بروكلمان والأدب الإسلامي

بروكلمان والأدب الإسلامي

د. حسن الأمراني: المغرب

تمهيد:

في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، قام الغرب يتمطى، ويلقي ببصره من وراء جبال الأورال، ليبصر العملاق الشرقي منتصباً جبّاراً، ومنذ ذلك التاريخ، تراوحت العلاقات الشرقية –الغربية ما بين الاحتكاك الحربي والاتصال الحضاري، وبالرغم من تعدد المشارق، إلا أن المشرق الإسلامي كان أشد المشارق حضوراً عند الغربيين عامة، وداخل المؤسسة الاستشراقية خاصة(1).

وقد تنازعت الاستشراق منذ ذلك التاريخ رؤيتان متباينتان: إحداهما الرؤية الكبلنجية(2) التي ترسخ المركزية الأوربية، وتقيس النمو الحضاري للأمم والشعوب إلى المرجعية الغربية وحدها، والأخرى تؤمن بالحوار الحضاري سبيلاً إلى تأسيس حضارة كونية(3).

ويبدو أن هذا التنازع لم يكن متكافئاً بحيث ظلت الرؤية الأولى مهيمنة على الحقل الاستشراقي هيمنة دفعت بعض المستشرقين إلى التصريح بأن الغرب لن يمتلك ذاته وجوهره إلا بتدمير آليات الاستشراق التقليدي(4).

وقد ألقى هذا التنازع بظله على الشرقيين، فوقفوا من الاستشراق ومؤسساته مواقف متباينة، تتراوح ما بين الدفاع والهجوم، إذ رأى بعضهم الاستشراق خيراً كله، ورآه بعضهم شراً كله، وحاول بعضهم أن يسدد ويقارب.

موقع بروكلمان من المؤسسة الاستشراقية:

يصنف كارل بروكلمان(6) عادة ضمن الزمرة المعتدلة من المستشرقين، وذلك بسبب أن المجال المعرفي الذي شغل هذا المستشرق كان –في معظمه- مجالاً يفرض نوعاً من الموضوعية لاعتماده الوصف والإحصاء، أكثر من اعتماده النقد والتحليل مما يغيب البعد الإيديولوجي، أو يخفف من غلوائه، على أقل تقدير. فقد اشتغل هذا المستشرق بالدراسات اللغوية خاصة، فألف في النحو المقارن للغات السامية، وفقه اللغات السامية(7) وحين انتقل إلى التأليف في الأدب العربي، كان كتابه (تاريخ الأدب العربي) عملاً ببيليوغرافيا في أساسه، مما لا يخرجه من دائرة الوصف والإحصاء(8) وما وقع فيه بروكلمان من أخطاء في هذا الكتاب يعده بعضهم(9) مما يقع لأي باحث، ولا دخل فيه للهوى وسوء النية.

من تاريخ النقد الأدبي:

هناك ملاحظتان ينبغي تسجيلهما ونحن نتناول كتاب بروكلمان (تاريخ الأدب العربي)(10).

- الملاحظة الأولى: أن هذا الكتاب ليس عملاً فهرسياً خالصاً بل هو يتضمن من الأحكام ما يكشف عن ذوق المؤلف الأدبي من جهة، وميوله ونزعاته المذهبية من جهة أخرى(11).

- الملاحظة الثانية: أن هذا الكتاب يتداخل فيه تاريخ الأدب –النقد الأدبي- فهناك الأدب في مجاله النظري، ويهتم بالحديث عن مبادئ الأدب ومقاييسه وقوانينه، وهناك الأدب في مجاله التطبيقي، ويهتم بدراسة النصوص الأدبية، إما في فترة زمنية معينة، وإما بتتبع تلك النصوص في مراحلها التاريخية المختلفة..

