قراءة في تفسير (فتح القدير) للشوكاني

أ.د/محمد أديب الصالح

قراءة في تفسير (فتح القدير) للشوكاني (1) *

بقلم: أ.د/محمد أديب الصالح

رئيس تحرير مجلة حضارة الإسلام

" فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير". من أبرز ما عرف من كتب التفسير في القرن الثالث عشر للهجرة . وهذا الاسم الذي سماه به مصنفه ـ رحمه الله ـ يدل على أن الغرض الذي توخاه من تأليفه ، وعلى المنهج الذي أراد أن يلزم نفسه به ، إنما هو الجمع ـ في مواجهة النصوص القرآنية ـ بين الرواية والدراية ، أو بين التفسير بالمأثور، والتفسير بالرأي المقبول كما هو اصطلاح أكثرهم.

ولقد كان من مصادر الكتاب عند المؤلف ـ بجانب كتب الآثارـ " إعراب القرآن " لأبي جعفر النحاس المتوفى 337 هـ ، و " أحكام القرآن " للكيا الهراسي الطبري المتوفى 504 هـ ، و" المحرر الوجيز" لابن عطية المتوفى 546 هـ ، و" الجامع لأحكام القرآن " لأبي عبد الله القرطبي المتوفى 671 هـ . ويكاد قدر كبير من هذا التفسير الجامع يكون منثوراً في " فتح القدير" . ناهيك عما يتعلق بالجانب الإعرابي عند العمل على تبيان المعنى المراد .

وهكذا يتجلى لنا أمران مهمان في الكتاب :

أولهما : الجمع بين الرواية والدراية في التفسير.

الثاني : الإكثار من النقل عمن سبق من أئمة هذا العلم .

ولقد أخذ المؤلف ـ رحمه الله ـ على نفسه ـ كما هو واضح في مقدمة كتابه ـ أن يكون على الجادة في تحري المقبول من الآثار، وأن يحرر الأقوال ، ويدلي برأيه عندما يفسح المجال للتفسير بالرأي ، ذلك لأن المفسرين ـ كما يقول ـ تفرقوا فريقين وسلكوا طريقين :

الفريق الأول : اقتصروا في تفاسيرهم على مجرد الرواية ، وقنعوا برفع هذه الراية .

والفريق الآخر: جردوا أنظارهم إلى ما تقتضيه اللغة العربية ، وما تفيده العلوم الآلية ، ولم يرفعوا الرواية رأساً ، وإن جاءوا بها لم يصححوا لها أساساً .. وكان ـ رحمه الله ـ يتكلم بلغة الواثق من صنيعه حين اختتم هذه المقدمة بقوله : " فهذا التفسير وإن كبر حجمه ، فقد كثر علمه ، واشتمل على ما في كتب التفاسير من بدائع الفوائد ، مع زوائد فوائد ، وقواعد شوارد ، فإن أحببت أن تعتبر صحة هذا ، فهذه كتب التفسير على ظهر البسيطة انظر إلى تفاسير المعتمدين على الرواية ، ثم ارجع إلى تفسير المعتمدين على الدراية ، ثم انظر إلى هذا التفسير بعد النظرين ، فعند ذلك يسفر الصبح لذي عينين ، ويتبين لك أن هذا الكتاب هو لب الألباب ، وعجب العجاب ، وذخيرة الطلاب ، ونهاية مأرب الألباب " (2).

وما من ريب في أن الشوكاني ـ أجزل الله مثوبته ـ قد أجاد وأفاد في هذا التفسير الذي بلغ خمسة مجلدات كبار، فقد جمع فعلاً بين الرواية والدراية ، أي بين التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي المقبول ـ كما أسلفنا ـ حيث ينقل أقوال المتقدمين ، ثم يدلي برأيه عندما تسنح الفرصة ويطالعنا بالتحقيقات الرائعة في كثير من المسائل . واختار لنفسه تيسيراً للقارئ أن يفسر السورة أو المقطع من الآيات ، ثم يتبع ذلك بالآثار المتعلقة بما فسر وبين .

ولك أن تقول : إن تفسير " فتح القدير" عدة تفاسير في كتاب واحد وانتفع وينتفع به خلق كثير، وإن كانت كثرة نقل الآراء ، تستدعي من القارئ أن يكون أكثر دقة عندما يريد استخلاص الرأي المختار أو القول الذي جنح إليه المؤلف بعد تلك الرحلة مع أقوال المتقدمين ، سواء كان ذلك في بيان الآية عموماً ، أو في اللغة ، أو اختلاف القراءة واستنباط الحكم وما تدل عليه الآية .. وهلم جراً .

