أمل الحياة بين الرماد والماء

عمر جلاب

ليون، فرنسا

عز الدين هو، الأديب الذي يحمل لقب أبيه جلاوجي في شموخ كبر أن تحتويه الفرحة ذات إشراقة فجرين، فجر الاستقلال الوطني ثم فجر ولادة الطفل، باكورة فرحة والديه.

في هذا الجو المفعم بالحياة، المقبل عليها ، دلف الأديب  دنيا الأحلام من بوابتها المشرعة على عوالم من السحر والأعاجيب، لما كنفه جده لأمه بالرعاية المادية والأدبية. ففي عالم تسوده البساطة ويزينه الجمال من كل زواياه، راح الطفل يعب من المعين الثر للجد : حكايات وأقاصيص ألهبت أخاييل الفتى المتطلع إلى مغامرات حديدوان، الجازية، بقرة ليتامى[2]...حتى الأمثال والأحاجي لم تفلت من مطاردة صاحب الفراشات الذي لم تثنه أساطير الغيلان[3] من أن يرسم له طريقا ليست تكون إلا له وحده.

هذه هي اللمسات الأولى التي رسمتها أنامل الأقدار على قلب طفل يرتجف أدبا منذ طراوة بنانه.

وإذا كان سرير أحلام طفلنا حضن جده بما كان منه، فإن غطاءه هو والده الذي أخذه إلى عالم من طراز آخر، لا هو للسماء ولا للأرض، بل هو السماء والأرض. إنه عالم القرآن الكريم الذي نهل منه الأديب طفلا ، فراح يرتاد مجاهيل الخليقة من لدن التكوين إلى حين أن يغسل رمادها ماءها[4]...فكانت الطفولة تحت صمت العجب والإعجاب تفرز لها مسلكية تشذ بها عن التلقي المتعاهد بين الكتاتيب.

هذا وذاك، لم يثنيا الأديب عن تطلعه إلى عوالم الأدب التي كانت تنفتح لسكان المدينة مع كل سوق أسبوعية. فكل أربعاء وخميس يفض القوال غشاء الصمت بصوت يلهب المشاعر، ويأسر الأسماع، بل ترف له القلوب على وقع كل ضربة دف. وهنا أيضا يمكننا أن نسترق النظرفي تلك الزاوية من ذلك المكان في السوق، إلى الطفل اليافع المشدوه بهذا السحر، سحر الكلام والمقام.

على هذه الروافد الثلاث، تعرت شهية الغوص الأدبي للشاب الذي راح يعالج أمواج الإبحار في دنيا عنترة وسيرته، سيف بن ذي يزن...وألف ليلة وليلة، بل إن غمار الليالي بمخاوفها لم تثنه عن ركوب البحر لما وراء الضفة، لما طرق أبواب نوتردام، وراح يصارع رفقة الشيخ سمكة هدت كاهل امنقواي فقضى منتحرا[5]. بيد أن أديبنا كان من عشاق الحياة، فلم تكسر فحولته الأدبية أمواج الحياة على قسوتها.

إن القارئ لسيرة الرجل يدرك الانتقال المصبوب في قالب متدرج في نسقه العاطفي، والفكري، والأدبي. فمن حضن الجد والعائلة المحترمة إلى المحيط الخارجي درج الأديب في خطى ثابتة لكنها نهمة تطوي المسافات.لقد كان الغطاء المنهجي لما سبق هو الالتحاق بالثانوية، ثم الجامعة تباعا.

انفلتت ذات الكاتب عن أول زلة أدبية لما كان في مرحلة المتوسط. كانت زلة بكل المقاييس، فالشاب راح يكتب، يرسم، ينحت، بل راح يزعج على حد تعبيره[6]. تعاطى الشعر تعاطيه الحب بكل جنون أسمر، سمرة أرضه. وببديهة الشاب الألمعي، انعطف إلى السرد البوليسي، فكانت الولادة الأولى في ستين صفحة.

 كانت أهم ما اتسمت به هذه المرحلة، واقعية الأديب أدبيا، واستحيائه في فض أعماء الكتابة بين سنتي 1988-1990.

 إن الأديب مشاكس من الطراز العالي، متمرد تستطيره أولى علامت: توقف ممنوع المرور، فيروح معاندا منبعثا. فمن الواقعية ينتقل الأديب إلى الرمزية الفنية، بشعرية تتلبس بها كلماته من مسها. أنموذج هذه المرحلة رسالة النخلة إلى المدينة المسخوطة، حيث صدرت له أول مجموعة تحت عنوان: لمن تهتف الحناجر؟ عن رابطة الإبداع الأدبية بسطيف سنة 1994، قدم لها الدكتور عبد الله الركيبي[7].

طغيان الشعرية في أعمال الأديب عرف قمته في مجموعته خيوط الذاكرة. رغم هذا الزخم الهائل  من الحركية في أعماله ، فإن بحثه عن الذات التي انفلتت ذات أدب لم تستو بعد على الجودي، ولم يغض ماؤها ولم يقل  بعد بعدا لكل الأدباء والمبدعين. إن الأديب أخرج لنا بين سنتي 1991و1996 أعمالا، هندس لها مارد من مردة سليمان. فنص القصة اكتسى حلة شعر منثور، بل هي السردية الشعرية، بل قل إن شئت: إنه السحر حينما يأسرك سجع كسجع الكهان. إن التجربة الأدبية لهذه المرحلة تتسم بالتداخل بين الأجناس الأدبية لأعمال المبدع.