ويدخل تحت هذا المجال (النقد الأدبي) وهو سكوني في معالجته، و(تاريخ الأدب) وهو حركي في المعالجة(12) وإذا كان من الصعب فصل التاريخ الأدبي عن النظرية والنقد، بحكم أن التاريخ الأدبي يعالج الوقائع القابلة للتحقق من صحتها، وأن النقد الأدبي يعالج مسائل الرأي والإيمان(13)، فإن كتاب بروكلمان يقوم دليلاً على هذه الصعوبة، إذ إن كتابه، وإن كان يدخل ضمن دائرة التاريخ الأدبي، إلا أنه مليء بالنظرات والأحكام النقدية، فهو، وإن كان من جانب يقدم لنا رصيداً صالحاً من المعارف المتصلة بالأدب(14) إلا أنه يقدم من جانب آخر رؤية خاصة لذلك الأدب، وهذه الرؤية الخاصة هي التي جعلت بروكلمان يوفق إلى تقديم تقسيم جديد ومتميز لعصور الأدب يخالف به سابقيه ومعاصريه من العرب والمستشرقين على السواء، فقد قسم الأدب العربي إلى مرحلتين(15):

أ – أدب الأمة العربية، من أوليته إلى سقوط الأمويين.

ب – الأدب الإسلامي باللغة العربية.

فما الذي يميز الأدب الإسلامي عن غيره؟

وما الذي سوغ لبروكلمان أن يجعل العصر العباسي منطلقاً للأدب الإسلامي؟

وهل استطاع تجاوز المعيار الزمني في تقسيمه، أم أنه اكتفى بإعادة صياغته؟

ما الأدب الإسلامي؟

قبل خمسين عاماً، لم يكن مصطلح (الأدب الإسلامي) يثير ما يثيره اليوم من تساؤلات، فقد كان المعيار الزمني سبباً في صرف الدارسين عن تحديد طبيعة الأدب الإسلامي، ورصد خصائصه ومميزاته، ولم يكن يفهم من (الأدب الإسلامي) غير ذلك الأدب الذي تلا العصر الجاهلي، فجعله بعضهم وقفاً على عصر النبوة والخلفاء الراشدين، وامتد به بعضهم ليشمل عصر بني أمية(16).

ولم تبرز ضرورة إعادة النظر في المصطلح إلا مع فئة من الدارسين الذين مزجوا بين الدعوة والتذوق الأدبي، من أمثال أبي الحسن الندوي، وسيد قطب، ومحمد قطب(17) ومن سار على نهجهم كعماد الدين الخليل ونجيب الكيلاني ومحمد حسن بريغش.

لقد قدم هؤلاء مفهوماً جديداً للأدب الإسلامي، يكسر عنه طوق الزمن، ويجعله أدب فكرة لا أدب فترة، أدباً له خصائصه الثابتة في إطار التغيير، ومقوماته الأصيلة في إطار التطور، فهو التعبير الجميل بالكلمات عن الكون والحياة والإنسان، انطلاقاً من التصور الإسلامي للكون والحياة والإنسان.

هذا المفهوم لم يكن مما انتبهت إليه الدراسات والبحوث الأكاديمية المعروفة، فبقي، من أجل ذلك، المعيار الزمني سيفاً مصلتاً يميز الأدب الإسلامي عن غيره، وكأن الإسلام لحظة من عمر الزمن عبرت وانتهى وميضها.

ولذلك، فقد كانت إشارة بروكلمان إلى ظهور أدب إسلامي مكتوب باللغة العربية، مع مطلع العصر العباسي، إشارة جديرة بالتأمل والفحص.

يقول بروكلمان:

(لم يؤثر الإسلام تأثيراً عميقاً في شعراء العرب، كما يريد النقاد العرب أن يقنعونا بذلك، فقد سلك شعراء العصر الأموي دون مبالاة مسالك أسلافهم الجاهليين ولم تسد روح الإسلام حقاً إلا بعد ظهور العباسيين).

وهكذا نما في عهد العباسيين أدب إسلامي بلسان عربي(18).

إن بروكلمان، وهو يقرر نمو أدب إسلامي في عهد العباسيين، يعيد طرح بعض القضايا التي زرع بذورها النقاد القدامى من أمثال الأصمعي وابن سلام.

