تأملات في رواية "د. عباس العلي" الخطيرة

كتب .. كتب .. كتب

تأملات في رواية "د. عباس العلي" الخطيرة:

"الرجل الذي أكله النمل"

د. حسين سرمك حسن

عن دار ضفاف صدرت رواية بعنوان (الرجل الذي أكله النمل – الدويدي والإنكريزي) (157 صفحة من القطع المتوسط) .

لم أسمع باسم الدكتور "عباس العلي" كروائي من قبل ، ويبدو أن هذا هو عمله الروائي الأول ، وإذا كانت له أعمال أخرى فالتقصير منّي .

الرواية ذات موضوع مهم بل خطير من الناحية الفكرية والتاريخية حسبما يبدو لي ، فهي من خلال المقطع الذي اختاره الكاتب لغلاف روايته الأخير تتحدّث عن الجهود البريطانية في استكشاف كنوز العراق الآثارية المُهملة الدفينة في ميسان / العمارة ذات الحضور السومري والإسلامي العميق ، ومخزونها الأسطوري العجيب الذي يتعرض للتغييب على أيدي أبنائها أنفسهم ، ولكن معالجة العلي تأتي وفق منظور حضاري فذّ ومراجعة ذاتية عميقة ، صادمة وملتبسة :

(في حدث غير متوقع ظهر اسم الانكريزي حسب ما اخبرني به كاظم ابن محمد النويدر ، كان رجلا قد حطّ في المنطقة لوحده في تلك الايام حين كان جدّه يعاني العوز المادي في اطراف الهور هناك عند التل المسمى "ايشان أم ليرة" . لا أظن أن هذه تسميته التاريخية لأن لا أحد يجرأ أن يصل الى هناك ، فهو مسكون بالجن منذ آلاف السنين . كان وحده الانكريزي حطّ رحاله وبنى خيمته ، الناس توقعت أن تراه في اليوم التالي وقد اعتراه الجنون أن لم تاكله الجن ، فقط هو من شجّع الجَد الذي اكله النمل أن يذهب معه . قد يكون النمل نوعا من الجنّ القاتل ، وكيف تعرف أن هذا النمل هو من الجن ؟!) (كلمة الغلاف الاخير) .

لكن الأطروحات الثقيلة في الرواية تكمن بين طيات متنها :

(وصلنا قرية الدسيم وفي الطريق أخبرني [= السائق] عن وجود أديرة وكنائس وآثار مسيحية ممتدة من النجف حتى منطقة الدسيم ، ومعظمها محصورة بالربوات الحجرية ... أخبرته أني أستاذ أدرس التاريخ القديم في الجامعة لذا بادرني بهذا الكمّ الهائل من المعلومات ..

سألته هل حقا أن السيد المسيح وُلد هنا كما يزعم البعض فأجاب وبكل ثقة : نعم :

-  ولكن هذا خلاف المعلوم

-  ألم تقرأ سورة مريم

-  نعم بل أحفظها

-  فانتبذتْ من أهلها مكانا شرقيا قصياًّ فيه نخل وماء وربوة وقرار معين .. كل هذه الأشياء لا يمكن أن تكون في بيت لحم في فلسطين لا قديما ولا حاضرا ، بل كلها مجتمعة في هذا المكان الذي تؤكد كل شواهد التاريخ أنه وُلد هنا قرب الطور والبيت المعمور

-  -البيت المعمور هو بيت المقدس

أجابني : لا يا سيدي هو البيت الذي عمرته الجن بأمر من نبي الله سليمان ، أنظر إلى صيغة معمور أي مفعول مثل مسكون ومكنون .

-  نعم ، وما يعني هذا ؟    

-  إن بيت الله الذي في مكة هو بيت الله المرفوع رفعه ابراهيم واسماعيل عليهما السلام

-  وبيت المقدس هو بيت القدس ، هو البيت المخصوص

-  أما البيت المعمور فهو الذي عمره وبناه عمّار الأرض وهم الجن بأمر سليمان وسكنه وكان قريبا من من طور ومن البحر المسجور ، أي البحر الذي لا هو مملوء بالماء ولا هو جاف .. لاحظت كيف يصف الله هذا المكان تماماً ؟ والمعمور تفيد صفة المخصوص لأن البناء عام والتعمير خاص ، لذا قال الله إنما يعمر مساجد الله ولم يقل يبني لأن كل معمور مبني وليس كل بناء معمور

-  ولكننا كمسلمين عندنا تفسير آخر عن هذا الموضوع

-  ليس صحيحا كل ما وصلنا فهناك من يريد أن يزوّر الحقائق من أجل قضية أخرى .

-  مثل ماذا ؟

-  أن لا يقول احد أن أرض العراق هي الواد المقدس !! ) (ص 120 – 122) .

دائماً ، وحسب نظرة معلّم فيينا الثاقبة ، تسبق رؤى الأدباء ، نظريات وقوانين العلماء والباحثين . ومن المُحتمل أن هذا "الحلم" السردي الذي يطرحه عباس العلي ، والذي من المؤكّد أنّه أسّسه على معطيات وبحثٍ مضنٍ طويل ، وليس على أساس معلومات عشوائية وحوار عفوي ، والطريقة التي تعامل بها مع "كاظم الدويدي" الرجل الريفي الذي إئتمن "الإنكريزي" قبل أن يموت بالكوليرا ، جدّه "محمّد النويدر" على "صندوقه" الثمين الذي لم يُعرف ما فيه إلى نهاية الرواية ، ودخولهما القصر "المعمور" فعليا تحت "إيشان أم ليرة" ، ثم تحليل عيّنات من صخور القصر الفسفورية التي أثبتت أنها لا تمت بصلة لأرض المنطقة جيويولوجيا ، كل ذلك وغيره الكثير يمكن أن يكون نواة جهد فذّ لبحث موسّع على المستويين الروائي والعلمي الآثاري والأسطوري والديني الموسّع والمؤصّل ، لو ثبتت نتائجه فإنها سوف تقلب وجه المعرفة البشرية .

وأعتقد أنّ د. عباس العلي قد وضع روايته هذه كخطوة للتوصيل وليس لتقديم أنموذج في الفن الروائي ، ولو اعتنى العلي بهذه الرواية كعمل سردي ذي حبكة عجيبة مدهشة لقدّم للإبداع العراقي عملا لا يقل مستوى عن أبرز الروايات العالمية التي تعالج موضوعة الوثيقة وتداعياتها الشائكة والتي تفجّرت على يدي "إمبرتو إيكو" في "إسم الوردة" .