شاعر العروبة والمقاومة سميح القاسم في ذمة الله

شاعر العروبة والمقاومة

سميح القاسم في ذمة الله

د. محمد عقل

[email protected]

انتقل إلى رحمة الله تعالى مساء يوم الثلاثاء 19/8/2014 الشاعر الكبير والأديب المبدع سميح القاسم عن عمر يناهز ال75 عامًا، وفيما يلي كلمة عن المراحل التي مر بها شعره:

1.لا نقاشَ في أن سميح القاسم من أبرز الشعراء والأدباء العرب ليس في فلسطين فحسب وإنما في العالم العربي. هذه المكانةُ المتميزةُ لسميح القاسم ونتاجهِ مردُّها إلى موهبةٍ شعرية وأدبيةٍ فذة، وأكثرَ من 56 عامًا من العطاء المتواصل وجهودِ مُثابَرةٍ في تجديد فنّهِ والارتقاءِ به دونما توقف. منذ الستينيات من القرن الماضي عَرَفناه شاعرًا ينافح عن قضايا شعبه في الداخل وفي الخارج وبخاصة عن مصر عبد الناصر ولا عجبَ أن كان أولَ شاعرٍ فلسطيني استعمل كلمة (أُقاوم) التي منها اُشتق اسم (شعراء المقاومة). تقول الباحثة الدكتورة رقية زيدان ابنة قرية يما: "وفي حديث هاتفي سألت سميح القاسم عن صحة هذه المعلومة فرد بالإيجاب، واستخدمها الشعراء من بعده، وأضاف إنه (أولُ من استعمل متتالية لا أساوم، سأقاوم، أقاوم، كَفْر قاسم، الحمائم، عائم، نقاوم، ليدٍ ظلت تقاوم) ومن الجدير ذكره أن هذه القصيدةَ نُظمت خصيصًا لشهداء مجزرة كَفْر قاسم، يقول فيها سميح:

ومن المذياع، أنباءٌ عن العامِ المجيد:
"مصرُ بركانٌ.. وكلُّ الشعبِ يحمي بور سعيد
 أيها الأخوةُ.. والنصر أكيد!"
يومَ قالوا: سقطوا قتلى وجرحى
صِحتُ والأدمعُ في عيني: مرحى
ألفُ مرحى!!
يوم قالوا.. ما بَكَيتُ
ومضتْ بضعةُ أيامٍ على عيد الضحايا
وأتيتْ
وتلقاني بَنُوكِ البسطاء
وتلونا الفاتحة
وعلى أعينِ أطفالك
يا أمَ العيونِ الجارحة
يَبِسَ النهرُ وماتت في أغانيَّ الحمائم
وأنا يا كَفْرَ قاسم
أنا لا أُنْشِدُ للموت.. ولكن
ليدٍ ظلّتْ تُقاوم!

وهناك قصيدة مشهورة غناها مرسيل خليفة تبدأ

منتصبَ القامةِ أمشي

مرفوعَ الهامة أمشي

في كفي قصفة زيتونٍ

وعلى كتفي نعشي

وأنا أمشي وأنا أمشي....

ويلاحظ أن سميح استعمل طريقة الحذف لقصائد وكلمات.

2.يجد القارئ في أعمال سميح القاسم أنه متأثرٌ بالتراث الأدبي من شعرٍ ونثر، فمرةً يُضمّن أبياتًا شعرية كاملة، وتارةً يُضمّن أسماءً لشخصيات أدبية كالشنفرى وعنترة والحطيئة والمتنبي وبدر شاكر السياب، وذلك ليُغني أدبَه بالثقافة العربية والإسلامية ولتوظيف الألفاظ التراثية مما أعطى شعرَه أبعادًا رحبةً ورموزًا لدلالات متغيرةٍ عن معناها المعجمي إلى المعنى الإيحائي. فمثلاً يذكر سميح القاسم أن أباه صنع مجده التاريخي العريق، ثم انهدم، لم يعد كما كان، لا فتوحات، ولا عمر، ولا مجد ولا عز حيث نراه يقول:

وناداني فراخي الزغبُ

لا ماءٌ ، ولا شجرُ

ولا فتحٌ، ولا جابٍ ولا عُمرُ

فلا تغضب ولا تعتب(المجموعة الكاملة 1/167).

وهذه الأبيات تذكرنا بأبياتٍ قالها الحطيئةُ في استعطاف الخليفة عمر بن الخطاب حين ألقى به في السجن:

ماذا تقولُ لأفراخ بذي مَرَخٍ ** زُغْبُ الحواصلِ لا ماءٌ ولا شجرُ

ألقيت كاسبهم في قعرِ مُظْلِمَةٍ ** فاغفر عليك سلامُ الله يا عمرُ

هنا يُضمّن سميح القاسم عباراتٍ من أبياتِ الحطيئة مثل: فراخي الزغب، لا ماء، لا شجر، عمر ليصلَ إلى هدفٍ مغايرٍ لما قصده الحطيئةُ، فالحطيئةُ يتحدثُ عن أبنائهِ الحقيقيين، بينما سميح القاسم ينحرف بالمعاني ليكتبَ عن أبناء الشعب العربي أو الفلسطيني.

 لو تحدثنا على الصعيد الشخصي نقول إن جذورَ سميح القاسم عربيةٌ أصيلةٌ ففي مشجرة عائلته الكريمة يتكرر على التوالي اسمان هما محمد وحسين، ولا عجبَ أن سمّى ابنه وطن محمد، للدلالة على تشبثه بالإسلام والعروبةِ والوطنِ.

