أوراق حسين مردان السرّية

خطوة جديدة مباركة في مشروع الناقد

"شوقي يوسف بهنام"  

د. حسين سرمك حسن

لم يُنصف الشاعر الكبير "حسين مردان" من قبل الثقافة العراقية – وكالعادة – لا في حياته ولا في مماته . وتأتي محاولة الناقد الأستاذ "شوقي يوسف بهنام" – في واحد من وجوهها المهمة – كمحاولة لإنصاف هذا المبدّع المتفرّد والمُجدّد شاعراً وإنساناً .

وبعد صدور كتاب شوقي "حجازي وأحزان البهلوان - رؤية نفسية" عن المنجز الشعري للشاعر "أحمد عبد المعطي حجازي" والذي جاء بعد سلسلة من الكتب التي تناول فيها حقولا معرفية مختلفة بمبضع التحليل النفسي ، والذي كتبتُ مقدّمة مهمة له تناولت فيها أهميّة مشروعه النقدي وجوانبه الإيجابية والسلبية ، لفت انتباهي تصاعد نشاطه وتنوّع نتاجه النقدي بالرغم من الظروف الجحيمية التي يعيشها في وطننا العراق عموماً ومدينة الموصل الحدباء خصوصاً التي حوّلها الطغاة والإرهابيون الدواعش الآن ، والمحتلون الأمريكان والبريطانيون الخنازير قبلهم ، من أم الربيعين إلى أم الجحيمين .. فيا لعارهم وسفالتهم ! .

وفي واحدة من رسائلنا المتبادلة الأخيرة ؛ شوقي وأنا ، وصفت شوقي - نصّاً - بأنه "بطل" ، وأنا أصرّ على هذا الوصف بالرغم من محاولاته النابعة من تواضعه للتقليل من جهده ومن طبيعة عمله المعرفي البطولية . نعم أيّها السادة .. شوقي يوسف بهنام بطل ثقافي وإنساني . لقد طُرد هو وعائلته العراقية المسيحية من مسكنه ومدينته الأم ، وانتقل إلى بيت آخر في مدينة خارج الموصل ، وشاركته العيش في هذا البيت العديد من العوائل العراقية المسيحية المُهجّرة المظلومة ، ليقرأ ويكتب ويبدع وسط محيط خانق ، قلق ، مرعوب ، لا تتوفّر فيه أبسط شروط الكتابة ؛ يكتب مصرّاً على الحياة مقاوماً الموت والعنف والإرهاب وتجزئة وطنه العراق . فتحية له في موقفه البطولي هذا .

وفي هذا الكتاب "من أوراق حسين مردان السرّية" يتجاوز شوقي الكثير من العثرات التي شابت مشروعه في خطواته الأولى ، وهي مسألة طبيعية لأنها من سنن الحياة والخلق ، ليحقق قفزة كبيرة في اتساع الرؤيا والرؤية ، في فلسفة المنهج وتقنيات الكتابة ، حيث نلاحظ التأكيد على التفاعل الخلّاق بين مبدع النصّ والنصّ واشتراطاته الإجتماعية والتاريخية والفكرية . فمن المآخذ التي توجّه إلى المنهج النقدي القائم على أسس التحليل النفسي ، هو أنّ من يمارسه يربط بين النص وكاتبه بصورة "آليّة" محاولاً إثبات أن النصّ يعكس "عُقد" وأفكار وسلوكيات وإحباطات الكاتب من ناحية ، والتأكيد على أنّ النص إنّما هو محاولة للتفريج وإشباع تلك "العُقد" خصوصا الجنسي منها من ناحية أخرى . وفي الحقيقة هذا مأخذ وفّرت مبرراته ، التطبيقات النقدية الفجّة ، وخصوصا المُبكر منها ، بالرغم من أنّه سلوك مُبرّر كخطوات تمهيدية نحو النضج من جانب ، ولتأصيل هويّة المنهج من جانب آخر . في كتاب شوقي هذا حصلت نقلة واسعة إلى موضوعة "الرمز" ودلالاته النفسية الشاملة التي لا تقتصر على المعاني الجنسية فقط ، بل تمتد لتشمل التمظهرات الإجتماعية والتاريخية والحضارية (الثقافية) ، مثلما نما التأكيد على تأثيرات الأفكار النظرية والتوجّهات الأيديولوجية في تحديد الأطار الفكري الذي تُنشأ النصوص وتنضج ضمنه ، وما تحمله من أطروحات تعيد تشكيل السلوك الشعري للمبدع والمضامين والرموز التي تُستثمر لتمريرها . ولعلّ هذا ما عبّر عنه شوقي خير تعبير حين قال في مقدّمة كتابه هذا :

