البعد الإسلامي في شعر النابغة الشيباني

( ت 125ه/ 743م )

عمر محمد العبسو

شاعر بدوي من شعراء العصر الأموي .

هو عبد الله بن المخارق بن سليم بن حضيرة بن قيس من بني شيبان قوم الإمام أحمد بن حنبل، والإمام محمد بن الحسن الشيباني، والمثنى.. وغيرهم من الأفذاذ .

كان يفد إلى الشام، فيمدح الخلفاء من بني أمية، ويجزلون له العطاء .

مدح عبد الملك بن مروان ، ومن بعده من ولده .

وله في الوليد مدائح كثيرة .

مات في أيام الوليد بن يزيد عام 125ه/ 743م .

له ديوان شعر مطبوع بتحقيق أستاذنا د . عبد الكريم يعقوب وهو رسالة دكتوراه مقدمة في جامعة القاهرة بإشراف العلامة د . شوقي ضيف – رحمه الله - .

البعد الإسلامي في شعر النابغة الشيباني :

يؤكد الشاعر النابغة الشيباني بأن الذي يمنعه من المعاصي والركض وراء الشهوات هو الخوف من الله ، فيقول :

وَتُعجِبُني اللَـــذّاتُ ثُمَّ يَعُـــــوجُني               وَيَستُرُني عَنها مِــــــــنَ اللَهِ ساتِرُ

وَيُزجُرُني الإِسلامُ وَالشَيبُ وَالتُقى         وَفي الشَيبِ وَالإِسلامِ لِلمَرءِ زاجِرُ

أسماء الله الحسنى :

التوحيد ثلاثة أقسام : توحيد الألوهية ، وتوحيد الربوبية ، وتوحيد الصفات ، والشاعر كما يتضح من خلال شعره مؤمن موحد، فلنستمع إليه، وهو يقول :

وَقُلتُ وَقَد مَرَّت حُتوفٌ بِأَهـلِها         أَلا لَيسَ شَيءٌ غَيرَ رَبِّيَ غابِرُ

هُوَ الباطِنُ الرَبُّ اللَطيفُ مَكانُهُ            وَأَوَّلُ شَـــــــيءٍ رَبُّنا ثُمَّ آخِرُ

كَريمٌ حَليمٌ لا يُعَقَّبُ حُكـــــمُهُ         كَثيرُ أَيادي الخَيرِ لِلذَّنبِ غافِرُ

يُنِيمُ حَصادَ الزَرعِ بَعدَ اِرتَفاعِهِ             فَتَفنى قُرونٌ وَهوَ لِلزَرعِ آبِرُ

فهو يؤكد أن كل شيء للفناء أما الباقي فهو الله، ويعدد صفات الله الحسنى مثل الباطن ، اللطيف، الأول والآخر ، كريم، حليم ، لا يرد حكمه، خيره عميم ، غافر الذنب، وهو الذي ينبت الزرع ثم يجعله حصيداً كأن لم يغن بالأمس ، ويقدم النابغة الشيباني النصيحة لإخوانه من المسلمين ، ويذكرهم بالبعث والنشور ، والوقوف بين يدي الله سبحانه وتعالى :

أَلا أَيُّها الإِنسانُ هَل أَنتَ عامـــِلٌ        فَإِنَّكَ بَعدَ المَوتِ لا بُدَّ ناشِرُ

أَلَم تَرَ أَنَّ الخَيرَ وَالشَــــــــــرَّ فِتنَةٌ                ذَخائِرُ مَجزِيٌّ بِهِنَّ ذَخائِرُ

وَمَن يَعمَلِ الخَيراتِ أَو يُخطِ خالِياً          يُجازُ بِها أَيّامَ تُبلى السَرائِرُ

وَجَدتُ الثَراءَ وَالمُصيباتِ كُلَّها               يَجيءُ بِها بَعدَ الإِلهِ المَقادِرُ

فَإِن عُسرَةٌ يَوماً أَضَرَّت بِأَهلِها            أَتَت بَعدَها مِمّا وُعِدنا المَياسِرُ

وَمَن يُنصِفِ الأَقوامَ ما فاتَ قاضِياً     وَكُلُّ اِمرىءٍ لا يُنصِفُ اللَهَ جائِرُ

يُعَذَّرُ ذو الدَينِ الطَلوبِ بِدَينِهِ            وَلَيسَ لِأَمرٍ يَظلِمُ الناسَ عاذِرُ – الديوان : ص 67 ، 68 .