من المعلوم أن قضية أثر الإسلام في الشعر، سلباً أو إيجاباً، قد أثارها مجموعة من نقادنا القدماء، من الأصمعي حتى ابن خلدون، فقد ذهب الأصمعي إلى أن (طريق الشعر إذا أدخلته في باب الخير لان، ألا ترى أن حسان بن ثابت كان علا في الجاهلية والإسلام، فلما دخل شعره في باب الخير –من مراثي النبي صلى الله عليه وسلم وحمزة وجعفر رضوان الله عليهما وغيرهم- لان شعره)(19) وأثيرت من وراء ذلك قضية ضعف الشعر في الإسلام.

ويريد بروكلمان أن يدلل على رأيه، المتصل بضعف أثر الإسلام في الشعر، في مواطن مختلفة، إلا أن آراءه في هذا المجال لا تخلو من اضطراب، فهو يعد الإسلام مسؤولاً عن انحراف الشعر من لغة الوجدان والصدق إلى أن يصبح ضرباً من التسول. ففي مقارنة بين المديح في العصر الجاهلي وصدر الإسلام يقول:

(وكثيراً ما كان الشاعر يتجه بفنه أيضاً إلى مدح بطل أو أمير من قبيلته، ولكنه لم يكن يفكر قديماً في الجائزة الرنانة، التي نزلت بمكانة شعراء المديح المحترفين في بعض الأحيان، منذ عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى درك المتسولين بالغناء)(20).

فهذا يعني أن الشعر التكسبي لا أصل له في الجاهلية كما يعني أن المديح النبوي لم يكن دفاعاً عن العقيدة، ومنافحة عن الرسالة، بقدر ما كانت تمليه شهوة الطمع.

والذي شدا شيئاً من تاريخ الأدب العربي ونهى النفس عن الهوى، يدرك جيداً أصول المديح التكسبي عند العرب، ويعرف طبيعة العلاقة التي كانت قائمة بين المادح والممدوح، كما يعرف جيداً أمر الأعشى الذي قال عنه ابن سلام: (وكان أول من سأل بشعره)(21) وقال عنه ابن رشيق أنه (جعل الشعر متجراً)(22) وقد جعل القدماء ذلك سبباً من أسباب تدني مكانة الشاعر عن الخطيب في الجاهلية(23).

على أن بروكلمان يعقد الفصل الثالث من الباب الثاني، للبيد والأعشى، فيقول عن الأول:

(ولما طار ذكر لبيد في الشعر بقي وفياً بقومه، وازدرى مهنة الشاعر المتجول بالمديح، في طلب الجوائز والصلات)(24).

فلبيد إذن لا يمكن أن يتجانف عن نهج إلا إذا كان مطروقاً.

ويقول عن الأعشى:

(أما القصيدة الدالية المنسوبة إليه في مدح محمد (صلى الله عليه وسلم) فلم تعد أن تكون مزاولة للتكسب بالشعر، ولا يحتمل أن تكون لها علاقة بعقيدته)(25).

فكيف يمكن أن تكون مزاولة للتكسب بالشعر، وهي –إن صحّت(26) آخر شعره؟

وبروكلمان نفسه يقول بعد ذلك مباشرة:

(وكان الأعشى يجول بشعره في بلاد العرب من حضرموت إلى الحيرة، يكرمه الناس ويغمرونه بالصلات والهدايا إذا مدحهم، ويخشون حاله ويرهبون لسانه لإقذاعه في الهجاء).

فهذا نفسه –مما أنكره بروكلمان قبل- هو ما عبر عنه ابن رشيق حين قال عن الأعشى:

إنه (جعل الشعر متجراً).

وحين تحدث بروكلمان عن لبيد، قال عنه إنه (قدير على صياغة موضوعات البداوة صياغة ساحرة، ومما يزيد شعره نفاسة ما يتردد فيه من نغمات دينية)(28) فالنغمات الدينية إذن مما يزيد الشعر نفاسة.

وقد كانت حجة بروكلمان، للرد على من قال: إن لبيداً لم يقل شعراً في الإسلام، أن (كثيراً من شعره مطبوع بطابع الوحي)(29) فكيف يكون شعره مطبوعاً بطابع الوحي، ثم يقال إن أثر الإسلام فيه كان ضعيفاً؟ إلا أن يكون مرد هذا الحكم رأي أبي عمرو بن العلاء، وليس ذوق بروكلمان الأدبي(30)..

