شيء عن الالتزام في شعر النحوي

في الأدب الإسلامي

- رحمه الله-

د.عدنان علي رضا النحوي

صالح خليل

الحمد لله رب العالمين واصلي واسلم على المبعوث رحمة لعالمين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين وبعد:

تفيض الساحة الأدبية اليوم بالكثير من الأشعار ، غثها وسمينها، وتتعالى أصوات النقده لهذه الأشعار لتتحدث عن دور الكلمة الهادفه و أثرها ، وقضية الالتزام الأدبي، ودور الأديب الملتزم في ساحة الصراع بين الحق والباطل .

واليوم، والرابطة العالمية للأدب الإسلامي تنهض بعبء كبير في التأصيل والتنظير للأدب الإسلامي المعاصر...فإننا في هذه العجالة نحب أن نستشرف بعض آفاق الشعر الملتزم بالإسلام، فنقف عند واحد من الشعراء الذين آمنوا بدور الكلمة المضيئة التي تفيض عن القلب ، أو يخرطها القلم مثقله بندى الحياة ، لتنطلق فاعله مؤثره ، لأنها نابعة من القلب ، موصولة الأسباب بالسماء ...

-1-

لا بد من التأكيد – في البداية- على أن الالتزام ليس استجداء التصفيق ، وإن كان التصفيق – أحياناً- لا يأتي إلا من خلال الإعجاب ، وهز الكلمة لوجدان السامع وقلبه ، بيد أن للشعر وظيفة هامة هي الدفاع عن انساينه الإنسان من خلال الارتفاع به عن السفاسف، ونقله إلى ساحة الفضيله ومكارم الأخلاق ... ولذلك فإن الالتزام هو الجانب الايجابي في علاقة متبادله بين الشاعر ومحيطه، وهي ليست علاقة أخذ وعطاء، ولا علاقة انصهار وذوبان، وإنما هي علاقة تطابق فقد يصف الشاعر البحر – على سبيل المثال- لأنه أحبّ منظره ، أو تأثر بروعة امتداده ، لكنك تحس وهو يتحدث عنه أنه يعبر بذلك عن حرية الانسان، أو عن عمق الوجود الإنساني، أو سعة التجارب الإنسانية ، أو لفت نظرك إلى عظيم قدرة الله وجميل صنعه...دون أن يصرح مخبراً أو مقرراً- بهذه الرابطة السرية بينه وبين البحر وتكون كل حركة أو صورة ، أو موجة موسيقيه في قصيدته هي صورة لذلك التطابق.

_2_

وفي معرض الحديث عن الالتزام يجب التأكيد على أن الشعر عصي على الانقياد ، إنه كالحصان الجموح، لا يسلس قياده إلا للقلة الفذة، وهو –عند البعض- تدفق عفوي يند أحياناً – عن سيطرة العقل وأحكامه ، ولذلك لا نستغرب ونحن نطالع رأي سارتر بأن ( العطاء الشعري عطاء غير ملتزم) .

وبقدر ما يتيسر الالتزام في دائرة النثر ، فهو في ميدان الشعر يصعب، ولذلك فإن القرآن الكريم ببيانه المشرق أشار إلى هذا الموضع حينما أكد المولى تعالى أن التجربة الشعرية هي تجربة"هيمان" غير عقلاني ،يتحول من موقف إلى موقف ، وفقاً للهوى والمنفعة الذاتية ، إلا أن يأوي إلى خط الايمان : ( والشعراء يتبعهم الغاوون ، ألم تر أنهم يقولون ما لا يفعلون ، إلا الذين آمنوا ... ) صدق الله العظيم .

من هنا تبدو عبقرية النحوي ، وتألق دوره على مسرح الشعر الملتزم بالإسلام، وذلك من خلال قدرته على الالتزام ، وعدم السماح للكلمة الشعرية بالهيمان غير المسؤول في أوديه المعاني والأفكار ، والصور ، وحتى في مجال الشكل الفني للقصيده العربية....

إن التزام النحوي يكاد يكون الدم الذي يتفجر في أوردة عطائه العري وشرايينه، وينبثق عفوياً صافياً لأنه يصدر عن الرجل الذي يعيش التجربة ، ولا يدعيها ، وفرق كبير بين الالتزام القسري الذي يضبط التجربة بقالبه الصارم وبين ان يتدفق من باطن التجربة ، ويجري في أوصالها فيهبها الحياه ، والحركه ....

