمّ البراعم ص61

فيقلع العُرب عن خُلف يفرقهم ويبلع الصدر ما أوعى من اوغار ص57

أعتقد أنّ هذا مؤشر على صلة الشاعرة بكتاب الله تعالى، والقارئ لديوان الأخت المريني لا يحتاج إلى بذل الجهد ليلاحظ هذا الأمر ويقف عليه ، كما سنقف عليه قريباً إن شاء الله.

الموضوعات

أما موضوعات قصائد الديوان فإنّ الشاعرة قسّمتها إلى أربعة موضوعات عامة، وقد أجادت اختيارها، فهو حافل بالقصائد والمقطعات التي عالجت كثيراً من موضوعات الشعر وقضايا الإنسان.

 فأول ما ابتدأت به ديوانها قضية الإيمان والروح والنظر في خلق الله والمراقبة والتقوى والتوبة والمناجاة، وفي هذا الباب نلمس دعوة صادقة وحارة في خشوع وحنين:

هو ذا الله معك أينما كنت معك

.........

فاتق الله الذي من تراب أبدعك

وارقبنه خشيةً واجعلنه مطمعك ص17

إننا نلمس في شعرها صوفية تنافس أهل التصوّف في الإغراق في الحب الإلهي لا مبالية بما يقال:

ولا أبالي إذا ما قيل في نزق في حب أهل الصفا أو قيل بي خرق

يا قوم هذي عظامي بينكم رمم والقلب في مكة الغراء منطلق ص33

ونلحظ أن النفس الشعري في هذا اللون هادئ النبرة خاشعاً، ولكن عندما تتوجه بالدعوة والتنبيه ترتفع الوتيرة ونحس بالخطابية والمباشرة قد بدأت تتسلل في ثنايا القصائد:

يا أيها الناس إن تصمد صفوفكم تخسأ فلول الألى كادوا وتندحرِ

عضوا على الملة البيضا بناجذكم فهي الدواء لهذا العالم النخر

ويا دعاة الهدى في كل معترك أنتم منائر تجلو حلكة الكدر ص24

أما القسم الثاني من موضوعات الديوان فإنه يبدأ بـ ( نكسة) وينتهي بـ ( أحزان فتاة شيشا نية)، ويعالج هذا القسم قضايا الأمة الإسلامية، وينقسم إلى قسمين أيضا:

الأول: ما يخص القضية الفلسطينية في ست قصائد هي:

(النكسة) حيث الهزيمة العربية الشاملة، وفيها من الألم والتوجع والفجيعة ما فيها، وكذلك السخرية اللاذعة مما آل إليه حال الأمة العربية.

أقصر فقد طال السرى والقلب ناء بما تعيده

والركب أضناه المسير وليله سجف وبيده

أعمى يقود خطاه قد ضلّ المقود ومن يقوده

هذي العروبة ليلها داج وسيدها مسوده

لا فجرها يرجى ولا غدها تعدّ له لحوده ص51

وإنّ الإحساس بالمرارة لتأخذ من الشاعرة كل مأخذ:

يا شاعراً رشف الهزيمة لذّة فابتلّ عوده

نرى في هذه القصيدة بوضوح أن الشاعرة تحيل الهزيمة إلى " العرب" ، فهم الذين هزموا، وهذا يدل على وعي في الفكر ووضوح في الرؤية، فهي تدرك تماماً أنّ الإسلام لم يدخل المعركة وبالتالي لم يهزم ولم يعاتب:

(صنعته قحطان وما أحياه عمره أو يزيده)

فالرمز إلى العرب بقحطان وإلى الإسلام بعمرو ويزيد يدلل على ذلك. وقد بلغ الألم بالشاعرة درجة تقرب من اليأس، وبلغ بها الذهول أنها ختمت قصيدتها بهذه الأبيات،حتى أنها لم تعمد إلى بث روح الأمل ولم تستنهض الهمم، وقد يشفع للشاعرة أنها سمّت قصيدتها بـ (النكسة)، إلماحاً إلى التفريق بينها وبين الهزيمة النكراء، ولما يحمله مصطلح النكسة من دلالة نفسية مفارقة لدلالة الهزيمة.