(وما اريد قوله هو إن قراءتي للتجربة الشعرية لحسين مردان هي قراءة تستلهم مفاهيم علم النفس مثل باقي قراءاتي الأخر التي تناولت بها عددا من المنجزات الشعرية الأخر . انني احاول ان اقرأ الشاعر من خلال نصه الشعري . النص هو وليد الذات . وانا لا اعتقد ان هناك نصا نغلا جاء كيفما اتفق . النص وليد الخبرة والتاريخ والذاكرة التي تفاعلت مع خضم حركة الحياة ) .

وبالمقابل يهمني التأكيد على أنني أشاطر شوقي قناعته المنهجيّة بأن علينا أن لا نعتبر التأكيد على حضور المبدع في نصّه ، والبحث في الصلات العميقة التي تمتد بين تجربة الكاتب وشكل ومضمون ما ينجزه ، خطيئة ، بل موجّهاً مهمّاً - من موجّهات قراءة النصوص وتحليلها العميق . وقد رأينا كيف فشلت كل المحاولات الهادفة إلى عزل النص عن مبدعه بالرغم من قوّة أطروحاتها على أيدي البنيويين خصوصاً ، إلى حدّ أن "رولان بارت" مبتكر نظرية "موت المؤلف" قد أعلن عن تراجعه عن هذه الأطروحة وكونها تُطيح بركيزة مركزية في تحليل النص وكشف مكوّناته ورؤاه . يمكننا القول أن جانباً كبيراً من نصوص حسين مردان هي تعبير دقيق وكاشف عن شخصية حسين مردان وعقده السادومازوخية الدفينة ومركّبه الأوديبي وعلاقته المتضادة والتصارعية بالأنموذج الأمومي ، ولكن أفكار حسين مردان وتوجهاته الآيديولوجية والفلسفية كان لها الأثر الكبير في تشكيل الثيمات المركزية لمنجزه الشعري بالرغم من أنّ هذه الأفكار والتوجّهات النظريّة ما هي إلّأ تعبيرات "فوقيّة" للبنية النفسية "التحتيّة" إذا جاز التعبير . لقد كان حسين مردان من جيل قارىء ذي سمة خطيرة تتمثل في أنّ "الكلمة" – خصوصاً الوافدة من الغرب – الوجودية بشكل خاص - ومن التجربة الشيوعية المقاومة آنذاك – كان لها مفعول "سحري" وانقلابي في اللعب بسمات الشخصية وتمظهراتها السلوكية . وللتدليل على ذلك أقول إن شوقي قد وقع في مصيدة اعتبار قصائد حسين مردان عن الحشيش والأفيون والخمر والعقاقير المهلوسة مثل قصيدة "الرجل النحيف" او "دنيا الحشيش" ، و "عالم المورفين" أو "قاع الخارق" ، أو "عملاق من رماد" ، حين اعتبرها نتاج خبرات عملية وتجارب فعلية للشاعر مع تلك المواد وتأثيراتها المخرّبة والمربكة للإدراك الحسّي واستلام وتقييم المحفزّات الواقعية ، في حين أن من يدقّق في النصوص بهدوء سيجد أنّها محاولات محكومة بقراءات حسين وتعلّقه بالصرعات "الإبداعية" وليس بتجربته العمليّة ، حتى أنّه "يترجم" شعريّاً تاثيرات هذه المواد الإدمانية المخدّرة ، ترجمة تصل مستوى كوميدياً خصوصا حين يتحدّث عن "الكبّة" و"الباقلاء" و"الطائر الأعور" الذي تعلّق بساقه ، والميول الجنسية المثلية التي يرى المحللون النفسيون – خصوصا معلم فيينا - أن الخمرة تكشفها لدى المدمنين الكحوليين .