فهو يؤكد في وصيته السابقة أن الخير والشر فتنة وهذا المعنى مأخوذ من القرآن الكريم ، وأن من يعمل الحسنات أو السيئات وهو في الخلوة فإنه محاسب عليها لأن عين الله لا تنام، ويؤكد الشاعر على عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر، فالثراء والمصائب كلها من الله، ويؤكد أنه من الممكن أن نعذر من يطالب بديونه، ولكن لا عذر لمن يظلم الناس ويعتدي عليهم ، وكذلك يتضح لنا تأثره بالقرآن في قوله :

فإن عسرة يوماً أضرّت بأهلها    أتت بعدها ممّا وُعدنا المياسر

فهو المعنى مأخوذ من قوله تعالى : إن مع العسر يسراً .

وقال النابغة الشيباني مفتخراً بأخلاقه الإسلامية ، فهو ينصح للناس ، ويطلب حاجته من غير فحش ، فهو عفيف اللسان ، يألف، ويؤلف، ولا يخشى الناس غدره وجهله :

وَلَستَ إِذا عَرا ظُلمي صَديقي         إِذا مادامَ مِن وُدّي بِبَشِّ

وَأَنصَحُ لِلنَّصيحِ إِذا اِستَراني           وَأُرفِدُ ذا الضَغينَةِ شَرَّ غِشِّ

وَتَأتيني قَوارِصُ عَن رِجالٍ            فَأُبلِغُ حاجَتي في غَيرِ فَحشِ

وَأُدرِكُ صالِحَ الأَوتارِ عَفواً             بِعَونِ اللَهِ في طَلَبي وَنَجشي

أَبي لي ما غَلِبتُ بِهِ الأَعادي        عَطاءُ اللَهِ مِن شِعري وَبَطشي

فَلا يَخشى ذَوو الأَحلامِ جَهلي     وَلا أُرعي عَلى البَذِخِ الغِطَمشِ

الخمرة :

ثم يقول مقسماً بالله الواحد الذي لا شريك له ، لولا الخوف من الله لعاقرت  الخمرة، ويفتخر بأخلاقه الإسلامية الحميدة التي تجلب له الحمد لا الشتيمة يوم يحمل على الأعناق :

لَولا اللَهُ لَيسَ لَهُ شَــــــريكٌ             إِلَهُ الناسِ ذو مُلكٍ وَعَرشِ

لباكَرَني مِنَ الخُرطومِ كَأسٌ             تَكادُ سُؤورُ نَفحَتِها تُنَشّي

تَدِبُّ لَها حُمَيا حينَ تَنمي               وَيَنفَحُ ريحُها عِندَ التَجَشّي

يُباعُ الكَأسُ مِنها غَيرَ صِرفٍ            بِصافِيَةٍ مِنَ الأَوراقِ حُرشِ

وَإِنَّ خَلائِقي حَسُنَت وَطابَت         كِرامٌ لا يُسَبُّ بِهِنَّ نَعشي – الديوان : ص 76 ، 77 .

فهو يمتنع عن شرب الخمرة خوفاً من الله ، وليس نتيجة الفقر والفاقة ، وكلام الناس

التركيز على المعاني الإسلامية في مديحه :

يمدح النابغة أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك، ويسبغ عليه الأوصاف الإسلامية، فهو خليفة الله في أرضه، مبارك يستستقى به الغمام، طاهر الثياب :

خَليفَةَ اللَهِ يُستَسقى الغِمامُ بِهِ          ما مَسَّ أَثوابَهُ مِـــن غَدرَةٍ دَنَسُ

مَلكاً هُماماً يَجيلُ الأَمرَ جائِلَهُ               إِذا تَحَيَّرَ عِندَ الخُطَّةِ الهَــــــوِسُ

دانَت لَهُ عَرَبُ الآفاقِ خَشيَتَهُ            وَالرومُ دانَت لَهُ جَمعاءُ وَالفُرُسُ

خافوا كَتائِبَ غُلباً أَن تُطيفُ بِهِم         لِلسابِغاتِ عَلى أَبطالِها جَرَسُ

بِهِنَّ تَحوي سُبِيّاً ثُمَّ تَقسِمُها           كَما يَصِيدُكَ وَحشَ القَفرَةِ الفَرَسُ

قَسراً عَدَّوَكَ إِنَّ الضِغنَ قاتلُهُم            وَإِنَّهُم إِن أَرادوا غَدرَةً تَعِسوا

فهو يقتبس بعض معانيه من الآية الكريمة :صم بكم فهم لا يبصرون،حيث يقول :

لا يُبصِرونَ وَفي آذانِهِم صَمَمٌ               إِذا نَعَشتَهُمُ مِن فِتنَةٍ رَكَسوا

هُمُ الَّذينَ سَمِعتُ اللَهَ أَوعَدَهُم          والمُشرِكونَ وَمَن لَم يَهوَكُم نَجَسُ

فهو يذم أعداء الخليفة فهم فسقة فجرة ومشركون أنجاس، وهذه معانٍ قرآنية ( إنما المشركون نجس ) .