كان اعتذار بعض الدارسين عن ضعف أثر الإسلام في الشعراء الحديثي العهد بالإسلام، أنه كان لابد من فترة زمنية كافية، يتمكن فيها الإسلام من نفوسهم، وتتشربه أرواحهم، وتخالط بشاشته قلوبهم، ليصبح بعد ذلك منبعاً لإبداعهم ولذلك فإن صياغة هذا الشعر الذي دار حول النهضة الإسلامية (كانت على العموم صياغة جاهلية لم يستطع العقد الحديث بحوادثه العظيمة أن يغير منها، لأنها ثمرة ملكات عقيدة تم نضجها من قبل، ولأن تغير ملكات الشعر ومواهبه يسير ببطء، بل يتم على يد جيل جديد(31).

وعلى هذا، لم يكن من المنتظر أن يظهر أدب إسلامي خالص مع ظهور الإسلام، لا في عهد النبوة، ولا في عهد الخلفاء الراشدين، ولاسيما إذا عرفنا أن معظم شعراء الرسول، صلى الله عليه وسلم، سلخوا أشطراً من أعمارهم في الجاهلية، فكان لابد من انتظار أجيال جديدة، لا صلة لها بالجاهلية لتشهد ميلاد أدب إسلامي، جدير بهذا الاسم، ومن هنا يكون إطلاق مصطلح (الأدب الإسلامي) على أدب صدر الإسلام، فيه كثير من التسامح.

وبالرغم من أن هذا الرأي بحاجة إلى كثير من الفحص، لتعارضه مع كثير من نصوص تلك الفترة، إلا أنه منسجم، إلى حد ما، مع رأي بروكلمان الذي ذهب إلى أن روح الإسلام لم تسد حقاً إلا بعد ظهور العباسيين، وقد اعتمد بروكلمان، فيما ذهب إليه، معيارين اثنين:

فأما المعيار الأول، فمرتكزه أن المجتمع الإسلامي، إلى نهاية العصر الأموي، ظل مجتمعاً خالصاً، ولئن كان العرب قبل الإسلام، على الرغم من تشتتهم السياسي في الظاهر، ربطت بينهم وحدة معينة في أفكار الديانة والعادات وجعلت منهم أمة واحدة(32) فإن هذه الوحدة ظلت قائمة في العصر الأموي بحكم كون (سلطان الدولة الأموية سلطاناً عربياً أصيلاً، متجاوباً تماماً مع نزعات الأمة العربية، موافقاً لطابعها الشعبي إلى حد معلوم)(33) ومن هنا ظل قالب القصيدة العربية في العصر الأموي قالباً جاهلياً، إلى أن (صار طرازاً قديماً بالياً في أواخر عهد الدولة الأموية، فلم يقو على مسايرة العصر)(34).

وهكذا سينشب -على الصعيد الشعري- صراع عنيف بين أنصار العمود الشعري وأنصار التجديد، ولن ينجو من آثار أوار هذا الصراع رجال السلطة، وفي مقدمتهم الخلفاء ، فهذا الخليفة المأمون، ذو الأصول الفارسية من جهة أمه، يتعصب للأوائل من الشعراء ويقول: انقضى الشعر مع ملك بني أمية إلى أن أنشده يوماً عبد الله بن أيوب التميمي شعراً مدحه فيه، فاستحسنه واعترف بأن للمحدثين فروع الإحسان(35).

ومع اتساع رقعة البلاد المفتوحة، وقيام دولة بني العباس رجحت كفة الأعاجم، وأتيح للشعوب غير العربية التي انضوت تحت لواء الإسلام، أن تسهم بحظ عظيم في حضارة الإسلام، وكان للأدب من ذلك نصيب وافر، وهكذا صارت العربية لغة التعبير الشعري، عند تلك الشعوب. في وقت لم يكن العجم قد وصلوا بعد إلى أن يقدموا أدباً خاصاً في لغاتهم، فأول شعراء الفرس الكبار: (رودكي) من شعراء القرن الرابع. وهو شاعر غنائي، وأما أقدم الشعراء القصصيين في الأدب الفارسي فهو (عنصري) وهو من شعراء القرن الخامس. بل إن اللغة الأدبية بعد الفتح لم تكن هي اللغة الأدبية التي سادت في العصر الساساني قبل الفتح العربي(36) وهكذا أصبحنا منذ بداية العصر العباسي أمام أدب جديد، يصح أن نطلق عليه (الأدب الإسلامي) من حيث كونه صادراً عن شعوب كثيرة دانت بالإسلام، ولم يعد وقفاً على العرب، وإن كان الجميع قد رضي العربية لساناً.