 وقد قال الأستاذ شوقي يوسف بهنام في مقدّمته :

(لا يهمني كثيرا تاريخية المنجز الشعري للشاعر حسين مردان والى أيّ جيل ينتمي على اعتبار اني لست معنيا بذلك فانا اهتم بالجوانب السايكولوجية للمنجزات الشعرية وفقا لهذا الجانب ووفقا لهذا الاعتبار)

وهو كلام دقيق مرتبط بصلب مشروعه في تقديم رؤية نفسية للمنجز الإبداعي للكتّاب الذين يتصدّى لتحليل أعمالهم . لكنني أودّ أن اشير إلى حقيقة خطيرة أغفها الباحثون وتتعلّق بالدور الريادي التاريخي لحسين مردان في جانب محدّد من نشاطه الإبداعي وهو المُرتبط بقصيدة النثر . وأنا أعتبر مداخلتي هذه مكمّلة لمشروع شوقي ومتممة لجهده في إنصاف هذا المُبدع الفذّ المُجدّد .

(في عام 1954 – وكما يقول الشاعر والباحث "سامي مهدي" في كتابه “أفق الحداثة وحداثة النمط” - صدرت مجموعة ملفتة للنظر عنوانها “ثلاثون قصيدة” ، وكان صاحب هذه المجموعة “توفيق صائغ” . كانت المجموعة اقرب الى روح الشعر من سائر المحاولات ، وكانت واضخة التأثر بالشعر الحر الانكليزي ، شكلا، والصوفية المسيحية الانكلو- سكسونية مضمونا . وفي العام نفسه نشر (محمد الماغوط) أولى محاولاته وكانت بعنوان (النبيذ المر) ، ثم تابع النشر بعد فترة في مجلة (المجلة) ، ولكنه لم يصدر مجموعته الأولى (حزن في ضوء القمر) إلا عام 1959 ، وقد نشر أنسي الحاج أولى محاولاته في مجلة (شعر) عام 1957 .. ويذكر عصام محفوظ ان أدونيس بدأ  يكتب هذا اللون من الكتابة عام 1958، اي بعد انسي الحاح بأشهر ، ثم تبعهما في ذلك يوسف ابو شقرا ، يوسف الخال ، فؤاد رفقة واخرون) .

لكن شاعرنا العراقي (حسين مردان) كان قد أصدر مجموعته المسماة “صورة مرعبة” في عام 1951 ، وأطلق عليها تسمية “نثر مركز” ، ثم أعقبها بمجموعة “عزيزتي فلانة” عام 1952 وهي من (النثر المركز) ايضا ، تلتها مجموعة (العالم تنّور) ثم (نشيد الانشاد) في العام 1955 ، وأخير مجموعته (هلاهل نحو الشمس) في عام 1959 . أمّا "الربيع والجوع" فقد اصدرها عام 1953 أي أنه في الوقت الذي اصدر فيه محمد الماغوط مجموعته الشعرية الاولى في العام 1959 (حزن في ضوء القمر)” كان “حسين مردان “ قد اصدر (6) ست مجموعات مما أسماه بـ”النثر المركز”. يقول الراحل الدكتور علي جواد الطاهر :

(لقد نظم حسين مردان “صوره مرعبة “ على نمط لم يعرف له اسم ، فلم يسمع بعد “بقصيدة النثر” ، ولم يصل بعد الى اسم “النثر المركز” ويقرر انه خلقة خلقا” بمعنى انه ذهب اليه دون سابق عليه من قدوة او دعوة . ومع اننا نعرف سبق “امين الريحاني” الى ماسماه الشعر المنثور متابعا “ولت وتمن “ ، ثم كان الريحاني رأسا فيه ، ثم صار عهد الريحاني بعيدا وصار متابعوه وكأنهم  لم يكونوا . والحقيقة ان الفارق ملحوظ ، وحسين مردان اكثر شاعرية واقل تكلفا وهو فيه سابق  كذلك على ما عرف بقصيدة النثر وعلى مجلة شعر وقد “تأسست سنة 1957 “ ، وربما كان مصطلح قصيدة النثر الذي أورده فيها لاول مرة يرجع اساسا الى العام الذي تحدث فيه ادونيس مستعينا ومترجما بكتاب او مقدمة كتاب “سوزان برنارد” “قصيدة النثر” الصادر في باريس سنة 1959) .