 أما القصيدة الثانية " حول سفينة السلام" فالسلام مع اليهود لا يرجى له قيام، وقد شبهته بخيط العنكبوت على شفا سراب لا يلبث أن يتهاوى:

شدتم سلاماً كخيط العنكبوت على شفا سراب تداعى جرفه الهاري

واليوم أودت به ريح مسخّرة سبقاً توالين بالآثار والعار ص54

وترفض الشاعرة التطبيع المبني على هذا السلام:

وكم ثملتم لتطبيع ومهزلة بأكؤس مرة تسقى و"أتار"

وقد ربطت الشاعرة بين يهود اليوم والأمس "بنو قريظة" لا يؤمن جانبهم ولا يُطمأن إلى طويتهم:

بنو قريظة إن تؤمن جوانبها تؤمن طوية سمسار وجزار

 وتضرب الشاعرة مثالاً معاصراً " قانا " لتؤكد من جديد استحالة أن يكون سلام مع اليهود:

فقل (لقانا) التي تبكي ثواكلها بأدمع كصبيب القطر مدرار

أين السلام الذي دقت مسامره في نعشها كف حاخام ونجار

وتختم بالسخرية من ذلك كله بقولها:

فلملموا شملكم حول السفينة لا يقعدنكم خشب من وحي أفكار

ولا ندري هل وفقت الشاعرة في الربط بين عنوان القصيدة (حول سفينة السلام) وتقصد بها شكل الطاولة التي صممت لينعقد حولها مؤتمر السلام بالقاهرة عام 1996، وبين سفينة نوح التي عصم الله بها المؤمنين مع نوح عليه السلام، ولكن ليس من جودي اليوم يعصم سفينة السلام:

وأرسلوها عسى" الجودي" يعصمها بأعين الله من سيل وإعصار

 وتتجاوز الشاعرة في القصيدة الثالثة (السلام الآثم) السلام في فلسطين مع اليهود إلى السلام بشكل أعم بقولها:

إذا الغرب جاء ( بلهوة ) حب فراقب ضياع الحمى والسوائم

وما هي إلا انتهازة لص لسلب (العقال) ونهب (العمائم)

رأينا السلام بألف قناع كوجه الزواني:بشوش وآثم ص58

إنها صورة واضحة للسلام في عرف الطغاة في عالم الظلم والعدوان:

فشرع الطغاة يقيم حدوداً على الرد تفترّ عنه المباسم

ويبكي من اجل سلام كذوب موشى الحواشي بدمّ البراعم

فهذا هو حال السلام في قضايا المسلمين من أرض الإسراء إلى الشيشان والبوسنة وكشمير:

بمسرى الرسول بأرض الششان تصلّى سعيراً من الهول جاحم

وينحر بالبوسنة الأبرياء ونخفي الرؤوس كربد النعائم

وكشمير تحت المطارق تروي حكايات بغي وصولة ظالم

وتختم الشاعرة قصيدتها بالدعوة إلى الصبر:

فصبراً سيطلع فجر جديد ويأفل نجم الطغاة الغواشم

وينهدّ شرع أراده غرب على جرف البغي والجور قائم

... الفجر الجديد سيطلع، ونجم الطغاة سيأفل، وشرع قائم على البغي والجور أراده الغرب سينهدّ لا محالة. فالشاعرة ذات رسالة في الصحوة والإيقاظ ولها دور في التوعية والاستنهاض وبعث الأمل والحياة بغد مشرق.

 وفي القصيدة الرابعة (تهنئة) تسخر الشاعرة من نبأ فوز أحد دعاة السلام من العرب بهدية لسعيه في هذا المجال، وكانت عبارة عن قرن جمل نقش عليه " إنّ من يعمل من أجل السلام تقبل جميع صلواته":

فذا الزمن العربي الجبان لمن قد أباح الدما واستحل

ومن قد أضاع السلام بقرن وأسكره الوهم حتى الثمل

........

