دراسة لغوية في أمثال فلسطينية..

دراسة لغوية في أمثال فلسطينية..

د. محمد عقل

[email protected]

حظيت الأمثال الفلسطينية باهتمام كبير وقد كثر جامعوها وشارحوها، وهم في ذلك يعطون المعنى الإجمالي للمثل، وقلما وجدتهم يحاولون الوقوف على معاني المفردات في اللغة العربية وعلاقتها بالتراث العربي الأصيل واللغات السامية الأخرى. وفيما يلي دراسة لغوية في بعض الأمثال الشائعة في فلسطين:

قشلان(كشلان) وصاير محكوم

أيام زمان عندما كنا صغارًا كان الواحد منا يعود إلى بيته باكيًا  لأن أحد أقرانه ضربه، فتقول له أمه: قشل! أو قشلان، والناس في بلدنا يلفظون القاف كافًا. والمعنى (الخيبة) و(العار) لك، أو أنك  لا تستحق لقب (رجل) أو (زلمه). وقد بحثت في المعاجم العربية عن كلمة (قشل) فلم أجد هذا المعنى وإنما وجدت في تاج العروس للزبيدي أن القشل محركة يكنى بها عن الفقر وأنها مصرية عامية مبتذلة. هذا وما يزال المصريون يطلقون على المفلس والمحتاج اسم قشلان.

 وذكر جهاد علاونة في مقالة له اسمها اللغة العامية السريانية أن كشل أو قشل بالآرامية تعني الفشل والخيبة. وفي العبرية כשל  تعني تعثر أو فشل ما يدل على وجود جذر سامي قديم يحمل هذه المعاني.

وهناك مثل يقول: كشلان وصاير محكوم أي أنه فاشل وتتحكم به  زوجته.

 ويا كشيلي عليك تعبير عن الشفقة عليه،

وكشل يكشلك عند ذمه وسبه.

والقشلة في اللغة التركية تعني مأوى العسكر أي المكان الذي يمكث فيه الجنود أو الحصن أو القلعة. ولا علاقة لها بالفشل.

وفي مدينة الناصرة مبنى ما زال يسمى القشلة.

 

يا شعيرة عيرة

مثل شعبي يقال عندما يشيع الأمر ويفتضح بين الناس، وفي تفسيره وجهان:

-كان بعض الحجاج يستعيرون ثياب الإحرام من أهل مكة. فالشعيرة هي منسك الحج والعيرة هي الثياب المستعارة، فصار هذا الأمر مستهجنًا ويدل على الفضيحة. 

- عندما أرادوا في زمن عبد الملك بن مروان وزن الدينار(من ذهب) وضعوا مقابله 72 حبة شعير أي مثقال، وعند وزن الدرهم( من فضة) وضعوا 50 حبة شعير. فكان هذا هو عيار النقد في الإسلام. ولما كان العيار بالشعيرة منتشرًا وشائعًا بين الناس قالوا يا شعيرة عيرة كناية عن شيوع الأمر وانتشاره.

لا تقل كاني ولا ماني- تفسير المثل

قرأت أن أصل التعبير "كاني ماني" فرعوني قديم، مكوّن من كلمتين: كاني بمعنى السمن وماني بمعنى العسل، وأنا لا أراه وإن كان قائله الأديب أحمد تيمور وقد ورد هذا التعبير بنفس المعنى في كتاب القحوف للشربيني. أما في المغرب الأقصى فيقولون: "كيني ميني"، وفي مدينة حلب يقولون: " لا تساوي لنا  كاني ماني"، أي لا تبدأ باختلاق الأعذار والتذرع بشيء ما. ذكر أحمد أبو أسعد في كتابه معجم فصيح العامة ما يلي: كانْ بانْ: يقول القائل من العامة لصاحبه: لا تقل لي كانْ بانْ أي لا تقل لي كان كذا وكان كذا - يريد: لا تُكثرْ من الأعذار، وقل قولاً صريحاً". قلت: وهو قول جائز على سبيل الإتباع ف "كان" معناها في اللغة "حدث" و"بان" إتباع لها تبعتها على وزنها وروّيها إشباعاً وتوكيداً ولا معنى لها. والإتباع من سنن العرب كما في قولهم: حسنٌ بسنٌ، وشيطان ليطان على ما روى السيوطي في كتابه المزهر في علوم اللغة، وعليه فإن كلمة ماني إتباع لكلمة كان، يقول الشاعر الأردني مصطفى التل:

يا راهبَ الدير تُبنا عن محبتهم*** وقد أنَبنا فلا "كاني" ولا "ماني".