وقال في مدح الخليفة الوليد بن عبد الملك، ويؤكد على وصفه بأمير المؤمنين ويبين حقوقه التي منحه الله إياه ألا وهي التفضيل والتشريف، ويشيد بجهاده المتواصل فيقول من ( البسيط) :

إِنَّ الوَليدَ أَميرَ المُـــــؤمِنينَ لَهُ             حَقٌّ مِــنَ اللَهِ تَفضيلٌ وَتَشريفُ

خَليفَةٌ لَم يَزَل يَجري عَلى مَهَلٍ         أَغَرُّ تَنمي بِهِ البِيضُ الغَطاريفُ

لا يُخمِدُ الحَربَ إِلّا رَيثَ يُوقِدُها          في كُلِّ فَجٍّ لَهُ خَيل مَسانيفُ

وأشاد بشجاعته في مواجهة الكفار، وموقفه من النصارى الذين كانوا يظهرون خلاف ما يضمرون :

فَأَهلُها بَينَ مَقتولٍ وَمُستَلَبٍ              وَمِنهُمُ مُوثَقٌ في القِدِّ مَكتوفُ

يا أَيُّها الأَجدَعُ الباكي لِمَهلَكِهِم    هَل بَأسُ رَبِّكَ عَن مَن رامَ مَصروفُ

تَدعو النًصارى لَنا بِالنَصرِ ضاحِيَةً        وَاللَهُ يَعلَمُ ما تُخفي الشَراسيفُ

ويشير الشاعر إلى هدم كنيسة النصارى بدمشق، فقد قام الوليد بضمها إلى المسجد ، سنة 86 هـ، لأسباب رآها توجب ذلك :

قَلَعتَ بِيعَتَهُم عَن جَوفِ مَسجِدِنا      فَصَخرُها عِن جَديدِ الأَرضِ مَنسوفُ

كانَت إِذا قامَ أَهلُ الدينِ فَاِبتَهَلوا         باتَت تُجـــــــــــــاوِبُنا فيها الأَســــــــــــــــــــــــاقيفُ

أَصواتُ عُجمٍ إِذا قاموا بِقُربَتِهِم            كَما تُصَوِّتُ في الصُبحِ الخَطاطيفُ

يبين الشاعر هنا أسباب هذا العمل الذي قام به الخليفة وهو أنهم كلما حان وقت الصلاة راح الأساقفة يعلون أصواتهم ليشوشوا على المصلين في المسجد الأموي، ويصور النابغة الشيباني روعة البناء والزخرفة في ذلك المسجد العامر فيقول :

فَاليَومَ فيهِ صَلاةُ الحَقِّ ظاهِرَةٌ                 وَصـــــــادِقٌ مِن كِتابِ اللَهِ مَعروفُ

فيهِ الزَبَرجَدُ وَالياقوتُ مُؤتَلِقٌ                وَالكِلسُ وَالذَهَبُ العِقيانُ مَرصوفُ

تَرى تَهاويلَهُ مِن نَحوِ قِبلَتِنا                       يَلوحُ فيهِ مِـــــــن الأَلوانِ تَفويفُ

يَكادُ يُعشي بَصيرَ القَومِ زِبرِجُهُ                  حَتّى كَأَنَّ سَوادَ العَين مَطروفُ

وَفِضَّةٌ تُعجِبُ الرائينَ بِهجَتُها                     كَريمُها فَوقَ أَعلاهُنَّ مَعطوفُ

وَقُبَّةٌ لا تَكادُ الطَيرُ تَبلُغُها                     أَعلى مَحاريبها بِالساجِ مَسقوفُ

لَها مَصابيحُ فيها الزَيتُ مِن ذَهَبٍ             يُضيءُ مِن نورِها لُبنانُ وَالسِيفُ

فَكُلُّ إِقبـــــــــالِهِ وَاللَهُ زَيَّنَهُ                            مُبَطَّنٌ بِرُخامِ الشامِ مَحفوفُ