فتقبل منك لأجل السلام صلاة وتدعى العظيم البطل ص63

وتختم ما يخص القضية الفلسطينية بقصيدتين ( شارون) و (شماتة)، الأولى تخذت من شارون رمزاً لما آل إليه حال من وصفتهم على لسان شارون بالأغبياء، حيث استطاع أن يغري القوم بزخرف وعده وجميل الألعاب والسيجار والعصير والعطور والطلاء...

وقد هرول الجمع وما فيهم رشيد فأصابوا من قراه ما أفاء

 أما (شماتة) وهي القصيدة السادسة فيما يخص القضية الفلسطينية، فقد نظمتها الشاعرة عقب اغتيال رئيس الوزراء الصهيوني رابين:

بما سعرتم فلا يحرقكم الجزع يا رهط "شارون" من غابوا ومن جمعوا

وذرّفوا الدمع فالأحباب حاضرة وذي مناديلها قد لمّها الفزع ص68

وتعدد الشاعرة ما دهانا على أيدي السفاحين:

من القتيل و"صبرا" اليوم تلعنه و"للخليل" دعاء ليس ينقطع

و"دير ياسين" لم تفتأ أصائله تبث في وجدها مرثاة من صرعوا

وللزهور بمرج النفي محزنة ما زال يرجعها الأنواء والصقع

و"كفر قاسم" ما انفضّت مآتمه وللغرابيب في أرجاه منتجع

 وهكذا جعلت الشاعرة من شارون رمزاً ليهود:

...يا رهط شارون

قد قال ربك في شارون قولته ...

وتعالى صوت شارون يناغي ...

كلما أقبل شارون تنادى ...

ومضى شارون يطوي الخطو طيا ...

إذن الشاعرة تعيش قضية فلسطين بكل أحاسيسها ومشاعرها وعواطفها وألمها وغضبها، وهذا يدل على مدى انصهار الشاعرة مع قضايا أمتها.

وإنّ ترتيب القصائد في قضايا الأمة بعامة يدل على الأولويات في الذهن والوعي، وذلك أن الشاعرة أعقبت ب (فاجعة البوسنة) و (صرخة سراييفو) و( أحزان فتاة شيشانية) وهي القسم الثاني من الاهتمام بقضايا الأمة، ثم إن عدد قصائد القضية الفلسطينية ست، وهي ضعف ما بعدها (ثلاث) يظهر أيضاً هذه الأولويات في طرح القضايا، ولعل تاريخ قضية فلسطين أعطى عمقاً أكبر في الاهتمام لدرجة أن القضية القريبة التي تعيشها الشاعرة (فلسطين) حضرت في قصيدة البوسنة:

وحمى "يهود" تذود عنه طغمة باعت ضمائرها لنيل رضاه

وقد ظهر الربط العميق بين مشاعر شاعرتنا وهذه القضايا، إنها الأخوة الإسلامية ووشيجة الدين والعقيدة:

يا نكسة الإسلام في بلد غدت كفّاره جلاده وقضاه

ويقسم الترب الذي قد أومضت للمسلمين صفائح برباه

وتتداخل القضايا الإسلامية والوجع العام، فما أن تطير الشاعرة إلى البوسنة حتى تستذكر بهم أنات صرعى العامرية في العراق:

أنات صرعى العامرية درسكم لله كم تعشون عن مغزاه

وتستنجد الشاعرة بالتاريخ الإسلامي عله يبعث صحوة في الضمائر:

صولاتنا في القادسية كسّرت شوكات خصم حاقد ولواه ص72

وتحاول بعث من في القبور في الأذهان حيث عزّ الأمثال في الأحياء:

من لي بمثلك يا صلاح لفتية قد ضيعوا أمجادهم إذ تاهوا!