وأما المعيار الثاني: فهو مرتبط بالقيم، ويتجلى في مظهرين اثنين هما(37):

أ - محاربة تهاون العرب الديني.

ب - مقاومة طبيعة العصبية القومية.

لقد اكتفى بروكلمان بالإشارة العابرة إلى هذين المظهرين، وما كان أجدر، أن يفصل الحديث في هذا الموضع ويدعم وجهة نظره بضرب الأمثلة. ولو تحقق هذان المظهران، إذن لأمكننا أن نتحدث عن سيادة روح الإسلام في هذا العصر، ولجاز لنا بعد أن نلتمس الشق الثاني من العملية الإبداعية، وأعني به القيم الفنية للنص الأدبي.

لقد كان بروكلمان يتحدث عن العصر السابق للعباسيين وكأنه لحظات تاريخية متجانسة، غافلاً عن الشرخ العميق الذي حدث بانتقال الحكم السياسي من خلافة راشدة إلى ملك عضوض، والعصبية القومية التي يتحدث عنها، إنما تفاقم أمرها على عهد بعض ملوك بني أمية الذين وجدوا في الصراع بين القيسيين واليمنيين باباً من أبواب صرف الناس عن القضايا الجوهرية.

وكان إلى جانب ذلك الصراع القبلي القائم على العصبية المنتنة، صراع آخر لا يقل حدة وهو الصراع السياسي الذي جسدته أحزاب المعارضة، وقد خلَّف شعراء تلك الأحزاب وخطباؤها أدباً ثرّاً، ما أحوجنا إلى أن ننظر فيه من جديد، ونتلمس ما فيه من خصائص الأدب الإسلامي، وبغض النظر عن الخلاف المذهبي العارض الذي لا يجوز أن يحجب عنا الحقائق الأدبية، فإن بعض أدب الخوارج يمثل نموذجاً صالحاً للأدب الإسلامي. وتقوم خطبة أبي حمزة الشاري مثلاً على ذلك(38).

والأدب الذي جسد مأساة آل البيت لا يقل قيمة، من الناحيتين الأدبية والتاريخية، عن أدب الخوارج، هذا فضلاً عن أدب الفتح الذي نما وترعرع منذ عصر الراشدين، وتابع طريقه في العهود التالية، حتى فتح أنماطاً فنية جديدة أغنت الأدب العربي، وما تزال حتى الآن بحاجة إلى من يقف عندها الوقفة المتأنية التي تمكن من إعادة النظر في كثير من الأحكام النقدية السائدة، المتعلقة بأدب تلك الفترة خاصة، وبالأدب الإسلامي عامة(39).

ثم إنه قامت في العصر العباسي، على أنقاض العصبية القومية التي يتحدث عنها بروكلمان، عصبية أخرى لعلها أشد خطراً من الأولى، وأعني بها الشعوبية التي عملت على تقويض قيم المجتمع الإسلامي، قبل أن تأتي على الدولة العباسية نفسها وتعصف بها في آخر المطاف. وإن كان بعض الدارسين يرى أن الشعوبية قد بدأت بمعناها الصحيح في العصر الأموي، وسبب ذلك (أن الحكم الأموي الذي كان ينزع نزعة عربية، ويميل إلى التمسك بالتقاليد العربية، متجاهلاً بذلك مبدأ المساواة الذي نزل به القرآن، نقول إن هذا الحكم قد هيأ للشعوبية جواً صالحاً، وتربية طيبة.. فحاول الأمويون جهدهم أن يخففوا من حدتها، فلما أخفقوا، حاولوا القضاء عليها، فكان ذلك سبباً في استعارها، وتسربها في مسارب خفية، ولكنها أخطر وأشد وطأة)(40).