-         3-

ولد النحوي في صفد 1928 ، وقضى فيها قرابة العشرين عاماً في خضم ثورات متلاحقة ضد الانجليز واليهود إلى أن أخرج منها قسراً عام 1984، في مأساة الهجرة واللجوء ، فانتقل إلى دمشق وأقام فيها خمس سنوات ثم انتقل بعدها  إلى الكويت فمصر ثم عاد إلى سوريا ثم حط رحاله أخيراً في المملكة العربيه السعوديه سنة 1964- وفي مدينة الرياض- وما يزال. وقد عمل في وزارة الإعلام قرابة الخمس عشرة سنة كان مسؤولاً خلالها عن المشاريع الاذاعيه في إذاعة المملكة العربيه السعوديه، وخلال عمله زار العديد من الأقطار العربيه والاسلاميه والاوروبيه غير أن المرض هاجمه فدخل معه في صراع طويل أقعده عن عمله الوظيفي وبدأ مرحلة العلاج والعمل الحر، وخلال مرضه حصل على شهادتي (الماجستير والدكتوراه في حقل تخصصه في هندسة الاتصالات ) ، ولعل تخصصه أعانه على هندسة  الكلمة الموحيه الخارجه من القلب  الموصوله بالقلب، وهو وإن عمل في تلك الوظيفه في إذاعة السعوديه وظل حتى أثقلت الهموم قلبه فضعف تحت وطأتها القاسية حتى ارتمى في أحضان الجراحين يعالجون ضعف قلبه بعمليتين جراحيتين أقعدتاه عن العمل الوظيفي الرتيب وانطلقتا به إلى عمل حر فقد انصرف إلى مجال التأليف والاطلاع والكتابة في مجال الدعوة والتربيه والبناء فأهدى للمكتبة العربية ما ينيف عن الستين كتاباً هي عصارة تجربة واعية مخلصه ....

وموهبة النحوي الشعرية بدأت مبكرة ، ولعلها جاءت بفعل مطالعاته النهمة ، وحبه الشديد للشعر ، واستظهاره لأشعار الشعراء الكبار ... ولعل قصيدته في رثاء أمه – وهي من الشعر المبكر- والتي امتدت إلى الثلاثين بيتاً وهي مسجّاة قبل أن تأوي إلى مثواها الأخير ما يوحي بهذه الشاعرية المبكرة!!

يُشده المتابع لعطاء النحوي الثر، لما يرى من الجحود إذ يتجاهل كثير من رواد الأدب منهل النحوي العذب، وينصرفون إلى القيعان والأجادب .... فالنحوي ثر العطاء ، عذب الحديث ، شديد الاحساس بمواجع أمته، شديد الرغبه في نهوضها بعد كبوتها ، واستعادة قوتها بعد هوان ضعفها وهو إلى جانب ذلك ، ولود الفكرة ، عف اللسان شريف الكلمة.

هذه سمات عامة أسوقها بين يدي الحديث عن شعره ولكي تشبع نهمك من عطاء النحوي ، فتمتد مع خياله، وتعيش مع توهجه الفكري ، وتقف على التزامه القوي عليك أن تضحي بغير قليل من وقتك ، وإلاّ كان ضربك في اليم عبثاً، وخروجك إلى الشاطئ تحمل في يديك حفنه من اللآليء أمراً مستحيلاً...لذلك آثرت انتظار الوقت كي أعرض على القرّاء _ ومن نافذة اللواء الغراء_ شيئاً من تجربة رجلٍ أبى إلا أن يكون لدينه، يتلقى من منبعه الصافي ويلقي على الظماء إلى الكلمة النورانية ما يضيء عقولهم وقلوبهم ، ويحيى في أفئدتهم ملكة التذوق الشعري.

بيد أنني يجب أن أعترف أن تقديم شاعر كالنحوي لا ينهض له قلم كاتب محدود مثلي ، وإنما هي وقفة عجلى عند بعض محطات من شعره الملتزم رجوت أن تكون بدايةً لدراسة أوسع تكشف الكثير من ملامح تجربته الشعريه، فإن قالوا:متى هي ، فقل عسى أن تكون قريباً.

-5-

يأبى النحوي إلاّ أن يحارب جاهلية عصره، والشعر المقاتل يكون ملتزماً أبداً، ومعركة الشعر المقاتل معركة شعراء كبار ، عرفوا كيف ينحتون الكلمة ، وكيف يضربون الأهداف... ها هو في"هوى وهوان" يرسم حال أمته بدقه عالية في لوحة تضجّ بالحركة والصوت والجلبة التي لا طائل تحتها إلاّ الهوان ، فهي أمة خلافات وشتائم ، ومشاحنات وسخائم :

رماهم الخُلف حتى شقهم فرقاً         وأطلق الشر واستشرى بهم عفنا

تقاسموها حدوداً غير آمنة            فما استقر فيها فتىً فيها ولا أمنا

كل يُغنّي هوى ربعٍ أقام بها            ويحسب المجد في أفيائه قطنا

هذا يقول : هنا قلبُ العروبه لم         تخفق بغير هواه أضلعي شجنا

وذا يقول : هنا أم الدنا فلكم مدت      لنا الأرض من رزقٍ بها وجنى

فقطّعوا رحماً اومزّقوا سبباً            وضيّعوا جولة أو اغلقوا أذنا

رضوا بما قسم الأعداء من قطع       رضاً يثبت فيها الذلّ والوهنا

وأطلقوا من شعارات مزخرفةٍ       ومن هتافٍ يدير السكر والوسنا

كأنما الوحدة الكبرى مساومة             أو مدمع كلما ناديته هتنا

والتزام النحوي يتبدى واضحاً في زفرات الهمّ  الداخلية التي تلحظها متمازجة مع هموم أمته، وكل قضيّة من القضايا التي يطرحها إنما ينظر إليها من نافذة العقيدة ، أو يُطلُّ عليها من فوق من المكان العالي الذي ارتفع إليه بدينه العظيم ، ولذلك فإنه سرعان ما يرتاد لأمته الطريق الصحيح :