بعد أن ترفع صوتها عالياً مستنكرة :

فإلى متى تجثو وهذا مجدنا غمر الدنا أفضاله وجداه؟

وإلى متى ننسى بأنا أمة غزت العلا واستعصمت بذراه؟

ثم تختم بالتحذير من مصير أندلسي جديد:

إني أرى بالأفق أندلساً هوت والشعر ينعى يائساً بوسناه

وتلفت الشاعرة الانتباه إلى أسباب هذه الفواجع والصرخات والأحزان:

قد دفناها مراراً وجهارا بين كيد وعداء وشجار

وكؤوس من رحيق مترعات وألوف من ليالي "شهريار"

حسر الدهر لثاماً عن دجاها فأبانت عن صغار واندحار

عن مروآت تثنى في دلال خلف أسجاف الشعارات العواري ص80

وتختم هذه القصيدة (صرخة من سراييفو) ببيتين يذيبان الكبد ألماً وحسرة، فسراييفا أخت أيوب يدعوها للتعالي فوق ما فيها من نزف واحتضار لأنها وحيدة وحدته في مرضه، لا أحد يواسي جرحها أو يوقف نزفها:

"سراييفو" أخت أيوب تعالي فوق دود ونزيف واحتضار

"سراييفو" ما لك اليوم حميم فاضمدي الجرح وذودي كل عار

 أما ( أحزان فتاة شيشانية) فعلى الرغم من رمزيتها الكاملة وقد أسعفها الشكل الحر للقصيدة الحديثة، إلا أنها واضحة المعالم والمعاني، وهذا ما يميز الأدب الإسلامي حتى في رمزيته عن الداعية إلى الرمزية المغرقة التي لا يكاد السامع أو القارئ يعي منها أكثر من وعي الشاعر نفسه لما يقول:

الدرب أفسح قلبه للعابرين بلا حياة

 فوق الرفاة

وعلى معاطفهم بقايا من غبار

 الحالمين

بالدفء بالأبواب تشرع للسلام

 بالكوخ بالزيتون والتين

 بالخبز من نار( البتول)

 وبالحمام

يبني عشاشه من جديد

 فوق الحطام

بـ (الله أكبر) من ضياء

 تعلو المدائن والخيام

وتختم الشاعرة بقولها:

وغداً يضوع شذى بلال

 يا طهره

يغزو المدائن والصحارى

 والتخوم !! ص81

 لعلنا أطلنا قليلاً عند القسم الثاني من موضوعات الديوان (قضايا الأمة النازفة) ، ذلك أنّ الشاعرة أججت ما فينا من لهيب، وقد أثبتت أنها صادقة الانتماء للأمة وأن عاطفة الولاء لهذه الأمة متأججة، مما جعلنا نعيش معها في معنى الحديث النبوي الشريف " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"، وقول المصطفى الكريم: "من لم يهتم بأمر المسلمين ليس منهم"، إنه صدق الاهتمام والانتماء.

 ونصل إلى القسم الثالث من موضوعات الديوان والذي يبدأ بـ (وطنية) فـ (المفخرة الكبرى) فـ (صفحة محمد) وينتهي ( بالوثيقة)، أربع قصائد في الهم الوطني الخاص أو الأضيق، وهذا الترتيب يعطي الصورة الحقيقية لفكر الشاعرة المنسجم والمندمج مع الفكر الإسلامي الذي يراعي الأولويات في الطرح والعمل، فالدين والإيمان والأمة ثم الوطن ثم القضايا والمشاعر الخاصة.

 ولكن بشأن قصيدة (وطنية) الطويلة نسبياً فإنني أتوقع – وفق التصور العام الذي أسلفنا لفكر الشاعرة- أنها لم تقصد بها النسبة "الأيدلوجية" ، وإنما الحب والانتماء المشروع للوطن مسقط الرأس، وهو الأمر الفطري لا العقدي أو الفكري.ورغم ذلك أقول إن الشاعرة بالغت في تمجيد وطنها الخاص، وكان الأحرى أن لا تفتح هذا الباب من المبالغة كي لا يكون سنّة تقتفى لكل محب لوطنه:

تسير في ركبك الدنيا مبايعة وينحني لعلاك الغرب والعجم

إذا رضيت تهادى الحب والنعم وإن غضبت تلظى الهول والحمم ص85

وتقول في ذلك أيضا:

لمن هويت متى يخطرْ بجوهره أجعله محرابي الأسمى وغاياتي

لو كان لي غير دين الله معتقداً لكنت يا وطني خير الديانات ص157

إنّ الشاعرة قادرة على التعبير عن حبها وانتمائها لوطنها بغير ذلك.