في سُرَّةِ الأَرضِ مَشدودٌ جَوانِبُهُ          وَقَد أَحاطَ بِهِ الأَنهارُ وَالريفُ

فيهِ المَثاني وَآياتٌ مُفَصَّلَةٌ                  فيهِنَّ مِن رَبِّنا وَعدٌ وَتَخويفُ

تَمَّت قَصيدَةُ حَقٍّ غَيرَ ذي كَذِبٍ     في حَوكِها مِن كَلامِ الشِعرِ تَأليفُ

قَوَّمتُ مِنها فَلا زَيغٌ وَلا أَوَدٌ               كَمــــا أَقامَ قَنا الخَطِّيِّ تَثقيفُ

وقال في مدح الخليفة يزيد بن عبد الملك :

تَنتَوي مِن يَزيدَ فَضلَ يَدَيهِ              أَريَحِيّاً فَرعاً سَمينَ الفَعالِ

ويشيد بنسبه القرشي الطاهر، ثم يعود إلى وصفه بالصفات الإسلامية المستمدة من القرآن والسنة :

أُعطي الحِلمَ وَالعَفافَ مَع الجو      دِ وَرَأياً يَفوقُ رَأيَ الرِجالِ

وَحَباهُ المَليكُ تَقوىً وَبِرّاً          وَهوَ مِن سوسِ ناسِكٍ وَصّالِ

الخليفة العابد :

وأشاد بعبادة الخليفة وصلاته وقيامه الليل وابتهاله :

يَقطَعُ اللَيلَ آهَةً وَاِنتِحاباً              وَاِبتِـــــهالاً لِلَّهِ أَيَّ اِبتِهالِ

راعَهُ ضَيغَمٌ مِن الأُسدِ وَردٌ           جا بِلَيلٍ يَهيسُ في أَدعالِ

تارَةً راكِعاً وَطوراً سُجوداً             ذا دُموعٍ تَنهَلُّ أَيَّ اِنهِلالِ

وهذا الأمير يقضي ليله قارئاً للقرآن، ويمتاز حكمه بالعدل والقسط، وهو، وفيٌّ بالعهود، محسنٌ تقيٌّ قوي :

وَلَه نَحبَةٌ إِذا قامَ يَتلو                   سُوَراً بَعدَ سورَةِ الأَنفالِ

عادِلٌ مُقسِطٌ وَميزانُ حَقٍّ           لَم يَحِف في قَضائِهِ لِلمَوالي

موفِيّاً بِالعُهودِ مِن خَشيَةِ اللَــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه وَمَن يَعفُهُ يَكُن غَيرَ قالِ

مُحسِنٌ مُجمَلٌ تَقِيٌّ قَوِيٌّ           وَهُوَ أَهلُ الإِحسانِ وَالإِجمالِ

لَيسَ بِالواهِنِ الضَعيفِ وَلا القَحـ         مِ وَلا مُودَنٍ وَلا تِنبالِ

تَمَّ مِنهُ قَوامُهُ وَاِعتِدالُ الــ             خَلقِ وَالرَأيُ بِالأُمورِ الثِقالِ

والأمير راجح العقل، حسن الخَلق والخُلق، معتدل القوام، جميل المنظر والمخبر، وأما جوده وكرمه فحدث عن البحر ولا حرج :

وَهُوَ مَن يَعفُهُ يُنِخ بِكَريمٍ           يَلقَ جوداً مِن ماجِدٍ مِفضالِ

مِثلَ جودِ الفُراتِ في قُبُلِ الصَيـ         فِ تَرامى تَيّارُهُ بِالجُفالِ

موقفه من ابن الزبير :

وقال النابغة الشيباني يمدح الخليفة الأموي لأنه خلص الأمة من عائلة الزبير بن العوام – رضي الله عنهم -، وهذا المطبّ لم ينج منه حتى الشعراء الذين عرف عنهم التدين والالتزام مثل جرير.. وغيره حيث وقعوا في ذمّ الصحابي عبد الله بن الزبير، ومدحوا الحجاج ، والملوك إرضاء لبني أمية وطمعاً بما عندهم :

أَزَحتَ عَنّا آلَ الزُبيرِ وَلَو          كانَ إِمامٌ سِواكَ ما صَلَحوا

تَسوسُ أَهلَ الإِسلامِ عُملَتَهُم      وَأَنتَ عِندَ الرَحمنِ مُنتَصَحُ

إِن تَلقَ بَلوى فَصابِرٌ أَنِفٌ          وَإِن تُلاقِ النُعمى فَلا فرِحُ

الحكمة المستمدة من تعاليم الإسلام :