3. أصدر سميح القاسم أكثرَ من 26 مجموعةٍ شعرية بدءًا بمجموعة "مواكب الشمس" عام 1958 وانتهاءً بمجموعته الأخيرة "سأخرج من صورتي ذات يوم" سنة 2000م.  في نظرة تقريبية يمكننا تقسيمَ أعمالهِ الشعريةِ إلى ثلاثِ مراحلَ فنيةٍ متميزةٍ. في البداية، في المرحلة الأولى كانت قصيدته حماسيةً أو كما سماها "توهجَ الشباب"، وهي تتسمُ رغم ذلك بالواقعيةِ حيث حاول فيها رسمَ الوقائعِ القاسيةِ في الوجودِ الفلسطيني داخلَ إسرائيلَ بأدوات بسيطةٍ ونغمةٍ صريحة ومبانٍ خطابيةٍ عالية. في تلك المرحلة لا بد من التنويه بأن سميح القاسم كان عضوًا في الحزب الشيوعي الإسرائيلي، فتأثر بلا ريبٍ بالمبادئ الماركسية في اعتبارها الشعرَ والأدب عامةً وسيلةً ثوريةً ترمي إلى تحفيزِ الجماهير عن طريقِ التغيير. في هذه المرحلة كانت أشعارُه في معظمها "أشعار مقاتلة" بكل معنى الكلمة، فقد كانت قصائده احتجاجًا صارخًا ضد النظام المضطهد في إسرائيل، فعبّر عن المأساة المرة للشعب الفلسطيني بوجه عام، ولكنها في الوقت ذاته اصطبغت بمسحة واضحة من الأمل والتفاؤل كما هو متوقع من الواقعية الاشتراكية.

ترك سميح القاسم الحزب الشيوعي وبارك خطوات غورباتشوف الإصلاحية التي أدّت إلى انهيار الاتحاد السوفياتي في قصيدة تحمل اسمه. ثم صار رئيسًا لتحرير صحيفة كل العرب.

4. مع انطلاق الانتفاضة الأولى سنة 1987م كان انطلاق قصيدتها الأولى "رسالة إلى غُزاةٍ لا يقرأون" التي عرفت جماهيريًا بلفظتها الأولى وإيقاعها الأول: تقدّموا

تقدموا.. تقدموا

كلُّ سماءٍ فوقكم جهنمُ

وكل أرضٍ تحتكم جهنم

تقدموا..

يموت منا الشيخُ والطفل

ولا يستسلم

يقول سميح القاسم: "لم أكن مراقبًا في الانتفاضة ، وإنما كنت في قلب الحدث، وشاركت في فعالياتها، وقصيدة الانتفاضة أولُ عملٍ شعري متكاملٍ كُتِبَ في قلب الانتفاضة، وبدأتْ إيقاعاتهُ على إيقاع قنابل الغاز والرصاص المطاطي والشظايا التي كانت تتطاير من حولي في القدس... إيقاعاتها بدأت هناك.. أخذتُ إيقاعَ الشارع وإيقاعَ المظاهرة ورائحةَ الغاز المسيّل للدموع التي دخلت رئتي.. كأنما كل هذه الأمور كَتبتْ نفسها في هذه القصيدة.. رغم البساطة الظاهرية والمباشرة الفنية الموجودة فيها دون شك فإنها من نوع الشعر الذي نطلق عليه اسم السهل الممتنع. الانتفاضة تحولت إلى هاجس ليس في الشعر الفلسطيني فحسب بل في الشعر العربي ككل لأنها تحولت من حدث سياسي إلى هَمّ قومي ووطني وإنساني.

5. يقول الباحث باسل محمد علي بزراوي في أطروحة ماجستير بعنوان "سميح القاسم –دراسة نقدية في قصائده المحذوفة"(2008م) إنه لمس لدى سميح في المرحلة الراهنة الميل الشديد لاستخدام الرموز الدينية الغامضة في كثير من قصائده الجديدة بحيث لا يستطيع القارئ أن يُلم بمضامينها، أو أن يخرج منها بتصور دقيق. فقد أخذ الشاعر يستخدم رموزًا فاطمية وشيعية وتوحيدية أدت إلى غموض شعره.

في هذا السياق أود أن أشير إلى أن جذور التشيع في الإسلام وأصوله عربية، وليست فارسية كما يظن بعضهم، فقد ظهر التشيعُ في الكوفة وغيرها من الحواضر الإسلام ثم انتقل إلى شمال إفريقية، ومنها وصل المد الفاطمي إلى مصر وبلاد الشام، والقاهرة كانت أول العمران في زمن المعز لدين الله الفاطمي. الشرق كله مصبوغ بصبغة شيعية تعتمد على حب الإمام علي وأمه فاطمة، وأقصد السنة منهم، ففي عرعره عثرت في مخلفات الشيخ أحمد داود الخطيب على مخطوطة قديمة مؤرخة في سنة 1264?/1848م اسمها " غزوة وادي السِّيسبان" تروى قصة محبة الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي ونجدة علي للرسول الكريم في معركة فاصلة، والقصة تخرج عن السياق التاريخي وتدخل في المجال الأسطوري. وهي من الإرهاصات الأولى للقصة الفلسطينية، وقد قمت بتحقيقها ونشرها في موقع إي بوك الإلكتروني في لندن. عودة سميح القاسم إلى الرموز الدينية الفاطمية هي عودة إلى الجذور العربية الأصيلة.

رحم الله فقيد فلسطين وأسكنه فسيح جناته، وألهم ذويه الصبر والسلوان. وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.