 ويتداخل حب الوطن مع المناسبة الجليلة (ذكرى المولد النبوي) وتدشين

المسجد الذي وصفته بقولها:

لم تبن يونان وفرس مثلها أو يعرب في عصرها الوضاء

صرح ثوى فوق المحيط كأنه عرش تألق فوق صفحة ماء

أو لجة وضاحة قد شدها "جن الحكيم" لصخرة صماء

يسعى إليه الموج وهو مبايع متصدع من رهبة وولاء ص93

هذا التمازج والتداخل بين الوطنية والاعتزاز بالنبوة والمسجد يؤكد عمق القضية الإيمانية في نفس الشاعرة، كما وتسجل بفخر واعتزاز ذكرى تقديم وثيقة الاستقلال في قصيدتين" صفحة المجد" و"الوثيقة" تنهي بهما هذا القسم من ديوانها:

وإنّ حرية الأوطان أثمن من دم يراق ومن ولد وحضن أب

أزكى النفوس نفوس أهديت قرَباً لله والوطن الغالي لدى الكرب ص104

 القسم الرابع في مواضيع الديوان الوجدانيات الاجتماعية، لم تنس الشاعرة فضل من كان لهم فضل من علم أو نضال، ففي ذكرى وفاة عالمة مناضلة -السيدة زهور الأزرق- تقول الشاعرة:

رأيت المنون تطيع القدر وتغتال في الروض ريا الزهر

وتكسب ورد الربى قطرة وتطوي الزهور ببطن الحفر

كأنك لم تعبقي نسمة تؤسّي الجروح وتجلو الكدر ص105

وفي ذكرى فقيد الفكر الإنساني الدكتور محمد عزيز حبابي، تقول الشاعرة في قصيدة بعنوان "فاجعة الفكر":

أزمعت مسراك لمّا عادك القدر أم عشق مجد دعا يا أيها القمر؟

لم يقنع النفس فخر أنت بالغه حرمت أسبابه في الخلد تبتدر

أم قضّت الروح ألغاز محيّرة فكان في لحدك الإيضاع والخبر

ومع إيمان الشاعرة بالأقدار المقدرة وأن المنون تطيع القدر، ولكنها في غمرة فاجعتها تنسى نفسها قائلة:

وللزمان وإن أغرت مباسمه فم يكشر عن أنيابه الكدر ص108

لو أنه حكم عدل أخو ثقة ما قصّ عمراً مضى بالعلم يزدهر

فما الزمان إلا وعاء القدر، والله سبحانه يقول: " إنّا كل شيء خلقناه بقدر " وبخاصة أنها في قصيدة "دمعة" في فقيد العلم - سيدي عبد الكريم الداودي- تقول:

كل ابن آدم مفقود ومفتقد ووارد من حياض ما لها نفد

يسعى إليها وما عن وردها صدر وللمنية في كاساتها رصد ص109

ونراها تؤكد المعنى ذاته وقد استجمعت نفسها في قصيدة " الشهيدان"

لا تجزعن فكل شيء فان واصبر على ما ناب من أحزان

واخفض جناحك للبلاء إذا قضى رب بما لم يجر في الحسبان

لا تعتبن على المشيئة واحتسب من هاجرا في الحق للرحمن ص112

ثم تقول:

بالود والصبر الجميل وبالحيا والعلم يملك مجمع الوجدان

تظهر الشاعرة إنسانية عالية وتحاول أن تغالب أحزانها حتى تصل في قصيدة " الشهيدان" إلى شيء من الموازنة والتسليم وضبط النفس:

أخويّ عيشا في الممات كما الحياة ندية بالنور والريحان

صنوين، في دار المقامة وارتعا بين السنا والحور والولدان

يرعاكما رب عظيم ما شدت باسم العظيم خلائق الأكوان

 عايشت الشاعرة الهم الاجتماعي وأبدت ألماً وحرقة، هذا يعني أنها تعيش الواقع وتتفاعل وتنفعل مشاعرها بما ترى وتسمع وتحس، تعبّر أحياناً بغضب شديد لما ترى من اعوجاج وانحراف عن الحق والخير والفضيلة، تحس بالعاطل عن العمل الذي لا يجد ما تقوم به حياته:

ساهم الطرف حزين القسمات مثقل الروح وئيد الخطوات

مجه الكوخ وألقاه إلى غيب يوم وسراب الطرقات

ومضى في خرقة طاوي الحشا كخيال من عظام نخرات

وتخلص في البيت الأخير من القصيدة " العاطل " إلى أن هذه هي شرعة الغاب فتقول:

شرعة الغاب بقاء لقوي وقديماً كان في الناس البغاة. ص121

 وفي أربع قصائد متلاحقة " المومس" و"الفراشة المحترقة" و" النادلة" و"المرآة" تكشف السقوط المريع الذي انتكست إليه المرأة، مخدوعة بالدعوات الهدامة والعلمانية المدمرة، حتى مضت:

يمد هيكلها المضنى ويرقصه عمود نور ويطويه على الأثر ص122

وفي "الفراشة المحترقة" وصف مؤلم لحال المرأة الذي آلت إليه من الضياع والتهتك:

حسناء فاتكة لعوب لا تني عن صبوة وتولّه وتدلل

ومضت تراقص في الظلام شموعه وتجوس ألسنة اللظى المتغزل

وتمايلت تيهاً بوحي جنونها وغرورها وفتونها المتذلل

ففي هذه القصيدة وصف صادق للانحراف ومصيره: ص126

فإذا البرود الخضر تضحي هبوة وإذا اللهيب يشدها للأسفل

من عاش يهدر في الغواية عمره يشرب بكأس للندامة معجل

 ومثلها "نادلة" وقد رأتها الشاعرة تعمل في إحدى المقاهي فخلفت نزيفاً في القلب والذاكرة كما ذكرت في مقدمة القصيدة، وهي تنقل وصفاً حياً لهذه الفتاة، وكأنها ترى أن هذه الحال لا تصلح معها التورية إشعاراً بأهمية الأمر وخطورته:

نقلت خطواً تلبي من دعاها ما اشتكت في السعي يوماً قدماها

"أنت" يا"أنت" تعالي"هذه" "كوب ماء" "قهوة تصبي الشفاها"

"كأس شاي" "بل عصيراً مثلجاً" "أخت ظبي قد سبتنا مقلتاها"

نقلت خطواً تواري لوعة وشجوناً أخرس القهر صداها

وعلى الثغر ابتسام لم يزل شبحاً سال طلاءً من أساها ص127

إلى أن تصل الشاعرة إلى ما تريد من رؤية لحال حواء وكيف ينظر إليها:

لست أبكي غير حواء التي أهدر القهر بريقاً من سناها

أنا أبكي فيك دنيا وجدت فيها أنثى قد تلبي من دعاها

فالشاعرة ترفض حواء هذه وترفض أن تكون الأنثى التي تلبي من دعاها، وتبكي القهر الذي أهدرها كلها، ترفض أن تكون حواء تمرة يمصّ رحيقها ثم تلفظ نواة في سلال المهملات.

 وتعبّر الشاعرة بقوة عن رفضها عباءة الزيف وتستنكر السكوت على الجناة وتعده تواطؤاً ومذلة للحق والحرمات وجريمة وتلاعب في حق الأجيال الآتية :

فاكفر بمن تخذ الديانة سلما للغاية النكراء والنزوات

وتراهم بيض الذيول كأنهم لم يسرقوا بالليل والغدوات

أو يركبوا في الفسق كل مطية ما بين حانات ووكر زناة

يا صولة الحق الغضوب ألا اكشفي عن وجه أوغاد بلون ثقات

إن السكوت على الجناة تواطؤ ومزلة للحق والحرمات

وجريمة في حق جيل ناشئ وتلاعب بمصير جيل آت

هيا اقذفوها جذوة وقادة تأتي على الوصمات واللعنات ص131

 لشاعرتنا أمينة المريني موقف ورأي في الثقافة والأدب والشعر، فهي تعد الثقافة تهذيب فكر وذوقاً وخلقاً، وليس تطبيلاً ورقصاً على الحبال وتصفيقاً كاذباً وتزويراً للحقائق:

