رسائل النور والأدب الإيماني (1)

إحسان قاسم الصالحي

رسائل النور والأدب الإيماني

(1)

إحسان قاسم الصالحي

مركز رسائل النور ـ استانبول

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد

لاشك أن البلاغة هي الكلام بمقتضى الحال، أي ليس فيه إطناب مملّ ولا إيجاز مخلّ، فإن قارئ رسائل النور لبديع الزمان النورسي، يصل إلى معانيها ومراميها في بلاغة فائقة  بمجرد قراءته لها بإمعان، ويشعر أنه يقرأ أبلغ ما كتب باللغة العربية التركية، إذ ليس فيها استطرادات كثيرة، ولا حشو في الكلام. فليس في أدب رسائل النور تقعر وتنطع وتقصٍ للغرائب كما في أدب أواخر الدولة العثمانية، ولا تشدق بالألفاظ الإفرنجية والمصطنعة التي نراها في الأدب التركي الحديث. وإنما جمع روعة الأداء واختيار الكلمات وعمق المعاني وشفافية الروح.

ويكفي القارئ الكريم أن يقرأ الرسالة بتمعن فيتذوقها، ولا يحس بنفسه إلاّ وكأنه يقرأ شعراً رقيقاً وأدباً رفيعاً؛ لما فيها من الخيال الخصب والوصف البديع ومخاطبة الوجدان، وكذلك يرى نفسه أمام حجج وبراهين منطقية تقوّم فكره وعقله. لذا فلا ينتهي من رسالة إلاّ والعقل قد أخذ حظه الكامل والروح قد ارتوت والقلب والخيال كل قد أخذ نصيبه، بحيث يمكنك أن تطلق على كل رسالة أنها علمية و روحية و قلبية معاً، فهي ليست لواحدة منها فحسب، وإنما مندمجة وممتزجة مزجاً بديعاً متقناً في أسلوب أدبي رفيع.

وهذا هو سر رسائل النور في انتشارها بين العوام والخواص، إذ يتذوقها كل مَن يتعامل معها بقلب سليم. ويكمن هذا السر في أن الرسالة لا تخاطب فئة دون أخرى ولا شخصاً دون آخر، وإنما تخاطب الفطرة الإنسانية وكينونتها. فالعالِم المتخصص، والأديب المتمرس يجد حاجته فيها، والشاب المتعلم يجد بغيته فيها، وكما أنها تناجي وتناغي الطفل كذلك تخاطب المرأة برقة واضحة، وتشفي غليل الرجل كذلك، فالكل يجد فيها نصيبه وحقه بل الكل يرتوي منها.

وذلك كله لأن خطاب النورسي جاء موجها إلى الإنسانية عامة، وليس المسلمين وحدهم، فهو يتكلم مستلهما من القرآن الكريم،  يتكلم من خلال حقيقة الفطرة التي تربِط بين أجزاء البراهين العظيمة الثلاثة لمعرفة الله وتوحيده وهي : القرآن الكريم المقروء، والقرآن الناطق وهو الرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم ، والقرآن المنظور وهو الكون الفسيح، ويقرب الحقائق بأسلوب فصيح ورائق.

نعم ، إن النورسي لم يكتب لمرحلة معينة، ولا لقوم بعينهم، ولا كان أسير زمن محدد، بل عاش في قلب القرآن الخالد ، ووقف وراء موكب رسول الله r ، وجال بفكره الثاقب في آفاق الكون . ولكنه "وجد أن الخراب الذي أصاب حياة المسلمين، يقف وراءه خراب عالمي آخر، فركّز على الثاني وسعى لهدمه، سواء في حياة المسلمين أو في غيرهم. .. فخطاب النورسي موجّه إلى الإنسان من حيث هو إنسان، سواء أكان مسلماً أم غير مسلم"[1] .

