رأي في "هذيان الشيخ"

رأي في "هذيان الشيخ"

زغلول عبد الحليم

للدكتور طه حسين قول حفظناه في مقتبل عمرنا الذي أوشك بإذن الله على النهاية. يقول رحمه الله عن وظيفة الأدب "وظيفة الأدب أن يرتفع بالجماعة لا أن يهبط بها" محدداً بذلك مهمة الأديب أو صانع الأدب في أشكاله المختلفة وقد التزم رحمه الله بما حدده.

ورغم ما أثير حول بعض كتاباته الأولى من تجاوزات إلا أن الرجل ـــــــ كما أوضح الدكتور محمد عمارة في ملحق مجلة الأزهر عدد شهر ذي الحجة 1435هـ، الذي صدر تحت عنوان: طه حسين من الانبهار بالغرب إلى الانتصار للإسلام ـــــ ينبغي إنصافه من أنصاره ومن خصومه جميعًا!.. كما ينبغي إخراج أنفسنا من دوائر "الاستنتاجات" و"التأويلات" لمقولات طه حسين لندع الرجل هو الذي يتكلم.. وندع نصوصه هو كي تأخذ بأيدينا وعقولنا عبر هذه المسيرة الفكرية الطويلة التي شهدت تطوره الفكري.. حتى انتصر فيها انتصاراً صريحًا وشديدًا للإسلام الدين  والحضارة والعروبة.

تلكم مقدمة ضرورية للكلام عن مجموعة قصص صدرت حديثًا باسم (هذيان الشيخ)* للصحفي الأستاذ عبد الرحمن هاشم لأنه وغيره من آلاف الأدباء في مصر والعالم أجمع قد أثر فيهم أدب الدكتور طه حسين وكنت أختلف معه حول الرجل اختلافًا كبيرًا، لا لأني من خصوم الدكتور طه حسين ـــ حاشا لله ــــ ولكن لأني من عشاق الرافعي وكتابه الأثير (تحت راية القرآن).

أما عن كتاب عبد الرحمن هاشم "هذيان الشيخ" أوضح أن من أهم الملامح التي تميز القصة القصيرة كما بينها كبار النقاد أنها حكاية أدبية قصيرة نسبيًا ذات خطة بسيطة وحدث محدد حول جانب من الحياة لا في واقعها العادي والمنطقي وإنما طبقًا لنظرة مثالية ورمزية لا تنمي أحداثًا وبيئات وشخصيات وإنما توجز في لحظة واحدة حدثًا ذات معنى كبير.. (انظر: "تطور النثر العربي من العصر الحديث للدكتور حلمي محمد القاعود، دار النشر الدولي، الرياض ص 194).

وإذا أخضعنا "هذيان الشيخ" لهذه المبادئ النظرية الحاكمة نستطيع تلمس ما حققه القاص عبد الرحمن هاشم وما لم يحققه منها.

المجموعة التي بين أيدينا تشتمل على قصص كل قصة نجدها مكونة من عدة فقرات مرقمة قد تطول وتقصر حسب تنامي الأحداث الذي هو أصلاً غير مطلوب في القصة القصيرة مما يقربها من القصة المطولة أو اللوحة الفنية أو الصورة القلمية.

كل قصة تجدها غنية بالحوادث على عكس المطلوب في القصة القصيرة (أن تكون عن حدث محدد) باستثناء (البحث عن جثمان) وهي قصة قصيرة مكتملة الأركان سريعة الإيقاع؛ تشد القارئ شداً، وتذكرنا بمسرحية (البلاغ رقم 7) للدكتور عماد الدين خليل وهي من عيون الأعمال الأدبية المعاصرة وكنت قد تناولتها بالدراسة والنقد تحت عنوان (منهج الاعتدال الفطري في أدب عماد الدين خليل) نشرت في مجلة الثقافة بمصر عام 1982 على ما أذكر وهي تتناول ذات الفكرة.. البحث عن جثمان الزعيم الذي أغرقته المياه وتسخير الناس لهذا الأمر مع الفارق في قصة (البحث عن جثمان) من مجموعة (هذيان الشيخ) التي نعرض لها.