"ومطبلون" و"راقصون" بأفعوان أو حبال

ومصفقون إذا الخنافس سميت بدر الجمال

وإذا الفواعل لقبت ذات الفضيلة والحجال ص133

وترفض الهذر في الشعر والغمغمة باللغو، وتعبّر عن ذلك ببيت تقول إنه لا معنى له، وهو نموذج من هلوسات وجنون بعض الشعراء:

فكيف يحار الفأر من ألق الدجى وتعتكف الخرفان من لجة البحر؟ ص134

فالشعر عندها :

وما الشعر إلا ذوب روح ونغمة أليفين صيغا من لظى القلب والفكر

 لقد سجلت شاعرتنا أسماء بلدات ومناطق في بلادها، ولكنها خصّت (فاس) المدينة الجميلة بقصيدتين، واحدة بعنوان"فاس" والثانية بعنوان " ربيع فاس" ألقتهما في مهرجان ربيع فاس 1994م: ص149

ناجيت سرك في الخشوع مكبرا يا فاس يا أم الحواضر والقرى

ورأيته سحراً عظيماً ينجلي طوراً ويخفى مبهماً ومحيرا

لم تبل جدتها الخطوب ولا مشى في رأسها ريب الزمان مسعّرا

يفنى ولا تذوي نضارة وجهها والحسن باق مل ألّ وأزهرا!

ويبقى حسها الإيماني متألقاً وهي تتحدث عن مدينة فاس:

يل معقل التقوى الذي برحابه مشت العظائم والمعالي خطّرا

كم قدت في الجلّى نفوساً آمنت بالحق دوماً "أو تموت فتعذرا"

ومن قصيدة " ربيع فاس" : ص153

ألا حيّ فاساً والربيع عروسها يجرّ ذيولاً في المجالي النواظر

وتشدو لها الورقاء أعذب لحنها يردده شجو السواقي الهوادر

فهذه القصائد والتي منها"أبو الرقراق" و"الغابة الحسناء" تظهر شاعرية عالية ووجدانيات سامية وحسن وصف وجمال صورة ورقة مشاعر وشفافية عبارة:

هام الفؤاد بما أوحته فتنتها فشفّ حتى تلاشى في مغانيها ص161

رشفت فيها كؤوس الفن مترعة من لون زهرتها أو لحن واديها

 وتختم الشاعرة ديوانها بقصائد وجدانية أربع: "إلى طائر جريح" "العذراء" "أغنية لسناء" و "الأسيران" تشف عن نفس راقية ومشاعر سامية، فهي تكمل الصورة النفسية والفكرية والعاطفية للشاعر المسلم الذي لا يحبس نفسه في زاوية رؤية واحدة، فالكون والإنسان والحياة هي فضاؤه الفسيح دقّ الخطب أو جلّ، صغرت الصورة أم كبرت يلاحقها بأحاسيسه ومشاعره الصادقة، ترقّ حواشيه حيث يرق المعنى، وتثور وتفور وتغضب حيث المقتضى، وفي كل الحالات هو شاعر، والحديث الآن عن شاعرتنا، فقد سجلت حياة وحضوراً مع روح ونغمة صيغا من لظى القلب والفكر:

وهذه بعض نماذج من قصائدها الأخيرة:

أيها الطائر يا صوت الروابي والتلال

رجّع الشدو شجياً وانفث السحر الحلال

وارشف الجرح وحلّق في سموات الخيال ص167

            * * *

يا فؤادي يا أسيراً في غيابات الضلوع

أنت في أسرك حرّ لا تعي معنى الخنوع

أنت في الأغلال لا تجثو ولا ترضى الخضوع

كيف تدري أيها الناسك ما سرّ الخشوع

ودمائي لك كأس ولحون وشموع؟! ص173

* * *

كزهر الأقاحي ولون الضياء وعطر الورود تبدّت سناء

ملاكً طهوراً كساه الجمال وأشرق في رقة وحياء

وشعّ وضيئاً كجوهر طلّ وشفّ حنوناّ كقطرة ماء ص171

 بعد هذا التطواف المتواضع في ديوان الشاعرة أمينة المريني وقد خلقت بنا فكرةً ووجداناً وإيمانا، فناً وموسيقى وسبك عبارة وجمال كلمة في مجالات فسيحة تشهد لها بشاعرية متميزة، حيث الصورة الفنية والصورة المعنوية وصدق المشاعر وعمق التأثير والتأثر، فقد فخرت بتليد مجد أمتها الغابر تستحلبه من ضرع التاريخ، وصارعت الواقع النكد المحشو بالإحباط واليأس، وبعثت أملاً قوياً في النهوض القادم قائماً على قواعد متمكنة الجذور.