أما الروح الشاعرية في الرسائل، فيحسن بنا أن ننقل النص الآتي من الأستاذ أديب إبراهيم الدباغ حيث يقول :

"والنورسي نفس شاعرة، وروح لهيف، وقلب مشتاق، ووجدان رقيق مرهف.. يملك كل صفات الشاعر العظيم، إلا انه لم يقل شعراً اعني انه لم ينظم شعرا كما ينظم الشعراء، ولكن ما قاله في المثنوي رغم انه يحمل ميزات النثر ومقوماته شكلا وقالبا، إلا انه شاعري الروح والنفس، وجدانى الانسياب، رشيق في صوره واخيلته، مع عمق أفكاره ودقيق معانيه"

ولعل أفضل شاهد على أن الرسائل منظومة شعرية في روحها وأحاسيسها هو بحث الأستاذ الدكتور حسن الأمراني  "شعرية النص في المثنوي العربي النوري" الذي ألقاه في المؤتمر العالمي الثالث لبديع الزمان سعيد النورسي الذي عقد في استانبول حول تجديد الفكر الإسلامي[2] حيث قال:

"إنه من المفيد، ونحن نقترب من شعرية النص عند بديع الزمان سعيد النورسي، أن نشير إلى أن "المثنوي العربي النوري" يتضمن كثيرا من النظرات النقدية المتعلقة بالشعر والأدب، بالإضافة إلى النصوص الإبداعية التي يستطيع القارئ، دون عناء كبير، أن يقف عليها، ولاسيما في تلك المناجيات الروحية التي كان يتقدم بها في رسائله، ويرى أن بعضها لا يعدو أن يكون "رقص الجذبة بنوع وزن يشبه الشعر، وليس بشعر بل قافية ذكر في جذبة فكر" وهي في الحقيقة تتضمن كل خصائص الشعر، بل هي بالإضافة إلى إيقاعها المبين تشتمل على أوزان خاضعة لتفعيلات الخليل، ولا سيما الرجز، مثل قوله في هذه الجذبة الفكرية:

سبحانه من يحمده الضياءُ بالأنوار

والماءُ والهواءُ بالأنهار والأعصار

والترابُ والنباتُ بالأحجار والأزهار

والجو والأشجارُ بالأطيار والأثمار

والسحبُ والسماءُ بالأمطار والأقمار

تلؤلؤ الضياءِ من تنويره

تشهيره

تموّج الهواء من تصريفه

توظيفه

تفجّر المياه من تسخيره

تدخيره…

إن النورسي، كما تدل على ذلك مؤلفاته، باحث وعالم و مفكر وأديب عميق الاطلاع واسعه، ما عالج قضية من القضايا إلا بدا لك فيها خبيرا، له نظراته الخاصة التي تتجافى عن التقليد. وقد عالج عدة قضايا أدبية فجدد فيها النظر وأعطاها مذاقا خاصا، فكان الموسوعي الذي أسس بكثير من العمق والتجديد أعمدة الأدب الإيماني.

وإذا كان من الصعب استقصاء كل القضايا الأدبية التي عرض لها النورسي في المثنوي، فإن ذلك لن يعفينا من الوقوف عند بعض تلك القضايا التي لا بد من فهمها، إذ عليها يتأسس المفهوم الشعري عند الرجل".اهـ

ونقول باختصار شديد فتحاً لآفاق دراسات أدبية إيمانية أمام الباحثين :

 إن رسائل النور منبع ثر للأدب الإسلامي. تجد فيها الحكاية القصيرة، والحوار الجميل، والتمثيل المقنع، وتوظيف تعاريف نحوية وبلاغية للمقصود.. وكثير جداً من الأغراض الأدبية وفنونها بل جلّها، فضلا عن وجود ديوان كامل من النثر المقفى، تعسرت ترجمته شعرا فترجمته نثراً أخذاً بتصريح المؤلف، وهو "اللوامع" الذي في نهاية المجلد الأول " الكلمات".

الهوامش

[1]  الدكتور محسن عبد الحميد ، بحث مقدم إلىالمؤتمر العالمي لحركة التجديد في القرن الحادي والعشرين ودور بديع الزمان سعيد النورسي المنعقد في الجامعة الوطنية في كوالالمبور بماليزيا في 21-22 /8 /1999.

[2]  وذلك في  24 - 26  أيلول سنة 1995.