والحق أن الذي يخالط منهج المؤلف في الكتاب وطريقته في نقل الآراء واستخلاص ما يريده بعد ذلك : يفيد كثيراً ، ويخرج بقدر كبير من المعرفة بما يقفه المؤلف عليه من ساحة متسعة في النقل والبحث ، يساعد عليهما ما أشرنا إليه من تأخير المرويات إلى ما بعد الكلام في الآية أو الآيات . ولست بسبيل التفصيل في الكلام عن المنهج والطريقة ، فذلك أمر له موطن آخر، ولكنني بسبيل بعض الإشارات السريعة التي لا يتسع لغيرها المقام ، وليس ذلك بغاض من قدر هذا الإمام الكبير أو كتابه النافع " فتح القدير" .

أ ـ ما أخذه المؤلف على نفسه من التزام المقبول من الرواية قد وفى به إلى حد بعيد ، ولكن لم يخل الأمر من ثغرات أردنا أن ننبه إلى واحدة منها ، فلعل من خدمة الكتاب والحرص على الإفادة منه ، العمل على الكشف عما يكون هناك من ضعيف أو أشد ضعفاً ونسأل الله العون والتيسير.

جاء في أول الجزء الرابع عند بدء كلام المصنف في تفسير سورة النور : أخرج الحاكم وابن مردويه والبيهقي في " الشعب " عن عائشة مرفوعاً : [لا تنزلوهن الغرف ولا تعلموهن الكتاب ـ يعني النساء ـ وعلموهن الغزل وسورة النور] .

هكذا أورد الرواية دون بحث أو تمحيص ، مع طول معاناته للحديث وتصانيفه فيه ، والحاكم في " المستدرك " : (2/396) قد أورد هذا الحديث وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه . وذلك في تفسير " زاد المسير" عند تفسير سورة النور أيضاً . غير أن الإمام الذهبي ـ جزاه الله كل خير ـ تعقب الحاكم فقال عند قوله : هذا صحيح الإسناد ولم يخرجاه : قلت : بل موضوع ، وآفته عبد الوهاب بن الضحاك ، قال أبو حاتم : كذاب ، ولم يخرجاه . وهذا الخبر رواه أيضاً ابن حبان في صحيحه ، وفي سنده محمد بن إبراهيم الشامي منكر الحديث ومن الوضاعين .

وكان ذكر ابن الجوزي للحديث في كتابه " زاد المسير" سهواً ، لأنه ذكره في " العلل المتناهية في الأحاديث الواهية " وقال : لا يصح . محمد بن إبراهيم الشامي كان يضع الحديث .

هذا وقد حقق العلامة المحدث شمس الحق عبد العظيم أبادي في رسالته التي أسماها " عقود الجمان في جواز تعليم الكتابة للنسوان " أن أحاديث النهي عن تعليم الكتابة للنسوان كلها من الأباطيل والموضوعات . قال رحمه الله : " ولم يصحح العلماء واحداً منها ما عدا الحاكم أبا عبد الله ، وتساهله في التصحيح معروف ، وتصحيحه متعقب عليه ، ولا يؤخذ كلامه في التصحيح إلا إذا وافقه الآخرون في تصحيحه " (3).

إن القضية التي تعرض لها هذه الرواية الموضوعة : قضية كبرى تتعلق بتعليم النساء الكتابة والمكان الذي نسكنهن فيه ، الأمر الذي يترتب عليه ما يترتب من الآثار إن سلباً أو إيجاباً ، إذا ذكرنا أن خطاب التكليف في الإسلام هو للرجل وللمرأة على السواء ، أما اختلاف الرجل عن المرأة في بعض الأحكام ، واختصاصه دونها ببعض الأمور والمهام : فتلك مسألة أخرى اقتضتها طبيعة التكوين كما أرادها الخالق الحكيم ، والرسالة المنوطة بكل واحد منهما . ونحن دائماً من وراء النصوص ، ومعاذ الله أن تأتي الشريعة بحكم يتخالف مع المصلحة الحقيقية للإنسان كما فطره مولاه ، فخالق الإنسان أعلم بما يصلحه ويسعده ، من أجل ذلك كنا نتمنى لو أن الإمام الشوكاني محّص الرواية ولم يثبتها على عواهنها ، لكيلا ينسب إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما لم يقل ، وتستنبط مما نسب إليه هذه الأحكام ، خصوصاً وأن له كتاباً مشهوراً في الأحاديث الموضوعة ، هو: " الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة ".