إن الحكمة ضالة المؤمن فأنى وجدها فهو أحق الناس بها ، وها نحن نجدُ النابغة الشيباني، ناصحاً للناس، ومقدماً لهم الحكمة التي اكتسبها من تجاربه في هذه الحياة، ومن تجارب الآخرين، وأخذ بعضها من تعاليم الدين الحنيف ، ولقد أحسن الشاعر في اختياره البحر (الطويل) ؛ لأنه يتسع لجميع أغراض الشعر :

ما الناسُ إلّا في رِماقٍ وَصالِحٍ         وَما الدَهرُ إِلّا خِلفَةٌ وَدُهورُ

مَراتِبُ أَمّا البُؤسُ مِنها فَزائِلٌ            وَكُلُّ نَعيمٍ في الحَياةِ غُرورُ

الشَرُّ لا يَبقى وَلا الخَيرُ دائِمٌ              وَكُلُّ زَمانٍ بِالرِجالِ عَثورُ

وَأَعلَمُ أَن لا شَيءَ يَبقى مُؤَمَّلاً         خَلا أَنَّ وَجهَ اللَهِ لَيسَ يَبورُ

ويدعو إلى ربط الأقوال بالأفعال، ويحذر المسلمين من القول دون فعل لكي لا يقعوا في محظور قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون، كبر مقتاً عند الله أن تقولوا مالا تفعلون .

أَلا رُبَّ ناهٍ عَنِ أُمـــــورٍ وَإِنَّهُ                 بِأَيِّ أُمـــــورٍ مِثلِها لَجَديرُ

وَما الناسُ في الأَخلاقِ إِلّا غَرائِزٌ       كَما الشِعرُ مِنهُ مُصلِدٌ وَغَزيرُ

وَغُرٍّ كِرامٍ مُحصَناتٍ يَقودُها                لِمَنكَحِ لُؤمٍ ضَيعَةٌ وَمُهورُ

وَضَرُّكَ مَن عادَيتَ أَمرُ قِوايَةٍ              وَحَزمٍ وَضَرُّ الأَقرَبينَ فُجورُ

وَقِيلُكَ قَد أَبصَرتُ شَيئاً جَهِلتَهُ            لِذي حَنَقٍ عِندَ الحَمِيَّةِ بورُ

وَكَيفَ تُسِرُّ الفَخرَ في غَيرِ كُنهِهِ        وَفي أَنفُسِ الأَقوامِ أَنتَ حَقيرُ

وَكائِن تَرى مِن كامِلِ العقلِ يُزدَري   وَمِن ناقِصِ المَعقولِ وَهوَ جَهيرُ

وَمِنهُم قَصيرٌ رامَ مَجداً فنالَهُ             وَآخَرُ هَيقٌ في الحِفاظِ قصيرُ

وَمِن طالِبٍ حَقّاً بِفَحشٍ يَفوتُهُ             وَمُدرِكِهِ بِالحَقِّ وَهوَ سَتيرُ

وَإِنّي لَأَبري العِيسَ حَتّى كَأَنَّها       مِنَ الجَهدِ مِن طَيِّ التَنائِفِ عَورُ

وَأَكتُمُ سِرَّ النَفسِ حَتّى أُمِيتَهُ        وَلَيسَ لِمَن يُحيي السَريرَ ضَميرُ

وقال النابغة الشيباني يرد على الشامتين بالموت، ويقول لهم ذلك أمر الله الذي لا يرد :

إِذا ما المَرءُ غالَتهُ شَعوب           فَما لِلشامِتِينِ بِهِ خُلودُ

وَكُلُّ مُنَعَّمٍ وَأَخي شَـــقاءٍ              وَمُثرٍ وَالمُقِلُّ مَعاً يَبيدُ

إِذا ما لَيلَةٌ مَرَّت وَيَومٌ                أَتى يَومٌ وَلَيلَتُهُ جَديدُ

أَبارَ الأَوَّلينَ وَكُلَّ قَــــــــرنٍ             وَعاداً مِثلَما بارَت ثَمودُ

وَلا يُنجي مِنَ الآجالِ أَرضٌ      يُحَلُّ بِها وَلا القَصرُ المَشيدُ

فهو يذكرنا بقوله تعالى : أينما تكونوا يدرككم الموت، ولو كنتم في بروج مشيدة، ويحكي قصة هلاك عاد وثمود :