ما للعروبة من قلبٍ يدق لها     إلاّ الهدى يملأ الدنيا رضاً وسنا

يحوطها الدين عزّاً أو يمدُّ لها      عزماً ويرفع أسيافاً لها ومنا

وطلعة الحقّ بالإسلام مشرقة    تزوي الظلام وتزوي الشرّ والدخنا

لقد طرق النحوي موضوعات شتى في شعره المضيء ، وعاش بنبضه ووجدانه كل آلام المسلمين في كل بقعة من بقاع العالم، فتحدّث عن مأساة المسلمين في البوسنة ، والهرسك ، والهند وكشمير والأفغان ، ولعلنا _ إن شاء الله تعالى_ نقف وقفةً متأنية على الجوانب الفنية والموضوعيّة في الملحمة الإسلامية التي نظّر لها وقعّد لها القواعد ، و بنى عليها الأركان التي جاءت في جملة من الملاحم ...بيد أن القضية التي استحوذت على رقعة نفسه هي قضية فلسطين، وأقصاها الجريح .. وأزعم أنني قرأت العديد من الشعراء ممن وصفوا بأنهم شعراء النضال الفلسطيني ، فما رأيت شاعراً كالنحوي يتحدث عن فلسطين ، ومأساتها، وأقصاها الجريح وقداستها في كل ما يطرح- حتى وهو في أشد حالات حزنه – وذاتيته في بكائيته الطويلة في فقد ولده الشاب "اياد" هذه القصيدة التي تنضح الدمع من كل حرفٍ من حروفها ،لا يلبث أن ينهض في نهايتها ، فيتعالى على ذاتيته لأنه يستشعر أن ثمة مصيبة أكبر من مصيبته في فقد ولده، تلك هي مصيبة العالم العربي والإسلامي في هوانه ، وضعفه، وضياع مقدساته:

فأين المعزّون بالأمة اليوم       بالدار بالساح بالملعب

وبالقدس بالمسجد النازف    والدم بالدفق من جرحه المتعب

بأرض مباركةٍ ضيعتها        حشود المرائين والهيّب

نسوها فهانوا ولم يذكروا      سخاء المرابع فيض الربى

ولا ذكروا زهو تاريخهم      وديناً هو الحقّ لم يغلب

ولا لهفةٍ من هوى مكة        ولا دمعة من هوى يثرب

ويظل النحوي حزيناً من أجل فلسطين...

واهاً فلسطين تدميك الجراح     أسىً ويدفع في العينين هجران

تناوشتها ذئاب الحيّ عاوية      وأطبقت فوقها رخمٌ وعقبان

نعم إن شعر النحوي صورة صادقة حيّة، لما حلّ ويحل بالبلاد الاسلامية من أحداثٍ هامّة، وهو في كل قول يعمل على إذكاء جذوةٍ الروح الاسلاميّة ، واستنفار القوى، وتصدّيها للمجابهة والتأكيد بشكل قاطع على عقم الحلول السلميّة وتهافتها :

لا تقل لي سياسة وسلام             فحديث السلام شيءٌ بعيد

سل أمركا عن السلام بفيتنام         وسل روسيا وسل من تريد

وسل الناس من أراد سلاماً           قبل أن يفرض السلام الحديد

كلهم ينظرون الأفق الواسع             أطماعهم هناك تزيد

حسبونا مثل النعاج فقالوا:            اذبحوه حتى يجفّ الوريد

يفرض السلم صاحب الحق بالسيف     ويمضي به الأبيُّ الشديد

-6-

ولا ريب أن قضية أن قضيّة فلسطين بما خلّفته من مآس كبيرة تحت عناوين حادة قد فتحت باباً واسعاً من أبواب الخير لا يلجه إلاّ أصحاب النفوس الكبيرة ن لقد دقّت قضيّة الأرض المباركة بقبضتها القويّة باب الشهادة، وليس في فلسطين وحسب، بل وفي كل مكان من هذا العالم، حينما يقتحم الباطل حصون الحقّ، ينهض الشرفاء من أمّة محمد صلى الله عليه وسلم يحملون مجد دينهم ، ويبيعون لله أرواحهم في حالة من التضحية والبذل قلَّ نظيرها ، كِفاء جنّة عرضها السموات والأرض ... وقد تحدّث النحوي الشهادة والشهيد فعرض صورته ، ورسم مشاهد من تضحياته حيث يتوهج نور التضحية دماً زكيّاً ينبعث منه ما ينير الطريق للأجيال اللاحقة فضلاً عن الحياة الموعودة عند الله عز وجل :

كل ما في الحياة يقبس من      نورك نوراً ومن سناك سناء

هكذا تمنح العقيدة من            مات حياة وجنّة ورضاء

والدارس لشعر النحوي يرى أنه يتحدث عن الشهادة عبر خطين كبيرين :

أولهما : الحديث عن الشهادة بصورة عامة كونها شرف كبير، ومنزلة رفيعة سامية، وقيمة عالية لا يدركها إلاّ أصحاب النفوس الكريمة اللذين اختصم الله من سائر خلقه بهذا الشرف الكبير ....