ومن عجب أن القرطبي ـ وهو من يكثر الشوكاني النقل عنه كما أسلفنا ـ قد أورد الرواية على أنها من كلام عائشة ، ولم يقل ذلك الشوكاني .

ب ـ وفي أمر النقل عن السابقين من رجال التفسير، يفترض أن ينقل كلام المنقول عن واحد منهم برمته دون بتر أو اختصار مخل ، وقد سلك الشيخ ـ رحمه الله ـ هذا المسلك فكان أميناً فيما ينقل عن الآخرين ولكن لسبب ما ، قد يكون نسياناً أو غفلة من طالب كلف بمهمة الأخذ من كتاب فلم يأخذ النص بأكمله .. أو غير ذلك ، أقول : لسبب ما وقع (فتح القدير) عند تفسير سورة الأحزاب بنقل مبتور عن القرطبي في كتابه (الجامع لأحكام القرآن) . وكان ذلك عند الكلام على الآيات المتعلقة بقصة زيد وزينب ـ رضي الله عنهما ـ، في معرض قوله تعالى :[وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه] (4).

قال الشوكاني : (قال القرطبي : وقد اختلف في تأويل هذه الآية ، فذهب قتاده وابن زيد وجماعة من المفسرين ، منهم ابن جرير الطبري وغيره إلى أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقع منه استحسان لزينب بنت جحش وهي في عصمة زيد ، وكان حريصاً على أن يطلقها زيد فيتزوجها هو ، ثم إن زيداً لما أخبره بأنه يريد فراقها ، ويشكو منها غلظة قول وعصيان أمر، وأذى باللسان ، وتعظماً بالشرف قال له : (اتق الله فيما تقول عنها وأمسك عليك زوجك) وهو يخفي الحرص على طلاق زيد إياها ، وهذا الذي كان يخفي في نفسه ، ولكنه لزم ما يجب من الأمر بالمعروف) (5).

وفي أعقاب هذا النص عن القرطبي قال صاحب (فتح القدير) في قوله تعالى : [وتخفي في نفسك ما الله مبديه] : (وهو نكاحها إن طلقها زيد ، وقيل : حبها [وتخشى الناس] أي تستحييهم أو تخاف من تعييرهم بأن يقولوا : أمر مولاه بطلاق امرأته ثم تزوجها [والله أحق أن تخشاه] في كل حال وتخاف منه وتستحييه ، والواو للحال ، أي تخفي في نفسك ذلك الأمر مخافة من الناس) (6).

وأنت ترى أن كلامه هنا يسير في ظل ما روى نقلاً عن القرطبي . إذا عرفت ذلك كان لابد من التنبيه على أن ما يلاحظ على هذا الموضوع برمته بدءاً من نقل الشوكاني حتى ختام كلامه وهو في تفسير الآية : ما يلي :

1 ـ يعجب الناظر المتأمل في هذا الكلام للشوكاني كيف نقل هذه الرواية التالفة عن القرطبي دون تمحيص مع أنه ـ كما أشرنا من قبل ـ من أهل المعاناة للحديث وعلومه ، وتخريجه لأحاديث (منتقى الأخبار) للمجد بن تيمية وجمعه لطرق الحديث ورواياته المختلفة ـ في كتابه (نيل الأوطار) الذي شرح فيه المنتقى ـ أمر معروف ، وهو مذكور ومشهور، وله كتاب في الموضوعات ، ـ كما جرت الإشارة ـ أسماه " الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة " .

ثم إنه لا يخفى على الإمام الشوكاني وأمثاله من كبار العلماء أنّ رواية الطبري لا تعني الصحة ، وكم في تفسيره " جامع البيان " ـ وهو الكتاب الفذ في بابه ، والذي رسم فيه أبو جعفر معالم الطريق في هذا العلم العظيم لمن جاء بعده من المصنفين ـ من روايات ضعيفات وواهيات ، أو أكثر من واهيات .

وليس في ذلك غض من مكانة الطبري وإمامته ـ رحمه الله ـ ذلك لأنه :

أولاًَ ـ ما كان يأتي بهذه الروايات لتحكم على الآية وتحدد تأويلها ، وإنما يأتي بها للاستئناس ، شأنها شأن الشاهد من كلام العرب للمعنى المراد .