وَما لا بُدَّ مِنهُ سَوفَ يَأتي             وَلكِنَّ الَّذي يَمضي بَعيدُ

وَجَدتُ الناسَ شَتّى شِيمَتاهُم         غَوِيٌّ وَالَّذي يُهدى رَشيدُ

مُريدُ الذَمّ مَذمومٌ بَخيلٌ              وَمُعطي المال مُنتَجَبٌ حَميدُ

يُراحُ إِلى الثَناءِ لَهُ ثَناءٌ                 عَلى مَهَلٍ إِذا بَخِلّ الزَهيدُ

وَخَيرُ الناسِ في الدُنيا صَنيعاً         عَلى العِلّاتِ مِتلافٌ مُفيدُ

سعادة التقوى :

ليست السعادة بجمع المال والجاه ولكن السعادة تكمن في تقوى الله :

وَلَستُ أَرى السَعادَةَ جَمعَ مالٍ         وَلكِنَّ التَقِيَّ هُوَ السَعيدُ

وَتَقوى اللَهِ خَيرُ الزادِ ذُخراً              وَعِندَ اللَهِ لِلأَتقى مَزيدُ

صلة الرحم :

ويدعو إلى صلة الأرحام ويحذر من قطيعة الرحم، لأنها مشتقة من اسم الله الرحمن، ومن قطعها قطعه الله :

وَوَصلُ الأَقرَبينَ سَبيلُ حَقٍّ             وَقَطعُ الرِحمِ مُطَّلَعٌ كَؤودُ

الجود والبخل :

ويؤكد أن البخل لا يزيد الثراء، كما أن الجود لا ينقص المال بل يبارك فيه :

وَلا يُعطى الحَريصُ غِنىً لِحِرصٍ       وَقَد يَنمي لِذي الجودِ الثَراءُ

غَنِيُّ النَفسِ ما اِستَغنَت غَنِيٌّ        وَفَقرُ النَفسٍ ما عَمِرَت شَقاءُ

السناء والرفعة :

إذا اتصف الإنسان المسلم بالحياء، ونشأ على الحلم، صار سيد قومه وحظي باحترامهم :

إِذا اِستَحيا الفَتى وَنَشا بِحِلمٍ             وَسادَ الحَيذَ حالَفَهُ السَناء

وَلَيسَ يَسودُ ذو وَلَدٍ وَمالٍ             خَفيفُ الحِلمِ لَيسَ لَهُ حَياءُ

وَمَن يَكُ ذا حَياً لَم يُلقِ بُؤساً              يَنُخ يَوماً بِعَفوَتِهِ البَلاءُ

تَعاوَرَهَ بَناتُ الدَهرِ حَتّى                   تُثَلِّمَهُ كَما اِنثَلَمَ الإِناءُ

الأمل بزوال الشدة :

الشدة لا تدوم ولا بدّ أن يعقبها الرخاء، كما أن الحذر لا ينجي من القدر، والبكاء لا يرجع الأموات :

فَكُلُّ شَديدَةٍ نَزَلَت بِحَيٍّ                 سَيَأتي بَعدَ شِدَّتِها الرَخاءُ

فَقُل لِلمُتَّقي حَدَثَ المَنايا                 تَوَقَّ فَلَيسَ يَنفَعُكَ اِتِّقاءُ

وَلا تُبكِ المُصابَ وَأَيُّ حَيٍّ               إِذا ما ماتَ يُحييهِ البُكاءُ

وَقُل لِلنَفسِ مَن تُبقي المَنايا                فَكُلُّ حينٍ يَنفَعُها العَزاءُ

تَعَزَّي بِالأَسى في كُلِّ حَيٍّ                فَذلِكَ حينَ يَنفَعُها العَزاءُ

سَتَفنى الراسِياتُ وَكُلُّ نَفسٍ                وَمالٍ سَوفَ يَبلُغُهُ الفَناءُ

يُعَمَّرُ ذو الزَمانَةِ وَهُوَ كَلٌّ                عَلى الأَدنى وَلَيسَ لَهُ غَناءُ

وَيَردى المَرءُ وَهُوَ عَميدُ حَيٍّ                وَلَو فادَوهُ ما قُبِلَ الفِداءُ

إِذا حانَت مَنِيَّتُهُ وَأَوصـــى                   فَلَيسَ لِنَفسِهِ مِنها وِقاءُ

الأخوة في الله :

الأخوة إذا قامت على المصالح الدنيوية من مال وجاه سوف تنقلب إلى عداوة سواء في الدنيا أو الآخرة أما الأخوة في الله فهي باقية :