ولم تكن الشعوبية تعني -في جوهرها- صراعاً عرقياً فحسب، بل أضيف إلى ذلك عنصر آخر متصل بالعقيدة، فكان أغلب الشعوبيين من الزنادقة(41) سواء أكانت تلك الزندقة متسترة باطنة، أم ظهرت في وضوح كاشف.

على أن هذا لا يدفعنا إلى التعميم في الأحكام، بل على العكس من ذلك، ينبغي أن نستيقن أن الصورة الأدبية للعصر العباسي لن تكتمل إلا بالنظر إليها من جميع جوانبها، وإذا كان الأدب الذي عني به المستشرقون من أدب تلك الفترة، وتابعهم على ذلك بعض الشرقيين هو أدب النماذج المنحرفة عن روح الحضارة، فإن من واجبنا أن ننفض الغبار عن التراث الأدبي الذي يصور روح الحضارة أصدق تصوير، ونجلي للناس كنوزاً دفينة، وإذا كان مستشرق، مثل (ماسنيون) قد حكم على القرن الرابع الهجري بأنه القرن الإسماعيلي للإسلام، فإن النظرة المتأنية تثبت خطأ هذا الحكم الذي لا يرمي إلا إلى تثبيت الرؤية الاستشراقية المقدسة للمركزية الأوروبية.

والخلاصة أن مفهوم الأدب الإسلامي عند بروكلمان ظل مرتبطاً بمصدره، فهو أدب شعوب، لا أدب شعب واحد، وإن اتخذ لساناً واحداً أداة للتعبير، وإذا كان بروكلمان قد حاول أن يتجاوز المعيار الزمني الذي تقوقع داخله سابقوه ومعاصروه من العرب والمستشرقين، فإنه لم يستطع أن يتبين -بناء على ذلك- أن الإسلام ليس فاصلاً زمنياً بين عصرين فحسب، بل هو فاصل حضاري، له تفسيره الخاص لكل مظاهر الوجود، وله رؤيته المتميزة للكون والحياة والإنسان، مما يكسب الأدب الإسلامي، تبعاً لذلك، بعداً إنسانياً، غير متقيد بالزمان والمكان، وإن كان متفاعلاً مع الزمان والمكان والإنسان.

            

الهوامش

(1) R. Shcwab: la renaissance oientale.

(2) تأسيساً على قولة R.Kipling الشهيرة: (الشرق شرق والغرب غرب، ولا يلتقيان) وقد ولد كبلنج، الشاعر والروائي الإنجليزي، في بومباي بالهند، عام 1865، وتوفي في لندن عام 1936، ومن أشهر كتبه: كتاب الأدغال، وقد نال كبلنج جائزة نوبل عام 1907، وتقوم فلسفته على استعباد الشعوب الشرقية.

(3) ظهر ذلك عند رجا كارودي خاصة، في كتابه: حوار الحضارات، وقد كانت هذه الحضارة الكونية حلماً عند طائفة أخرى من المستشرقين، من أمثال الفرنسي ماسينيون الذي نادى بضرورة كونية تتلاقح فيها الديانات الإبراهيمية الثلاث. إلا أن عصب تلك الحضارة يظل هو الوجه اليهودي -المسيحي، ومن هنا كان تفسير ماسينيون لمأساة الحلاج منسجماً مع هذه الرؤية التي يؤكدها الحلاج المطلوب في قوله:

على دين الصليب يكون موتي   ولا البطحا أريد ولا المدينه

وانظر أيضاً: R.Arnldez, Hallaj, ou la neligion te la croix.

(4) انظر على سبيل المثال:

مكسيم رودنسون: جاذبية الإسلام.

 بريان تيرنر: ماركس ونهاية الاستشراق.

(5) يمثل الطائفة الأولى: عبد الرحمن بدوي ونجيب العقيقي، ويمثل الطائفة الثانية محمود محمد شاكر وأنور الجندي، بينما تقوم بنت الشاطئ مثلاً للطائفة الثالثة.