وأودّ هنا ان انقل معلومة مهمة جدا ذات  صلة بكتاب سوزان برنارد الشهير الذي تسبب في تسميم عقول جيل مجلة شعر وفي مقدمته ادونيس ، فقد اهتدى ادونيس الى كتاب صدر في فرنسا وأصبح فيما بعد انجيل المؤمنين بقصيدة النثر ، وهذا الكتاب هو “قصيدة النثر من بودلير حتى أيامنا “ لمؤلفته الكاتبه الفرنسية سوزان برنار  صدرت الطبعة الاولى من هذا الكتاب عام 1959 ولم تمض على صدوره سوى شهور حتى طلع ادونيس بمقالة عنوانها “في قصيدة النثر“ نُشرت في مجلة شعر شتاء عام 1960 ، ولم يكن ادونيس بهذه المقالة أول من عرّب المصطلح “قصيدة النثر” واستعمله في اللغة العربية فحسب بل كان ايضا أول من شرح مفهوم قصيدة النثر هذه ومبررات كتاباتها وشروط هذه الكتابة . وقد اعتمد ادونيس في كل ذلك على كتاب سوزان برنار باعترافه هو نفسه في مجلة شعر العدد 14 صفحة 75 الى 83 . وعندما نشر انسي الحاج مجموعة من قصائد النثر عنوانها "لن" في عام 1960 ، اعترف هو الآخر بأنه اعتمد على كتاب سوزان برنار الذي يقع في 814 صفحة في أصله الفرنسي) .

ماهي أهمية الإشارة الى هذه المعلومة ؟

تكمن اهميتها في اثبات ان الشاعر العراقي الكبير حسين مردان كان قد كتب مجموعات شعرية كاملة ؛ (6) ست مجموعات من قصيدة النثر ، قبل ان يتم النقّاد مصطلح قصيدة النثر من كتاب سوزان برنار على ايدي ادونيس وانسي الحاج في عام 1959 ، وهو العام الذي وصل فيه كتاب سوزان برنار الى الشعراء العرب . هنا ستثور مشكلة اخرى اثارت استغرابي ودهشتي : ترى لماذا لا يقتنع العلامة الشيخ (علي جواد الطاهر) بقدرة الشاعر العراقي حسين مردان على الابداع والابتكار ؟ وهل تسممت روح شيخنا بفيروس القاعدة العراقية المستهلكة القائلة بان مغنية الحي لا تطرب؟

يقول الطاهر مشككا بشكل متردد : (حاول حسين مردان  ان يصور حياة الحشاشين ومتعاطي المخدرات، فاصدر سنة 1951 كتابه “صور مرعبة “ مع ملاحظة ان هذا العالم هو احد عوالم بودلير في “جناته المصطنعة” وفي نبيذه وحشيشه وان الشاعر العراقي لم يقدم شعره على النمط العمودي او ما شرع ينظم عليه عدد من الشباب  باسم الشعر الحر قائما  في وزنه على التفعيلة ، وانما قدمه بنمط لعله لم يعرف له اسما ولم يجد له اسما لانه شعر ياخذ صورة الشعر في روحه وصوره لكنه ليس بالعمودي وليس بالتفعيلي لانه لا يجري على وزن مقرر فهو نثر ان شئت . هو نثر في صورة شعر او اية صفة  اخرى يمكن ان تميزه بها وقد نجد في جذر هذا النمط ماسمعه  حسين مردان او قرأ امثلة مترجمة منه مما كان لبودلير باسم “قصائد في نثر” او قصائد نثر (poemes en prose) ان شئت واذا كان حسين مردان مبكرا فيه  ومن رواده ان لم يكن  رائدا فيصعب ان يكون قد خلقه خلقا (!!) دون المام برائد سابق عليه لاسيما ان علمنا امكان ان يكون هذا الرائد السابق عليه هو بودلير وتذكرنا مكانة بودلير من شطح حسين  مردان ومزاجه)

وهذا لعمري امر عجيب ادهش لانه يصدر عن علامة ثقة مثل الطاهر ، كيف يحاول وبشكل صارخ التشكيك بقدرة شاعر عراقي على خلق شكل شعري جديد والمدد يأتي الى الشعر العربي من العراق دائما عبر مختلف العصور ؟ الطاهر لا يقتنع ولهذا نجده يعود الى التساؤل.