وَكُلُّ أُخُوَّةٍ في اللَهِ تَبقى                  وَلَيسَ يَدومُ في الدُنيا إِخاءُ

أَصِب ذا الحِلمِ مِنكَ بِسَجلِ وُدٍّ         وَصِلهُ لا يَكنُ مِنكَ الجَفاءُ

وَلا تَصِلِ السَفيهَ وَلا تجِبهُ               فَإِنَّ وِصالَ ذي الخَرَباتِ داءُ

وَإِنَّ فراقَهُ في كُلِّ أَمـــــــرٍ                      وَصَرمَ حِبالِ خُلَّتِهِ شِفاءُ

إكرام الضيف :

من أكرم ضيفاً، وهو يعرفه فكأنما أكرم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ومن أكرم ضيفاً، وهو لا يعرفه فكأنما أكرم الله تعالى :

وَضَيفَكَ ما عمرتَ فَلا تُهِنهُ                  وَآثِرهُ وَإِن قَلَّ العَشاءُ

وَلا تَجعَل طَعامَ اللَيلِ ذُخراً                حِذارَ غَدٍ لِكُلِّ غَدٍ غداءُ

وَكُلُّ جِراحَةٍ تُوسى فَتَبرا                  وَلا يَبرا إِذا جرَحَ الهَجاءُ

يُؤَثِّرُ في القُلوب لَهُ كُلومٌ                كَداءِ المَوتِ لَيسَ لَهُ دَواءُ

ويؤكد على معنى قوله تعالى : فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض، ويشن هجوماً على شعراء الفساد والعري والمجون، فيقول :

وَحَوكُ الشِعرِ ما أَنشَدتَ مِنهُ             يُزايِلُ بَينَ مُكفَئِهِ الغِناءُ

فَيَنفي سَيِّىءَ الإِكفاءِ عَنهُ             كَما يُنفى عَنِ الحَدَبِ الغُثاءُ

غُثاءُ السيلِ يَضرَحُ حَجرَتَيهِ                 تَجَلَّلهُ مِنَ الزَبَدِ الجُفاءُ

مِنَ الشُعَراءِ أَكِفّاءٌ فُحولٌ                وَفَرّاثونَ إِن نَطَقوا أَساءوا

الغنى والفقر :

وقال النابغة الشيباني مبيناً أن من أسباب عفته الحلم والسيب والعقل ونهي الله عن الضلال ، ويرى النابغة أن الفقر والغنى والأجل بيد الله:

كَفَّني الحِلمُ وَالمَشِيبُ وَعَقلي       وَنُهى اللَهِ عَن سَبيلِ الضَلالِ

وَأَرى الفَقرَ وَالغِنى بِيَدِ اللَــ          هِ وَحَتفَ النُفوسِ في الآجالِ

لَيسَ حَيٌّ يَبقى وَإِن بَلَغَ الكَبـــــ               رَةَ إِلّا مَصِيرُهُ لِزَوالِ

كُلُّ ثاوٍ يَثوي لِحينَ المَنايا                كَجَزورٍ حَبَستَها بِعِقالِ

كل شيء هالك إلا وجهه :

إذا مات جميع الناس فإن الله حي لايموت ، ويتحدث الشاعر عن الجزاء والعقاب يوم الحساب فيقول :

إِن تَمُت أَنفُسُ الأَنامِ فَإِنَّ الـ          لَهَ يَبق وَصالِحَ الأَعمالِ

كُلُّ ساعٍ سَعى لِيُدرِكَ شَيئاً      سَوفَ يَأتي بِسَعيِهِ ذا الجَلالِ

فَهُمُ بَينَ فائِزٍ نالَ خَيراً                 وَشَقِيٍّ أَصــــــابَهُ بِنَكالِ

الصراع بين الخير والشر :

إن العداوة مستحكمة بين أهل الخير وأصحاب الشر والضلال، وهي باقية ما دام الليل والنهار :

فَوُلاةُ الحَرامِ مَن يَعمَلُ السو       ءَ عَدُوٌّ حَربٌ لِأَهلِ الحَلالِ

مراقبة الله :

إذا خلا الإنسان بالمعاصي فليتذكر أن الله مطلع عليه، وقد اوكل إليه الملكين رقيب وعتيد يحصيان سكناته وحركاته :