هذا الشذوذ عن المألوف الأدبي، قد شفعه الأديب عز الدين جلاوجي بما يمكنني تسميته بالقصة اللمعة، التي تعتمد على التكثيف والرمز. وقد نشر بعضا منها في جريدة الأسبوع الأدبي التي يصدرها إتحاد الكتاب العرب بسوريا. هذه الأعمال جمعت تحت عنوان رحلة البنات إلى النار.

هذا الخضم الأدبي لم تهدأ شواطئه على ساحل فني معلوم، بل راحت تمارس المجهول ولكن هذه المرة في فن ليس للعرب سره. ومع ذلك فإن الأديب ارتاد مجاهيله، مركزا فيه على عالم الأطفال من خلال مسرحياته الأربعين. ثم كان النزر غير اليسير للكبار في أعمال نذكر منها: البحث عن الشمس...

إن البحث عن الشمس[8]، لم يتوقف على القصة أو المسرح بل راح يتعداه إلى الرواية، لما مارس الأديب لغة التمطيط الفني مستخدما في ذلك الأدوات الفنية للرواية. فمن سماء القصة طارت الفراشات والغيلان [9]سنة 1999. ومن أرضها بنى الأديب سرادق الحلم والفجيعة...وغير بعيد كانت المحنة العقلية لما كانت نتيجة الجمع بين الاحدين صفر: إنها رأس المحنة التي تبعها الرماد الذي غسل الماء.

خاض الأديب تجربة جديدة مزجت بين المسرح والسرد أطلق عليها تسمية مسردية، أصدر فيها أعمالا سبعة نذكر منها حب بين الصخور.

هذه التجارب، عشق متمرد، مقدس حينا ومدنس حينا آخر حينما يختار الأديب لروايته الأخيرة العشق المقدنس... إنه نحت لفنان لم تمنحه الحجارة ذاتها ليعمل فيها بمسماره، فمنحته الكلمة كواعبها عساه يروي شبقا عربيا.

عمل عز الدين على تأصيل الأدب والكلمة الجميلة من خلال ترأسه رابطة أبداع الثقافية بسطيف، حيث أشرف على العديد من الملتقيات الأدبية بين 1996 و2008. كما أن له مشاركات أدبية منها ملتقى البابطين، مؤتمر إتحاد الكتاب العرب.

رغم الحياة الحافلة للأديب فإنه لم يترهب أدبيا، بل راح يمارس التعليم بكل اقتدار حيث بز أقرانه ممن احترف التعليم. ولعل سنام هذا المسار هو حيازته درجة الدكتوراه في العلوم الإنسانية.

تعرت أعمال الأديب تحت رياح النقد، فتبدت على محاسن تحبس أنفاس كل عاشق حرف... ذات الرياح حاولت نسف الرماد في روايته الموسومة بالرماد الذي غسل الماء التي سنوجزها لكم في هذا الحديث الأدبي.

 حينما يغسل الرماد الماء.

رواية الرماد الذي غسل الماء تسرد لنا أحداث قتل مروعة وقعت في مدينة عين الرماد إبان العشرية السوداء. تنطلق أحداث الرواية القصة، أو القصة الرواية لما يغادر فواز، شاب في مقتبل العمر ملهى الحمراء تحت تأثير الخمرة والغيرة على عشيقته، حيث غادر الفتى الملهى تحت وابل السماء، وحنق الغضب، يقود سيارة تتلوى على طريق ملتو.

 بداية الحدث كانت مع اصطدام فواز بشاب يقطع الطريق، إذ لم يكتف هذا الأخير بدهسه بل راح نازلا على رأسه ضربا بهراوة أودت بحياته.

 تتشابك الأحداث لتصل ذروتها لما تتدخل الأم بنفوذها المادي وسلطان جمالها على علية المدينة، فتقحم أهلها في دوار التحقيق والاتهام، الذي عرف نهاية ظهرت فيها الحقيقة ساطعة، فاقتص من المرأة الظالمة. بيد أن اللعنة التي ضربت بسوطها أهل المدينة، ظلت تطارد ذات المدينة فلم يعرف لها أثر بعد عين.

أحداث هذه الرواية يؤطرها عنف زماني من خلال كربات أمة مدمية، حيث يستنطق الأديب جروح التاريخ الأسلامي، معرجا على مواجع الأمة العربية في تناص أدبي وتداخل يعتصر الزمن اعتصارا.

أما المكان فهو مشبع بكل دلالت القبح التي فاضت رائختا وطفت على سطح النص. فالمكان الذي كان ينز ماء عذبا زلالا، أصبح يتقيأ حمما. أما الشيخ الصالح فقد حلق في السماء.

هذه بعض لمح من عمل ينم عن انقلاب في كل شيء مس أول ما مس العنوان.

فقلب الأديب أشعلته نيران أدب مقدس، فهو والكلمة كفارس ضاعت منه حبيبته، فهو في شوق  كشوق من أحبوا الله ذات عبادة.

               

[1] خريج جامعة السوريون مقدم برنامج أدبي في إذاعة السلام بمدينة ليون الفرنسية

[2] إشارة إلى عمل الأديب الموسوم بالفراشات والغيلان

[3] قصص من التراث الجزائري

[4] رواية الرماد الذي غسل الماء

[5] إشارة إلى الموت الغامض للأديب الأمريكي إمينقواي أرنست

[6] هذا الذي كتبه لي الأديب في نصه قصة قلم بتاريخ.15/07/2014.

[7] الأديب الدكتور عبد الله  الركيبي ر. أحد مؤسسي الأدب الجزائري الحديث

[8] إشارة إلى عمله الموسوم بالبحث عن الشمس.

[9] إشارة إلى عمله الموسوم بالفراشات والغيلان.