(6) انظر ترجمة كارل بروكلمان (1868 - 1951) في كتاب العقيقي (المستشرقون) 1/404 - وفي (موسوعة المستشرقين) لعبد الرحمن بدوي ص: 57.

(7) ترجم د. رمضان عبد التواب كتاب بروكلمان: (فقه اللغات السامية) ونشرته جامعة الرياض.

(8) لعل أهم كتاب يعكس آراء بروكلمان الإيديولوجية هو كتاب (تاريخ الشعوب الإسلامية) الذي ترجمه إلى العربية منير بعلبكي ونبيه فارس. ومع ذلك فإن هذا الكتاب يظل عند بعض المدرسين بعيداً عن التحيز والتعصب.

(9) يقول د. عبد الرحمن بدوي: (وكان من الطبيعي أن يقع في مثل هذا العمل الجبار أخطاء في أرقام المخطوطات، وفي التواريخ، فضلاً عن الأخطاء الناجمة عن المصادر التي استعان بها، وخصوصاً فهارس المخطوطات، ونحن نعلم بالممارسة أنه لابد من وقوع أخطاء -وربما عديدة- فيها، وخصوصاً في تحقيق هوية المؤلفين، لأن الكثير من المخطوطات لا يحمل أسماء مؤلفيها، ولهذا فإن الجهال والمتطفلين والعاجزين هم وحدهم الذين يتباهون بإبراز غلطة هنا أو غلطة هناك في عمل بروكلمان العظيم هذا، وينبغي أن يقال لهم ما قال الحطيئة:

أقلوا عليهم -لا أبا لأبيكم-     من اللوم أو سُدّوا المكان الذي سَدّوا

وهم طبعاً لم يسدوا أي مكان، ولا واحداً من ألف (أو من مليون) مما يسدّه بروكلمان بكتابه هذا) المرجع السابق: 62.

وحتى لا نرمى بالتطفل والجهل والعجز، نبادر إلى القول بأن الخطب في كتاب بروكلمان -رغم أهمية الكتاب التي لا تنكر- أعظم مما ظنه بدوي.

(10) سيكون هذا الكتاب، ولا سيما في جزأيه الأول والثاني، مصدرنا الأول في هذا البحث.

وسنعتمد الترجمة التي أنجزها الدكتور عبد الحليم النجار، وأصدرتها الإدارة الثقافية لجامعة الدول العربية في طبعتها الثانية بمصر عام 1968.

(11) فأما ما يتعلق بالذوق الأدبي، فسنقف عند بعضه في هذا البحث، وأما ما يتعلق بالميول والنزعات المنهجية، فبالرغم من أن المقام لا يحتمل التفصيل، إلا أنه لابد من الإشارة إلى بعض من ذلك: عن محمد، صلى الله عليه وسلم يقول: إنه (استخدم في دعوته أساليب الكاهن، كما عزا -على غراره- أحوال غيبوبته وما يصدر في هذه الأحوال من تصريحاته إلى رفيق ذكر فيما بعد أنه الملك جبريل، واعتقد أنه رسول الله إليه).

وتهافت مثل هذه الأقوال بيّن جليّ، وقد تولت الرد على ذلك الإدارة الثقافية للجامعة. انظر التعليق في: 134/1)

وعن القرآن الكريم، يتابع بروكلمان رأي كثير من المستشرقين في إنكار الوحي، والزعم بأن القرآن من نظم الرسول الكريم، وأنه (في المدينة، حيث ترقى النبي إلى مرتبة الحاكم وزاول عمله المثمر، فإن مواعظه وتشريعاته، وإن احتفظت بقافية السجع، التي كثر مع ذلك عدم إحكام تناولها، قد تحولت إلى نثر خالص كان على محمد نفسه أن يبتكر أسلوبه، على الرغم من أنه كان يعوزه استعداد لغوي خاص، كما كان يعوزه كل من الدرس والتعليم). (137/1 - 139).

(12) وارين - ويليام: نظرية الأدب.. (47).

(13) المرجع نفسه: 18.

(14) من المفيد الإشارة هنا إلى أن مفهوم الأدب عند بروكلمان واسع جداً، فهو يتضمن كل ما صاغه الإنسان في قالب لغوي ليوصله إلى الذاكرة. (271).