وثانيهما : يتحدث عن الشهادة من خلال رثائه لرجالات عصره واعلامهم من الشهداء الذين كان لهم في ميدان الدعوة ثقل ، فباعوا أنفسهم لله دفاعاً عن أرض، وصوناً لعرض ، وذبّاً عن حرمة عقيدة مستباحة ، فكانت دماء الشهيد : عبد القادر الحسيني، وسيد قطب ، وعبد الله عزام ، والحاج محمد أمين الحسيني ... وغيرهم منارات هدى تنير للسائرين دروب الحق ، وتبيّن ما أعدّ الله للمجاهدين من خير في مستقر رحمته.

غير أن الملاحظ في قصائده الرثائية تلك هو : اختلاف طريقة عرض الحدث وتأثيره ، فبينما هو في رثاء الشهيد عبد القادر الحسيني يصف أثر الفاجعة بموت البطل ، حتى صعُب على النفس تصديق النبأ ( ذهول يشده النفس إثر فاجعة العلم بالخبر بل إنه أثر الصدمة الأولى ...) فتراه يقول :

لم يقبل القلب غير البشر من       خبر ولم ير النعي إلاّ وهو يقترب

على الأكفّ مسجّى من مهابته       وحوله فتيةٌ أو ثلة نجبُ

لم يعلم الناس هل حيٌّ يقودهم     إلى المعارك أم موتٌ ومحترب

لم يلمحوا فيه إلاّ أنه بطلٌ          حيٌّ يقود ولا يثنى له أربُ

ثم يعرج على مناقب الفقيد فيرفع عنها السجف، ويوضّح صورة من عمله الدؤوب من أجل قضيّة بلاده فلسطين ، ويطلب المدد من ذوي قرباه فلا يجد إلاّ التخاذل ، فيعزم على المواجهة عزمته، وما معه من عتاد وعدّة إلاّ القليل ، لكنه كان يلهث وراء الشهادة مسقبلاَ بصدره أوسمتها الخالدة :

وانهالت النار فاستقبلت حرّتها    وأنت في القسطل الحمراء تحتطب

حتى قضيت وفي جنبك أوسمة     حمراء لا ماسةٌ فيها ولا ذهبُ

فخرٌ فما جاد في تقديمها          أحدٌ يلهو ولا هي نيشان ولا لقبُ

تراه في رثاء الشهيد سيد قطب رحمه الله، منذ اللحظة الأولى التي يرتفع فيها خبر عروج روحه إلى السماء يتحدث عن الأفراح العلويّة بشهادة سيد ، ويرسم لوحة مشرقة لهذا الفرح السماوي لوحة تفوح منها الرائحة الزكية، واللون، وتزينها الحركة الدائبة ... حيث تسأل الحور العين عن سرّ هذا الروح الزكيّ، وسرعان ما تتبين أنه روح سيد:

غرّدي يا طيور والتقطي           الحب وطوفي بروضةٍ ومغاني

واخفقي بالرضا أجنحة الخير        على غصن روضك الريّان

عرس في السماء والأرض     وأفراح رؤاها ممزوجة الآلوان

يملأ الأفق من سنا قطرات      من دم راعفٍ ونور حاني

إنه سيد دعته إلى الخلد        نداءات شوقه الظآن

        والطريق إلى الجنة طريق طويل، محفوف بالمكاره ... لكنه حمل النهاية السعيدة . و إذا كان الموت نهاية كل حيّ فسينتهي إليه القتلة والمجرمون ، وشتان بين النهايتين :

أين فرعونوالعصابة السوداء     وذل الرفاق والأعوان

هلكوا في متاهة الشرك أجيافاَ      وحلّقت في نعيم حان

كم شهيد مضى ورقّ له         السوط ولأن الحديد في تحنان

كم شهيد مضى على خفقات       من صلاةٍ بجوف ليلٍ قانِ

صنعتهم من الكتاب تراتيل          قيام بمدمع هتّان

فمضيتم معالماً في طريقٍ         ومناراً للتائه الحيران

-7-

أما مطولته في رثاء الدكتور الشهيد عبد الله عزام، وولديه فقد جاءت هذه المطولّة  لترسم الطريق اللاحب الطويل الذي خطاه الشهيد وصولاً إلى الشهادة. فتراه يرسم في البداية صورة النبأ المروّع ، لكنه لا يلبث أن يبيّن أن الشهادة ليست خسارة ، ولكنها نصرٌ وعز ، ولئن كان نبأ الفاجعة عظيماً إلاّ أنه سيظل مدرسة يتعلم منها الانسان دروساً جديدة :

وقال كل فتىً واهاً لنازلةٍ       حلّت وبالعدوّ بالأذى جهرا

فربّ فاجعة من مجرمٍ وقعت    وطعنة من جبانٍ دوننا غدرا

لله نرجع أوّابين إن نزلت بنا     النوازل عزماً صح واعتبرا

ثم يمضي في تعداد مواقف الشهيد الفذة ، وعلاقته بالأقصى وفلسطين، غير أن دروب الجهاد مفتوحة لذوي البصائر اليقظة، والقلوب الحيّة، والمؤمن الحق لا يروعه ن يقضي شهيداَ في أي مكان دفاعاَ عن الإسلام ، ما دامت دروب الشهادة كلها تفضي إلى باب الجنة ونعيمها الأزلي :