لاحق العيّار لباب الدار

مثل يقال في الكذب والمماطلة والنفاق، والعيّار في كتب التاريخ هو اللص والفتوة الذي يبتز أموال الناس بالقوة أو بالحيلة، ثم صارت الكلمة تعني الشخص الكاذب والمنافق الذي يعد بالقيام بعمل شيء ما أو بقضاء دين عليه في تاريخ معين، أو يماطل في أداء الحق لأصحابه ولا يفي بوعده، ثم يعود ويماطل مرّة أخرى فإننا نصبر عليه ونسايره حتى يصل إلى نهاية كذبه ونفاقه لنرى هل يصدق في النهاية أم لا؟.

حكم قراقوش

كان الأمير بهاء الدين قراقوش خادمًا لصلاح الدين الأيوبي. عينه حاكمًا على الديار المصرية، فلما افتتح عكا سلمها له فوقع قراقوش أسيرًا في يد الفرنجة حتى افتدي. والناس في فلسطين ومصر ينسبون إليه أحكامًا عجيبة في ولايته حتى أن للأسعد بن مماتي كتاب أسماه (الفاشوش في حكم قراقوش)، وفيه أشياء يبعد وقوع مثلها منه والظاهر أنها موضوعة أي مزيفة.  وفيما يلي ثلاث حكايات عن حكمه:

قراقوش يحاول أن يعضّ أُذنه:

دخل رجلان على قراقوش، وادّعى أحدهما على الآخر أنه عض أذنه، فسأله قراقوش عن ذلك فقال: إنه هو الذي عضّ أُذن نفسه. فقام قراقوش فدخل غرفته الخاصة، فجلس على كرسيه، وأخذ يحاول أن يعضّ أُذنه فلم يفلح في ذلك، ومال به الكرسي من كثرة التفافه ومحاولاته فوقع على يده فانكسرت، وخرج وهو بهذه الحالة، وأمر بضرب المدعى عليه، وقال: أنت الذي عضضت أُذن الرجل هذا وكسرت ذراعي زيادة على ذلك.

قراقوش والفلاحين:
حكي أن جماعة من الفلاحين جاءوا إلى قراقوش، وشكوا إليه خراج القطن، وقالوا له: يا مولانا السلطان، البرد شوش على القطن هذه السنة، وأنت تفرج وتسامحنا من بعض المال.
فكان جوابه لهم بعد سكوت طويل: لأي شيء أُسامح في بعض المال؟ لما رأيتم البرد اشتد، كان عليكم أن تزرعوا مع القطن صوفًا لأجل ما يدفئه، ولكنكم استهنتم بالحكومة وبالزراعة، ولم تفتحوا أعينكم لخدمة أساتذتكم، أين السيّاف ليضرب أعناق الجميع. فلم يقدر أحد من جلسائه أن  ينقم عليه ذلك.
الفلاح وزوجته وقراقوش:
حكي أن جنديًا نزل في مركب، وكان به فلاح وزوجته، وكانت الزوجة حاملاً في سبعة أشهر، فضربها الجندي، فأجهضت، فذهب الفلاح إلى الأمير بهاء الدين قراقوش، وشكا إليه الجندي، فقال الأمير بهاء الدين للجندي: خذ زوجة الفلاح عندك، وأطعمها واسقها حتى تصير في سبعة أشهر ثم أعدها إلى زوجها. فقال الفلاح: يا مولانا، تركت أجري على الله، وأخذ زوجته وهرب.

وفي فلسطين يضربون المثل في الأحكام الغريبة  بقولهم "هذا مثل حكم قاراقوش"

الولد ولد ولو حكم بلد

يُحكى أن حاكم مصر محمد علي باشا خرج يومًا مع بعض أفراد عائلته، فمرّوا بأولاد يلعبون بكلل، وكان بينهم ولد يلبس طربوشًا جديدًا فتناوله محمد علي باشا عن رأسه وقال له:

-بكم تبيع هذا الطربوش؟

فقال: طربوشي كان سعره عشرين مصرية قبل أن تمسه يدكم الكريمة، أما الآن فقد أصبح في يدكم أغلى من أن يُباع بثمن.

فأعجب محمد علي باشا بنباهة الولد وقال لمن معه: هذا الولد! ربما صار يومًا حاكمًا عظيمًا.

ثم قال له: إذا أعطيتك ثمن الطربوش ألف مصرية، فماذا تفعل بها؟

قال: اشتري كللاً وألعب بها مع رفاقي.

فضحك محمد علي باشا وقال: الولد ولد ولو حكم بلد.

وجرى كلامه مثلاً تناقلته الألسن ووصل إلى فلسطين حيث نقول: الولد ولد ولو صار قاضي بلد.