(15) بروكلمان: 1: 26.

(16) لم يكن نقادنا القدماء بعيدين عن هذا التقسيم، حين وقفوا بالأدب الإسلامي عند نهاية عصر بني أمية. قال ابن رشيق في العمدة (112/1) "طبقات الشعراء أربع: جاهلي قديم ومخضرم.. وإسلامي ومحدث" وانظر أيضاً تقسيم ابن سلام في الطبقات والمرزباني في الموشح.

(17) انظر في ذلك: (نظرات في الأدب) لأبي الحسن الندوي، و(في التاريخ فكرة ومنهاج) لسيد قطب، و(منهج الفن الإسلامي) لمحمد قطب.

(18) بروكلمان: 66/1.

(19) الموشح: 85 - وقد اعتبر بروكلمان تصريح الأصمعي هذا جرأة. (153/1)

(20) بروكلمان: 5/1.

(21) ابن سلام: 6.

(22) ابن رشيق: 81/1.

(23) وقد بين ابن رشيق أن النابغة الذبياني كان أول المتكسبين بالشعر، وأن الأعشى قصد حتى ملوك العجم.

(24) العمدة: 82/1 - وانظر رأي أبي عمرو بن العلاء في البيان التبيين: 241/1.

(25) المصدر نفسه: 118/1.

(26) يتابع بروكلمان بعض السابقين ويشك في صحة الدالية، بقوله: ولا شك أنها منحولة (148/1).

(27) المصدر نفسه.

(28) المصدر نفسه: 145/1.

(29) المصدر نفسه.

(30) قال الأصمعي: سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: ما أحد أحب إليّ شعراً من لبيد بن ربيعة، لذكره الله عز وجل، ولإسلامه، ولذكره الدين والخير، ولكن شعره رحى بزر . (الموشح: 100) وقد أورد بروكلمان هذه القولة في كتابه: 146/1.

(31) أحمد الشايب: تاريخ الشعر السياسي، ص 9- 8.

(32) بروكلمان: 47/1.

(33) المصدر نفسه: 7/2.

(34) المصدر نفسه: 2/2.

(35) المصدر نفسه: 10/1 - وقد نقل بروكلمان الخبر عن الخطيب في تاريخ بغداد: 19/6.

(36) د. محمد غنيمي هلال: مختارات... (6).

(37) بروكلمان: 36/1.

(38) البيان والتبيين: 122/2، وانظر نصوصاً أخرى للخوارج في كتاب المبرد: الكامل.

(39) لا تفوتنا الإشارة إلى الدراسة القيمة التي أنجزها الدكتور النعمان القاضي بعنوان: شعر الفتوح الإسلامية.

(40) انظر كتاب زاهية قدورة: الشعوبية وأثرها الاجتماعي والسياسي. ص 327 – 328.

(41) المرجع نفسه: 127.

 

مراجع البحث

أولاً: المراجع العربية والمعربة

1 - بدوي (ع): موسوعة المستشرقين - بيروت ط1، 1984.

2 - بروكلمان (ي): تاريخ الأدب العربي (2.1) نقله إلى العربية، د. عبد الحليم النجار - دار المعارف بمصر - ط2، 1958.

3 - الجاحظ: البيان والتبيين تحقيق عبد السلام هارون - بيروت، ط4.

4 - ابن رشيق: العمدة - تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد - بيروت ط4، 1972.

5 - ابن سلام طبقات فحول الشعراء - شرح محمود شاكر - مصر.

6 - الشايب (أ): تاريخ الشعر السياسي - القاهرة ط4، 1955.

7 - العقيقي (ن): المستشرقون (2) دار المعارف بمصر ، ط4.

8 - غنيمي هلال (م): مختارات من الشعر الفارسي - القاهرة 1965/1385.

9 - قدورة (ز): الشعوبية وأثرها الاجتماعي والسياسي في الحياة الإسلامية في العصر العباسي الأول - بيروت، ط1، 1972.

ثانياً: المراجع الأجنبية:

R. Schwab, lea remaissance orientale, ed. PAYOT, prais.

R. Arnaldez, Hollaj, on la religion ole la eroix, PARIS, 1964