كأنما لهفة الأقصى لطلعته دوّت     ترجع فيها الشوق و الندرا

كل يقول : أيطوي العمر مغترباً    مهاجراً في سبيل الله مصطبرا

فعاد من قمم الأفغان رجع صدىً      يومي وينثر من أصدائه عبرا

هذي الميادين دار المؤمن فما ترى       غريباً بها أو جاحدٍ أثرا

ما كان فينا غريباً في الديار أبو محمد      وهو أنّا حلّ وازدهرا

ثم لا يلبث أن يتحدث عن مكانه الشهيد في قلوب الناس:

ان الشهيد حياة الناس كلهم فيه     وكل رواء الأرض منه جرى

يعلّم الناس قول الحق أين مضوا    ويجتلي في ميادين التقى الخبرا

لولاه لم يتبق للاحسان منزلة     في الناس أو صادق يقفوا له أثرا

هي الشهادة أعراس يزّف لها      رجالها ومعالي المجد حيث ترى

تزحموا في دورب الحق واستبقوا    إلى مناهلها الأحداث والعبرا

تنافسوا في ميادين الهدى شرفاً        واقبلوا وثبات بينها زمرا

ثم يعرّج على رسم صورةٍ لشهادة ولديه ، نستبين من خلالها هذا التعلّق الأبوي حيث وهج الحنان المتدفق من أب ضمّ ولديه إلى جناحيه فهو يركض بهما إلى الجنّة:

ريحانتان على جنبيه أقبلتا        وضمتاه وصبّوا الشوق والعبرا

حنّا إليه فحنّا للأبوة كم هاج          الحنان له الأكباد والبصرا

ما كاد يلقاهما حتى مضى بهما       ركضاً إلى الله يلقون الذي قدرا

بشرى من الله عقبى المؤمنين رضاً    ورحمة الله توفي كل من صبرا

وفوّح الدم مسكاً ليس يعدله مسكٌ      ولا نشر المسك الذي نشرا

هي الجنان يراها مؤمنٌ ويرى      سبيلها ثم يمضي يطلب الأثرا

-8-

أما أؤلئك الذين كان لهم صولةٌ في ميدان الجهاد باللسان ، والكلمة والبيان، يستنهضون الهمم ، ويقوّن العزائم ، ويشحذون القوى ، فعلى رأس هؤلاء يقف الاميري الذي وهب لسانه وقلمه لأمته الاسلاميه والعربية إذا فرحت ويشدو إذا انتصرت ، ويئن إذا ضعفت وتناوشتها سهام الردى والفواجع لكنه ككل الشعراء الكبار يعتصر من آلامه آمالاً عراضاً :

أخي عمر يا ويح نفسي أراحلٌ     وحشد القوافي من حواليك نحبّ

لقد كنت غنيت الأماني وزهوةً       من الشوق والعز الذي نترقّب

وغنيت آمال النفوس وصغتها        روائع  تزكي من حنين وتلهب

رحلت وفي جنبيك أنّات أمّةٍ وفي    الصدر صيحات تثور وتغضب

رحلت وفي كل الميادين صرخةً         تردد أين الفارسُ المتوثب

        ثم يمضي في تعداد مآسي المسلمن في فلسطين ، والصومال ، والبوسنه ، والشام، ويعرّج على مرابع الذكريات التي جمعته بالشاعر الوفي وما تركه فقده من جوىً بين جوانح نفسه الوفيّه ، ثم يرسم صورة مشرقة لهذا الجثمان المسجى:

رأيتك في إشراقة الموت باسماً        وعيناك أسرار وثغرك يعرب

كأنك تلقى البشريات بما ترى          فيشرق وجهٌ بالهناة طيّب

مسجّىً حواليك الأحبة خُشعٌ         كأنك تتلو من عظات وتخطب

دعوتك حتى غاب صوتي من الأسى    وما عاد لي منك الجواب المحبب

شغلت بما يلقى التقي إذا قضى         وزادك إيمان وشوق يقرّب

_9_

        ويبدو النحوي جلداً صبوراً ، تعمل الفاجعة عملها في ثارة مواجعه لكنها تبقى في ساحات قلبه تجوب وتجوب ، فلا تجد إلاّ الصبر واليقين ، وهذه سمة المؤمنين، لكنه لا يخفى حزنه وألمه يقول في ذلك :

        غير أن الفراق لوعة أكباد     وجمر يزيد من حرّاته

دمعةٌ لم تجف من أمسي الغابر     قلب ما زال في خفقانه

كم تراني شيعت من صاحبٍ       أو من خليل أوفى على خلاّنه

وظننت الدموع جفت عليه          والمآسي نامت على أحزانه

وإذا بالقضاء أسرع من ظنّ         وأمضى في حده وسنانه

وإذا بالمصاب أعظم من دمعٍ         وأقسى من الأسى أو بيانه

جانح في الضلوع يقطع أحناء        ويفري الكبود في حدثانه

        ويمتد أنين الشاعر فيرثي أخاه نديم ، وصديقه عبد العزيز الرفاعي ... وغيرهم ممن تخطفهم الموت ... ولئن كان الشاعر صدوقاً في رثائه ، هتوناً للدموع ، بواحاً بالأحزان ، فإن أصدق بوحه ذاك الذي قاله في ولده إيّاد ... وكم رقّ قلبي لقراءة تلك البكائية الرائعة، وهي تكشف عن صدى نفسٍ طوت على الآلام جناحها .. ولقد كان النحوي كبيراً في تحمله للألم ، كبيراً في تصبره على الابتلاء ... وما من غرابة في ذلك فقد نمي إلينا أن أعربياً سئل عن أجود الشعراء ، فقال : ما رثينا به آبائنا وأولادنا وذلك أنا نقولها وأكبادنا تحترق !!