وثانياً ـ كان في صنيعه منتهى الأمانة على قاعدة (من أسند لك فقد أحالك) ونحن نقدر ذلك حق قدره إذا علمنا أنه في عصر الطبري ـ رحمه الله ، وقد توفي في 310 للهجرة ـ كانت لنقد الرواية والحكم عليها ـ قبولاً ورداً ـ : راية مرفوعة ، والحقبة الزمنية يومذاك حقبة ازدهار في هذا العلم وأمثاله من العلوم التي تخدم حديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وما وراء ذلك من آثار، فهنالك قدرة على التخريج والتثبت من صحة الرواية أو عدمها ، من خلال السند الذي ذكره الراوي ؛ فالطبري خرج من العهدة بذكر السند . وهكذا كان حرياً بالشوكاني ـ رحمه الله ـ وأجزل مثوبته ألاّ يحمل إلينا هذه الرواية التالفة ويثبتها مفسراً لكتاب الله دون تمحيص وتحقيق ، كيف وإنها رواية كشف العلماء المحققون شدة ضعفها .. فهي تالفة حتى إن الحافظ ابن كثيرـ رحمه الله ـ أعرض عن ذكرها وذكر أمثالها في هذا المقام لشدة ضعفها .. لقد رأى ابن كثير ألاّ يسود الورق بذكرها ، لأنها تالفة سنداً ومتناً (7) .

3 ـ وهذا كله كائن مع افتراض أن كلام القرطبي قد انتهى حقاً عند القدر الذي نقله (فتح القدير) غير أن الحقيقة غير ذلك ، فالنقل عن القرطبي مبتور، والقارئ لكلامه كما ورد في كتابه يخرج بالفكرة المضادة لما أثبت الشوكاني ، فقد ذكر القرطبي ما نقله الشوكاني عنه ، ثم تابع الكلام فيه ، وأورد ما روي عن علي بن الحسين من : " أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان قد أوحى الله إليه أن زيداً يطلق زينب ، وأنه يتزوجها بتزويج الله إياها ، فلما تشكى زيد للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خلق زينب ، وأنها لا تطيعه ، وأعلمه أنه يريد طلاقها ، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على جهة الأدب والوصية اتق الله في قولك ، وأمسك عليك زوجك) وهو يعلم أنه سيفارقها ، ويتزوجها ، وهذا هو الذي أخفى في نفسه ، ولم يرد أن يأمره بالطلاق ، لما علم أنه سيتزوجها ، وخشي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يلحقه قول من الناس في أن يتزوج زينب بعد زيد ، وهو مولاه ، وقد أمره بطلاقها ، فعاتبه الله تعالى على هذا القدر من أنه خشي الناس في شيء قد أباحه الله له ، بأن قال : [أمسك] مع علمه بأنه يطلّق . وأعلمه أن الله أحق بالخشية ، أي : في كل حال " (7).

وأنت تجد في كلامه تأكيده الشديد لكون الذي أخفى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في نفسه ، إنما هو علمه أن الله مزوجه زينب وليس ـ كما تقول الرواية التالفة ـ حبها أو الرغبة في أن يطلقها زيد ليتزوجها هو. وفعلاً كان الذي أبداه الله هو تزويج الله رسوله بزينب ، وفي ذلك يقول تعالى : [فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهنّ وطراً وكان أمر الله مفعولاً].

ولعل مما يؤكد ضرورة تحرير المسألة بالنسبة للقرطبي وتصحيح ما نسب إليه ، أنه ـ رحمه الله ـ بعد ان أورد رواية علي بن الحسين ـ رضي الله عنهما ـ ، وأثبت أن الذي أخفاه رسول الله في نفسه : علمه بأن الله مزوجه بها بعد أن يطلقها زيد .. أيد وجهته هذه بما ذهب إليه أهل التحقيق من العلماء ، ذلكم قوله بعد ذلك : " قال علماؤنا ـ رحمة الله عليهم ـ : وهذا القول أحسن ما قيل في تأويل هذه الآية ، وهو الذي عليه أهل التحقيق من المفسرين والعلماء الراسخين ، كالزهري والقاضي بكر بن العلاء القشيري ، والقاضي أبي بكر بن العربي (8) وغيرهم ".

وبعد أن أوضح معنى [وتخشى الناس] قال ـ رحمه الله ـ : " فأما ما روي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هوي زينب امرأة زيد ـ وربما أطلق بعضهم لفظ عشق ـ فهذا إنما يصدر عن جاهل بعصمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن مثل هذا ، أو يستخف بحرمته . قال الترمذي الحكيم في " نوادر الأصول " : وأسند إلى علي بن الحسين قوله : فعلي بن الحسين جاء بهذا من خزانة العلم جوهراً من الجواهر ودراً من الدرر، إنه إنما عتب الله عليه في أنه قد أعلمه أن ستكون هذه من أزواجك ، فكيف قال بعد ذلك لزيد : [أمسك عليك زوجك] وأخذتك خشية الناس أن يقولوا : تزوج امرأة ابنه . والله أحق أن تخشاه (9).