(ويبقى مع هذا السؤال عن المصدر كما هو ؟ وكيف يتسنى لأمرى كحسين مردان ان يخلق “النثر المركز” خلقا ؟ ثم لا بد من عودة الى اخبار وصلت اليه  عن بودلير ، على ان حسين مردان يقرر وهو يريد ان يحدد مهمته في الموضوع  انه “قد ادى الضيق بالوزن والقافية  عند الشاعر المعاصر الى نوع من التمرد والالتجاء النثر الى هذا النوع من النثر الفني)

لكن لنستمع الى “حسين مردان” نفسه وهو يبرر توجهه الى هذا النمط من الكتابة الشعرية الذي هو خارج النمطين السائدين آنذاك : القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة  . يقول “حسين مردان” جوابا على سؤال عن ماهية  النثر بالمركز؟ وهل له علاقة بما يسمى قصيدة النثر:

(لقد أدى الضيق بالوزن والقافية عند الشاعر المعاصر الى نوع من التمرّد والالتجاء الى هذا النوع من النثر الفني والذي شاع في عهد جبران وامين  الريحاني عن طريق ترجمة الشعر الاوربي الى اللغة العربية فعمل بعضهم على تطويره والاعتناء به لكي يأخذ  شكل القصيدة من ناحية  الاهتمام بوضع الكلمة وموسيقية الالفاظ واختصار الجمل وتركيزها للاستعاضة عن الجهد الذي يبذل في القصيدة الموزونة . أمّا السبب الحقيقي الذي دفعني الى كتابة هذا النوع من النثر فهو اكتشافي ان الوزن يحد من اظهار الحيوية النفسية ونقل العالم الباطن بصورة دقيقة..) .

و”حسين مردان “ لا يعتبر هذا  النثر المركز شعرا رغم مافيه من عناصر الشعر ، وهو امر خلافي مازال قائما حتى يومنا هذا بين النقاد الذين يرى بعضهم ان قصيدة النثر ليست شعرا لانها تفتقد الى الموسيقى والايقاع والشكل وغيرها من شروط الشعر في حين يعتبرها البعض الآخر أعلى أشكال التعبير الشعري . وقد يبدو هذا تناقضا في الجهد التنظيري لحسين مردان . ولكن هل من مسؤولية المبدع ان يضع نظرية لكل خطوة ابداعية جديدة يخطوها ؟ أعتقد ان هذا ليس شرطا اساسيا لأن السياب ، مثلا ، لم يضع نظرية دقيقة ومتكاملة لتبرير الثورة الشعرية التي قام بها ، كما ان (محمد الماغوط) الذي يعتبر  من رواد الكتابة الشعرية وفق شكل قصيدة النثر يعترف بأنه لم يطلع على أي نص اجنبي ، لأنه لا يجيد لغة اخرى ، كما انه لم يقدم – آنذاك – أي إطار نظري لجهده الكتابي الجديد هذا ، بالاضافة الى أن الجهود النظرية المتعلقة بقصيدة النثر جاءت في نهاية الخمسينات بعد ان تمت ترجمة كتاب (سوزان برنار) المعروف - كما رأينا ذلك سابقا - وهذا لم يقلل - بالنسبة لأغلب النقاد – من جهده الريادي في مجال قصيدة النثر . فلماذا نوافق على مقاييس تنطبق على أديب غير عراقي ونستثني الأديب العراقي وجهده الاصيل والمقتدر من هذه المقاييس ؟ وحتى لو لم يعتبر حسين مردان النثر المركز الذي كتبه قصائد نثر فأن اختلاف النظرة الى معنى المصطلح وحدوده لا يلغي الجهد المتفرد لحسين مردان والجهد الهائل والريادي الذي بذله عبر ست مجموعات  شعرية . ان ماكتبه حسين مردان كان قصائد نثر حقيقية ، ويتمتع بكل شروطها الأساسية ، وبذلك يمكن اعتباره رائداً لقصيدة النثر في الشعر العربي .

تترافق مداخلتي – الطويلة نسبياً - هذه مع الجهد التحليلي لشوقي يوسف بهنام ، وتتعاضد معه ، في كتابه هذا لاستكمال صورة الفرادة والجدّة والأصالة المتدفّقة الحيّة في نصوص حسين مردان ، والتي كشفها شوقي في هذه الخظوة الجديدة المتصاعدة من مشروعه المبارك . فتحيّة له .