        لقد جاء حزن الشاعر على ولده يعلو على لغة الدمع ، ويتجه إلى هذه الإطلالة من التأمل الهادئ في مصير الناس المحتوم ويجمع النَقدَة على أن الشاعر الحق هو الذي لا تقذفه موجة طاغية من الفجيعه بحيث تنبهم دونه رؤية الأشياء على حقيقتها ... ولئن عاش النحوي حالة طاغية من الحزن العميق فقد ظلّ في كامل اتزانه ، وهدوءه ، والملاحظ أن العفوية الصادقة تتسلط على هذه القصيدة ، ويتدفّق المد العاطفي ويطغى على كل ما حوله ، فهذه القصيدة مرهونة بالمناسبة وشدة وقعها ، وهي تمتلئ بالمتفجرات العاطفيّة ....

        يبدأ النحوي هادئاَ ، وهو يتلّمس حاجته – وقد صعد على أعتاب السبعين عاماً- إلى بِرّ ولده الشاب الذي أسرع إلى لقاء ربه ، ثم يصور بتأثر عميق فجيعة أمة وإخوانه الذي يحاولون إخفاء ما بهم من حزن تصبّراَ أن لا تزداد حدة آلام والأب ، وتهيج بهم الأحزان ، لكنه لا يلبث أن يبيّن أن حزن الأم والأب هو من أشد أنواع الحزن ، إذ حبهما لولدهما حبٌ فطري يقبع داخل النفس ، وبين  حنايا الضلوع ثم يمضي فينقل ألواناَ من هذا الحزن المتجدد الذي يتمثّل في تلك الدموع الواكفة التي يهيجها تذكر إيّاد ، حينما يرى طيفه ويناديه بصوتٍ شجيٍّ حزين ، فيذكر برّه ، وعمله في المكتبة ويرى قميصه وكتابه ، ويذكر تعلّقه بالقرآن ، واستجابته ، لنداء الرحمن ، ثم يدعو له من قلب منيب، دعاء والد ازداد وهج الموجده في نفسه إثر رحيل ولده.... ثم لا يلبث أن يستكين ، وتخف حدّة مشاعره النفسيّة قليلاَ حينما يتبدى له أتراب ولده الذين سبقوه إلى الدار الآخرة فهو لاحق بهم ، وهم محتفون به هناك ... ثم ينقل صورة المعزيّن الذين يعزّون بولده، ويذكرون من شمائله ومحاسن أخلاقه ما يخفف وطأة الألم الواخز ، لكنه رغم الفجيعة القاسية يظل هاجس فجيعته بوطنه أكبر، فيتعالى على همومه وأحزانه الخاصة ليرتفع فوق إلى هموم أمته ووطنه السليب ، ويراه أحق أن يُعزّى به ...

        ولئن كانت قصيدته تعبيراً صادقاً عن تلك الحالة النفسيّة التي رانت على مشاعره ومشارف وجدانه ، وكانت هذه الحالة في عتمتها وحزنها ينبوع إلهام الشاعر ، ولكنه وهو غارق في عُباب حزنه لم يكن يعوم في أفقه الذاتي وحسب بل سرعان ما وجهته موجة المصيبة إلى وجهة أخرى _ إلى مصيبته في وطنه الذي غدا حرماً مستباحاً.

والنحوي من لهيب عاطفته المتأججة ، وموسيقيّته الفاظه الحزينة ، صاغ هذه الصورة الباكية ، فكان بذلك بين الشعراء الكبار الذين استطاعوا أن يحققوا الانسجام التام بين تموجات العاطفة وتموجات الألفاظ...

وحسبي هذه المقاطع من هذه البكائية الحزينة:

رحلت بُنيّ إياد وغبت        وبي من جوىَ هائجٍ منصب

فأنى التفت أرى طيفك الحل   و حولي يخاطبني يا أبي

وطلعة وجهك إشراقةٌ           واقبال طيفك لم يغرب

وبسمة وجهك نورٌ يفيض   عليّ يشق دجى الغيهب

ولهفة صوتك كم قد حنوت      على قلبي الخافق المتعب

فيجلو حديثك صفو النباهة     بالأدب المرهف الأعذب

تضم جناحيك حولي ببرّ     ندي الشمائل والموهب

---------------------------------

        إياد حنانيك كيف السلو        وطيفك حولي لم يحجب

فهذا كتابك يا ويح نفسي         كأنك ما زلت في المكتب

وهذا قميصك حلو الشذى      وهذا الرداء على المشجب

وهذا السرير كأني أراك فأُقبل     والشوق قد هاج بي

أعود وبي حرقةٌ من حنين        اليك إلى وجهك الطيّب

ومكتبةٌ نسّقتها يداك          على فطنة الماهر المعجب

أطوف بها ورؤى الذكريات       تطوف كأنك لم تذهب

يذكرّني كل ركن بها حنان     الفتى الطيّب الأحدب

______________________

رحلت بُني إياد وغبت       لى لوعة وأسىَ مصحب

إذا ما ذكرتك هاجت دموعي     فأسكب من وابلٍ صيّب

تنازعني النفس دمع يفيض     عليك وصبرٌ جميلٌ أبي

أعود إلى ذكر ربي فأخشع          للذكر والأمل الأرحب

-10-

        ولقد راض الألم قلب النحوي في وقت مبكّر من عمره ، إذ رمته سهام المصائب ففق أمه وهو في العشرينات من عمره فرثاها بقصيدة يشتعل  في كل بيت من أبياتها أسىً من لوعة الفراق ، ودمعة حرّى تُراق ، وتراه يخاطب أمّه المسجّاه مستحضراً كل ألوان الرحمة والحنان بين الأم وولدها يهيجه الشوق إلى برّها وقد رحلت فغدا وحيداً بعد أن أنطق لسان الولد الكليم فراح ينادي:

        أماه أطلقها الفؤاد ومازحت           صدق النواح مدامع الأجفان

        وأسىً إذا ما مسّ جانب         صخرةٍ لأذابها في ثورة البركان

يا قبر كم هطلت عليك مدامع       سبقت وكم حرك من أشجاني

واليوم أودعكم الأمومة إنها         دنيا تنفّس من هوىً ومعاني

ثم يرى في الموت راحة بعد عناء، وخلود بعد شقاء ، وتخلص من أسر دنيا شوقاً إلى نعيم باقٍ :

        يا أم فك الموت قيداً قاسياً         وطرحت عنك غلائل الانسان

        وتركت خلفك غير آبهةٍ           دنيا وآثرت النعيم الثاني

_11_

        والنحوي أوّاب إلى الله ، كثيرا ما يقف في محرابه، ويطرق باب رحمته، يسجل مشاعر نفسه وأشواقها ، وقلقها ، ويصور حالة عبوديته المطلق لله معبّراً بذلك عن أشواق قلبه معلناً عن استكانة نفسه لعظمه مولاه ، راجياً منه الرحمة وقبول الدعاء ... ولا ريب أن للحالة النفسيّة التي يعيشها الشاعر أثر كبير في ارتعاشات روحه:

يارب هذا دعائي كيف ارفعه          اليك وهو على الآثام محمول

لولا التأمل في رحماك ما انفرجت     نفس ولا كان للملهوف تجميل

وكم تنفس صبحٌ ما نسائمه          إلاّ ابتهال إلى الرحمن متبول

وما نداه سوى دمع أٌكفكفه         ياربّ علّ دعائي منك مقبول

خفق القلوب دعاءٌ أنت تسمعه      وللجوارح تسبيحٌ وتهليلُ

        واللجوء إلى الله دأب الصالحين ، الذين يستروحون الأمن والطمأنينة في رحابة القدسيّة ، فإذا عصفت بهم نكبات الزمن ،أو قرعتهم قوارع المحن كانوا الأقرب إلى الله ، يستمدون منه الغوث والنصرة ، ويسألونه العون بالقدرة ، وليس أعظم من نكبة المسلمين بدينهم في كل بقاع العالم ، فقد تهافتت عليهم الأمم الظالمة كتهافت الأكلة إلى قصعتها ، وليس لها من دون الله كاشفة :

        إلهي وفي جنبيّ خفقة وامق        وأنّي أوّابٌ إليك وخائف

وفي الدار  أهوال تمور وفتنةٌ      تدور ودمعٌ بين ذلك نازف

ودفق دماء والضحايا تناثرت زلازل     جنت حولنا ورواجف

فكم من فتاةٍ مزّق القهر سترها        وروّعها في النائبات الكواشف

هناك على البوسنة دواهٍ وفتنةٍ        وفي أرض كشمير لظىً وقذائف

وهذي فلسطين المدمّاة ويلها         يغيب تليد المجد فيها وطارف

وللمسجد الأقصى حنين ولهفة        تجيش بنا أشواقنا والعواطف

-12-

والنحوي يؤمن بدور الكلمة في إنهاض الأمم ، وتجدد شبابها واتساع آمالها ، و اقبالها على الحياة بدم جديد ، وحياة وحيّوية ولذلك فإنه من الدعاة إلى أدب اسلامي متفتح ملتزم بالإسلام نهجاً وبناءً، ويمتح من ركني التشريع قرآناً وسنة زاداً للأجيال المحبة لدينها :

يا إباء القصيد يرفعه الصدق         فيرقى إلى قطاف خلود

لا يسف الهوى ولا يهبط           الحسن ولا ينحني لعض قيود

شرف القول من هدى الحق            وسحر البيان بالتوحيد

أدب يرتوي البيان لديه            من حديث من الكتاب المجيد

رف بالطيب عوده فتمنّى          كل روضٍ نداوة من عود

ينثر الجوهر الكريم على           الدهر غنيّاً باللؤلؤ المنضود

ثم يخاطب الأديب الملتزم فيقول :