 مارست الشاعرة دور القائم على حدود الله والحارس على ثغور الأمة الفكرية والمعنوية والإيمانية والأخلاقية، صرخت بأعلى صوتها للنهوض وهزيمة القعود والتثاقل إلى الأرض. كان انتماؤها لأمتها ودينها أبرز ما في الديوان، وقد وجدت الشاعرة تدور في إطار حضاري ثابت وتمحورت حول هذا الإطار، مما أعطاها صدقاً وفاعلية وانطلاقا وقدرة على مواجهة الشروط الموضوعية التي تعطي المجتمع سماته المتميزة.

 لقد استطاعت أن تواجه أسلوب حياة معين بأسلوب تعبير معين، وبذلك فإن شاعرتنا لم تصدر عن تجارب ذهنية خالصة ولم تعمد إلى تقديم تجارب الآخرين، بل كانت منتمية إلى بيئتها الروحية والثقافية.

 لمسنا بساطة عميقة في الإفضاء ولغة عذبة صافية وقوية، وقد صدرت عن وعي حقيقي بواقعها الاجتماعي وحرصها على عدم استلاب هذا الوعي أو تدجينه، وقد صورت واقعاً مؤلماً كشرت المصائب فيه عن نابها، وقد انفعلت الشاعرة بالأحداث الدامية وقررت طريق الخلاص في هذه الأزمات.

 كثرت الأسماء في ديوان الشاعرة سواء لأشخاص أو أماكن، وهي أسماء مقصودة بلا شك، ويهدف كل اسم إلى غاية تريدها الشاعرة، مثل الصرب والقدس وسراييفو والشيشان وصبرا والخليل ودير ياسين وكفر قاسم...، ومنها الأسماء التاريخية ذات البعد الحضاري والتحريضي والإنساني مثل غرناطة والحمراء وصلاح الدين وخالد بن الوليد والقادسية...، وهناك أسماء قصدت منها الرمز التاريخي مثل فرعون وهاروت والفرس وروما...، كما ركزت على اسم جعلت منه رمزاً للإجرام والعدوانية والوحشية وفقدان التوازن الفكري والعقدي، وقد أحسنت إذ جعلت (شارون) الممثل لليهودية التاريخية وأنه يمثل امتداداً وستمرارية لها وممثلاً حقيقياً لوحشيتها وطغيانها، حتى إن الشاعرة كررت هذا الاسم (الرمز) أكثر من غيره( ثماني مرات) وهذا يرمز بدوره إلى نظرة الشاعرة لليهودية والقضية الفلسطينية ومدى التصاقها بها وتفاعلها معها، بينما فاس وهي المدينة العريقة والعزيزة على الشاعرة ذكرتها في ديوانها (ست مرات)، وفي ذلك ما فيه من دلالة نفسية وتوجيه قيمي مبدئي.

 لقد استفادت الشاعرة من ثقافتها القرآنية وظهر ذلك جلياً وحاضراً في النص الإبداعي، من مثل قصيدة "الله معك" فكلها معان قرآنية: في صلصالك، ومخرج الحي من ميت ومندثر، والسامري، والجودي...، هذه أمثلة سريعة عجلة لأني لا أريد أن أخرج بالبحث إلى بحث آخر غني في ديوان الشاعرة يستحق الوقوف عليه والاعتناء به، وبخاصة أنني أنظر إلى التناص القرآني في محاور متعددة منها التناص اللفظي والأسلوبي والتركيبي والمعنوي. وإنني أرجو الله أن يوفقني إلى الوقوف على هذا الموضوع في دراسة خاصة.