إِنَّ مَن يَركَبُ الفَواحِشَ سِرّاً       حينَ يَخلو بِسوءَةٍ غَيرُ خالِ

كَيفَ يَخلو وَعِندَهُ كاتِباهُ             شاهِدَيهِ وَربَهُ ذو المِحالِ

فاتق الله يا أخا الإسلام، والتقوى هي فعل الأوامر وترك النواهي، ثم هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل، فالتقوى هي السلاح الأقوى، ويوصيه بالحلم والأناة والتروي، فيقول :

فَاِتَّقِ اللَهَ ما اِستَطَعتَ وَأَحسِن      إِنَّ تَقوى الإِلهِ خَيرُ الخِلالِ

وَإِذا كُنتَ ذا أَناهٍ وَحِــــــلمٍ             لَم تَطِر عِندَ طَيرَةِ الجُهّالِ

وَإِذا ما أَذَلتَ عِرضَكَ أَودى         وَإِذا صِينَ كانَ غَيرَ مُذالِ

ويحذر من غثاء الشعر والغزل الفاحش، فيقول :

ثُمَّ قُل لِلمُريدِ حَوكَ القَوافي         إِنَّ بَعضَ الأَشعارِ مِثلُ الخَبالِ

أَثقِفِ الشِعرَ مَرَّتَينِ وَأَطنِب        في صُنوفِ التَشبيبِ وَالأَمثالِ

الشباب شعبة من الجنون :

وبين زوال الشباب وقدوم المشيب، وتحدث عن دور التقوى في محو السيئات ؛ لأن الشباب شعبة من الجنون فقال من ( البسيط) :

بانَ السَفاءُ وَأَودى الجَهلُ وَالسَرَفُ      وَفي التُقى بَعدَ إِفراطِ الفَتى خَلَفُ

وَقَد كَسانِيَ شَيباً قَد غَنِيتُ بِهِ               مَرُّ اللَيالي مَعَ الأَيّامِ تَختَلِفُ

قالَت لِيَ النَفسُ سِرّاً إِذ خَلَوتُ بِها         وَالنَفسُ صادِقَةٌ لَو أَنَّها تَقِفُ

ذَرِ الشَبابَ فَلا تَتبَع لَذاذَتَهُ                 إِنَّ الَّذي يَتبَعُ اللَذّاتِ مُقتَرِفُ

إِنَّ الشَبابَ جُنونٌ شَرخُ باطِلِهِ               يُقيمُ غَضّاً زِماناً ثُمَّ يَنكَشِفُ

مَن يَعلُهُ الشَيبُ لَم يُحدِث لَهُ عِظَةً      فَذاكَ مِن سوسِهِ الإِفراطُ وَالعُنُفُ

فمن لم يتعظ بالشيب الذي يعلو رأسه لم تنفعه المواعظ .

الحسب والدين :

وينصح الشاعر النابغة الشيباني أحبابه بصحبة أهل الحسب والدين لأنهم أهل الوفاء فيقول من (الوافر) :

عَلَيكَ بِكُلِّ ذي حَسَبٍ وَدينٍ           فَإِنَّهُمُ هُـــــمُ أَهلُ الوَفاءِ

وَإِن خُيِّرتَ بَينَهُمُ فإلصَق             بِأَهلِ العَقلِ مِنهُمُ وَالحَياءِ

فَإِنَّ العَقلَ لَيسَ لَهُ إِذا ما           تَفاضَلَتِ الفَضائِلُ مِن كِفاءِ

احذر من النّمام :

ويحذر النابغة من صحبة النمام ؛ لأن من نمّ لك نمّ عليك :

وَلا تَثِقَنَّ بِالنَمّامِ فيما             حَباكَ مِنَ النَصيحَةِ في الخَلاءِ

وَأَيقِن أَنَّ ما أُفضِي إِلَيهِ           مِنَ الأَسرارِ مُنكَشِفُ الغِطاءِ

وأخيراً :

هذه سياحة في رحاب شاعر إسلامي أموي، تشربت روحه من معين الدين الحنيف وتشرب قلبه مبادئ الإسلام وقيمه وأخلاقه، إذا مدح ركّز على المعاني والأخلاق الإسلامية من تقوى وعفاف وقيام الليل ، والرحمة ، والكرم والشجاعة ...ونرى الحكمة تسري في أشعاره سريان الدماء في العروق ، ..والحكمة هي عصارة تجارب الشعوب، وهي ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها، .... .

مصادر البحث :

1-موسوعة الشعر العربي – الإصدار الأول – مؤسسة الشيخ محمد بن راشد المكتوم بدبي .

2-ديوان النابغة الشيباني : ولا سيما مقدمة الدكتور عبد الكريم يعقوب – وزارة الثقافة السورية .