يا أديب الاسلام أين السرايا             نزعت من مضاجعٍ ومهود

أيقظتها صواعق من نداءٍ                خاطفات بقيّة من كُبُود

دفعتها إلى النزال أهازيج                فماجت على لهيب النشيد

وجلتها على بطاح فلسطين               دوّياً في يومها المشهود

وعلى كابل وزمزت الأرض             لهيباً وأرعدت بالجنود

وأما الأدب غير الملتزم بالإسلام فيقول فيه :

        أدب التائهين ليل وخمرٌ             بين كأسٍ محطّم أو غيد

        حين يغفو القصيد في خدر        السُّكر لخصر مهفهفٍ ونهود

        أدب ذلَّ في الفجور ونامت        بين أحضانه جفون العبيد

يتوارون خلف سحر شعار        كاذب أو زخارف ودعود

سمّ ما شئت من مثال فهذا         أدب الضائع الشقي الجحود

سوف يفنى مع الزمان ويبقى      أدب الحق شعلة في الوجود

-13-

        ويمدح النحوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لكنه مديح بنسرب من القلب تخالطه رهبة وهيبة ، لا يعرف كيف يبدأ مديحه وماذا يقول في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وحبه يعلو على كل حب هذه الدنيا :

        كيف أرقى إلى مديحك لكن              غلب الشوق والحنين الشديد

        غلب الشوق رهبتي وصراع             في فؤادي يغيب ثم يعود

        كلما لجّ في فؤادي شوقٌ                دفع الشوق رهبتي فتزيد

        وإذا بالخشوع يرفع أشواقي              فتصفو وترتقي فتجود

        إنما الله والرسول هما                   الحبُّ ولله وحده التوحيد

-14-

والجمال آية من آيات الله وشتان بين من ينظر إليه فتنة لا يقوى على مقاومتها ، وبين من ينظر إليه نعمة تُعرف من خلالها قدرة إبداع الخالق ...وحب الجمال فطرةٌ فطر الله الخلق عليها ... والكون كله لوحة بديعة إذا حدّق فيه المؤمن نظره ، تعرف دقّة صنع الله وكمال اتقانه ، فالجبال برسوّها ، والسماء بعلّوها ، وآفاقها الرحبة ، وبروجها العالية ، والارض وجناتها وعيونها ، والطيور وزقزقتها ورفيفها ، والبحار الزاخرة امواجها ، والسفن الشاقة عبابها .. وفوق ذلك هذا الإنسان الذي أودع الله فيه سر الجمال ، كل ذلك تختلف نظرة الانسان إليه بين جاحد وشاكر والشكر من صفات المؤمنين المتقين:

ففي كل ناحية آيه     من الحسن تجلى وحق مبين

تدل على أنك الله رب    الخلائق والعالمين

وليس يراها سوى مؤمن   وليس يراها سوى المتقين

وأنت جميل تحب الجمال    فقلت لنا : ياعبادي اتقون

_15_

وختاما : بالإضافة الى ما ذكرت من النواحي لشكليه عبر ثنايا الحديث السابق فلابد من الإشارة الى أن النحوي ظل يخفق بجناحي شاعر حلق في أجواء الحاضر ، وهو يستروح نسائم الماضي في قصيدته الخليليه ، لا يرضى أن يروم حياض ما يسمى بالشعر المحدث ، أو شعر التفعيله ... ويراه تعديا صارخا عل اصالة الشعر العربي التي لا يقبل ابا أن ينالها يد الردى ، إذ هي عنوان الفن الشعري الأصيل.

وأسلوب النحوي سلس سهل ، مشرق العبارة ناصع البيان ، مسلسل التفكير، قريبا إلى الفهم ، لم يكن شعره شعر الصنعة أو الكلف، وإنما كان شعر الاصالة تنعكس فيه روح صاحبه ، فتحسُّ وأنت تقرؤه بروحه تتغلغل في كل لفظة من الفاظه ، وتشعر بدمه يسري في كل بيت، فإذا أنت تقراء أنفاساً حية في كل بيت من أبياته وهذا هو الشعر متى كان القلب منبعه ، فالقلوب مصبه ..

ونحن نعلم أن النص مرارة تجلو نفس صاحبها ، وتعكس ما يضطرب فيها من المشاعر الجليّة التي يسهل استشفافها أو ما يكمن في مساربها العميقة ومطاوي اللاشعور وما فيها من ميول وأهواء ومن هنا جاء نتاج الشاعر موافقاً لنفسه وجاءت عواطفه صادقةً كل الصدق ...

وهو وإن غلبة التعريه والمباشرة على أسلوبه ، فذلك لأن قصائده كانت مرهونة بمناسبتها ، وسرعة استجابة نفسه وتأثره في الحدث ..

وحسبي هذه الوقفات _ ولولا الإطالة_ فهناك الكثير مما يقال في شعر النحوي ، هناك المدنية ودورها ، والملحمة الشعرية ورأيه فيها وهناك آراءه في النقد المنهجي الأدبي الذي يحلو أن يسميه ب( النصح الأدبي ) ، ولنا إن شاء الله تعالى _ وقفة أطول_ وعسى أن تكون قريبة.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

  انتهى تحريرها في السادس من ايلول سنة 2000 ميلاديه