وأنظر إلى قصة (الدور السادس عشر)، الفقرة الخامسة والسادسة، فأجدهما غاية في الجمال والدقة معًا. الجمال الفني الذي تحسه بتحرك النعش وهروب الناس من المسجد وترك صلاتهم، وأيضاً تجربة أن يتحول الرجل إلى أنثى والأنثى إلى رجل ليقوم الأخير بما تقوم به الأولى! فيحمد الله على عطاياه. غاية في الدقة وإيحاء يفيد التشبث بعقيدة الإيمان بالقضاء والقدر وقيمة الرضى وأن اختيار الله هو الاختيار.

غير أني أسمع صوت الكاتب باستمرار في دفاعه عما يعتقده ويراه ــــ وهذا حقه في أي عمل من الأعمال ـــــ بخلاف الرواية أو القصة القصيرة.

صحيح أن العمل الأدبي هو صاحبه ــــ كما يقول (دستوفسكي) الكاتب الروسي الشهير ــــ ومعناه أن الكاتب يكتب نفسه، وكاتبنا ـــ في بعض ما كتب ــــ نكاد نسمع توجيهاته لا توجيهات أبطاله. ونسمع رؤيتهم التي هي رؤيته. ودفاعهم الذي هو دفاعه. وكان الأولى به أن يقف بعيداً ويكتفي بالهمس.

ثم هناك أيضاً التأثر الشديد بالكلمات العربية الفصيحة والتشبيهات القوية التي تثقل العمل الفني رغم جمالها الأخاذ مثل:

- ثم سحبني من بساط النعاس السهد والأرق.

- أعرني انتباهك.

- كان يرقى السلم وثباً... وغيرها كثير.

وكذا الاستشهاد بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية بكثرة لتأكيد المفهوم الذي يريده.

إذن، أعتقد أنني أمام لوحات قصصية تعري واقع أليم على المستوى الفردي والجماعي فنرى الجحود في بعضها ونرى الرضا في البعض الآخر أما أجمل لوحة فهي ما يرسمه الكاتب بريشة الرسام عن الطغيان وشهوة السلطة والانتقام ورجال السلطان من العلماء وأهل الفتوى الذين يقول فيهم الدكتور مصطفى محمود رحمه الله: "تحت التراب يلتقي كل الجبابرة إلى جوار ضحاياهم حيث يتمدد القاتل إلى جوار القتيل والسيد إلى جوار العبد في غفوة عميقة.. إلى نفخة الصور ولا أحد يعتبر ولا أحد يتذكر هذه اللحظة ولا أحد يدرك أنه ميت لا محالة وأنه سوف يبعث ويسأل حيث لا يكون هناك ملك ولا سلطان لأحد إلا الله" ولعل هذه الكلمة تفيد كل من يجد في نفسه شبهاً لنموذج (هذيان الشيخ) الذي قدمه المؤلف في مجموعته.

ويهمني هنا أن أشير إلى كلمة الناقدة الأديبة الدكتورة "نهى الزيني" صاحبة القلم الحي الذي يمتعنا من سنين مضت فعرفناها كاتبة من طراز متين إذ تجمع بين قوة الحياة وقوة الفكر وقد جاءت كلمتها عن (المجموعة) لتدلنا على مكانة أدبية رفيعة.

وقبل أن أنهي الحديث عن المجموعة أسأل الكاتب: لماذا لا يجرب كتابة الرواية فلديه نفس طويل يصلح لتنمية الحوادث وتركيبها، ولديه ـــ إذا أراد ــــ المهالك التي يمكن أن يقع فيها الشيخ الذي يهذي لنرى مصارع علماء السلطة ونهاياتهم المؤسفة.

يبقى بعد ذلك حديث المؤلف عن الحداثة وما بعد الحداثة وقد جاء رفضه في غاية الوضوح ضمن التدخل المباشر الذي لم يستطع الكف عن البوح به في كثير من القضايا المثارة وهي لازمة لأصحاب العواطف القوية وأحسبه منهم لأن التخلص من العاطفة من الأمور الصعبة وكذلك التخلص من الذاتية، فالكاتب يكتب نفسه كما يقول الأديب الروسي دستوفسكي، نعم الكاتب يكتب نفسه وقد قرأنا عبد الرحمن هاشم في مجموعة هذيان الشيخ.

* دار النشر للجامعات ط 2014 ــــ القاهرة.