ولقد آثرت أن أنقل كلام القرطبي برمته ـ على ما قد يرى فيه بعض القراء من طول ـ حرصاً على وضوح الأمر في هذه القضية ، ودفعاً لأي التباس محتمل ، خصوصاً أن الأمر يتعلق بعصمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من حيث الموضوع ، ويتعلق بقبول الرواية أو عدم قبولها من ناحيتي السند والمتن ، ويتعلق أخيراً بتحديد موقف صاحب " الجامع لأحكام القرآن " ، فمن خلال دراستي للموضوع ، ومعاناتي لتدريس مادة التفسير في الجامعة : رأيت أن كل من يقرأ ما جاء في " فتح القدير" نقلاً عن القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن " تتولد عنده القناعة الكاملة بأن ما ذهب إليه القرطبي هو الرأي المرتبط بتلك الرواية التالفة ، ولكن بعد الاطلاع على كلامه كما هو وارد في كتابه ، نجد القضية ـ كما أوضحنا من قريب ـ على العكس تماماً ، وللقارئ عذره ، فليس كل قارئ يفكر في العودة إلى المصدر المنقول عنه حتى لو توافر له ذلك .

مرة أخرى : جزى الله الشيخ الشوكاني كل خير، وأعلى مقامه في الآخرين ، وأكرم مثواه بما بذل في خدمة الكتاب والسنة .

ويرحم الله الإمام مالك بن أنس في قوله المأثور: كل امرئ يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر ـ يعني رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً .

             

الهوامش :

(1) هو محمد علي بن عبد الله الشوكاني ثم الصنعاني ، ولد ـ حسبما وجد بخطه ـ نهار الاثنين في الثامن والعشرين من ذي القعدة 1173 في بلدة (شوكان) ، وهي قرية من قرى السحامية إحدى قبائل خولان ، بينها وبين صنعاء دون مسافة يوم . نشأ ـ رحمه الله ـ نشأة علمية جادة ، وتفقه على مذهب الإمام زيد ـ رضي الله عنه ـ ، وأخذ عن الكثير من العلماء ، ثم أخذ عنه تلامذة كثيرون . له عدد من المؤلفات النافعة في شتى العلوم الإسلامية ؛ منها هذا الكتاب الذي نحن بصدده وهو " فتح القدير" في التفسير، و " نيل الأوطار" شرح " منتقى الأخبار" للمجد ابن تيمية في الحديث ، و " إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول " في أصول الفقه . توفي ـ أجزل الله مثوبته ـ في صنعاء ليلة الأربعاء في السابع والعشرين من شهر جمادى الآخرة 1250 هـ .

*     مجلة حضارة الإسلام ، العدد الثاني ، السنة العشرون ، ربيع الأول 1399 هـ ، آذار 1979 م . نشرت في 1978 م ، 1398 هـ .

(2) انظر المقدمة من الجزء الأول .

(3) انظر " زاد المسير" لبن الجوزي : (6/3 ـ 4) مع التعليق .

(4) ج 4 ، ص 284 .

(5) الآية 37 ، من سورة الأحزاب .

(6) انظر (الجامع لأحكام القرآن) ، للقرطبي : (14 /189).

(7) انظر (فتح القدير) : (4/284).

(8) انظر (تفسير القرآن العظيم) . (3/490 ـ 491) .

(9) انظر (الجامع لأحكام القرآن) للقرطبي : (14/189 ـ 190) .

(10) مما قاله أبو بكر بن العربي في كتابه (أحكام القرآن : 3/1531) : " فأما قولهم : إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رآها فوقعت في قلبه فباطل ، فإنه كان معها في كل وقت وموضع ، ولم يكن حينئذ حجاب ، فكيف تنشأ معه وينشأ معها ويلحظها في كل ساعة ، ولا تقع في قلبه إلا إذا كان لها زوج ، وقد وهبته نفسها وكرهت غيره ، فلم تخطر بباله ، فكيف يتجدد له هوى لم يكن . حاشا لذلك القلب المطهر من هذه العلاقة الفاسدة ، وقد قال الله تعالى : [ولا تمدّنّ عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه] . والنساء أفتن الزهرات وأنشر الرياحين ، فيخالف هذا في المطلقات ، فكيف في المنكوحات المحبوسات ". وانظر تفصيلاً أوفى هناك .

(11) (الجامع لأحكام القرآن) : (14/190 ـ 191).