همساً في أذن القذافي 2

همساً في أذن القذافي :

إلا القصة يا مولاي! (2)

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

كانت مفاجأة لنا، ومفاجأة للعالم العربي أن يصدر العقيد "معمر محمد عبد السلام أبو منيار القذافي" قائد "الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمي" مجموعة قصصية حملت عنوانًا أو عناوين عجيبة هي:

القرية القرية

الأرض الأرض

وانتحار رائد فضاء

مع قصص أخرى...

فما الذي جعل القذافي صاحب الكتاب الأخضر، والخطب النارية الحماسية، والمقالات – أحيانًا- يتجه هذا التوجه إلى كتابة (القصة القصيرة) مع أنه لا يملك- من وجهة نظري- موهبة القص، ولا حتى بعض آليات هذا الفن؟!!!

تحول مفاجئ.. البواعث والدوافع

إن واحدًا ممن عرض بالنقد لكتاب القذافي لم يبين السر في هذا التحول المفاجئ، وأعتقد أن تفسير هذا التوجه المفاجئ للفن القصصي يتلخص في البواعث والدوافع الآتية:

1- أنه استنفد "قدراته" الفكرية السياسية فيما يسمي "بالكتاب الأخضر" ذلك الكتاب الذي يري فيه القذافي الدستور الكامل لحل مشكلات ليبيا، بل العالم كله من النواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فأي كتاب سياسي بعده يكون من قبيل التزيد والحشو والفضلة.

2- والدافع الثاني نستطيع أن ندركه بسهولة إذا ما فهمنا طبيعة النظرة القذافية لعبد الناصر، وقيمة عبد الناصر في ميزان القذافي، لقد كان القذافي ينظر إلى عبد الناصر كمثله الأعلى، فلما مات سنة 1970م أعلن أنه الوريث لزعامته، وأطلق على نفسه أمين القومية العربية، وبدأ يهاجم كل خصومه متهمًا إياهم بالعمالة والخيانة.

وبلغ الحب والوفاء من العقيد للفقيد درجة الامتصاص في السياسية والسلوكيات إلى حد التشابه التوأمي:

·   فكلاهما نموذج لشخصية الدكتاتور العسكري ذي الحكم الفردي المطلق، ودعك من المؤسسات النيابية، واللجان الشعبية، فقد أثبتت الأيام أن كل أولئك كان شكليات وانتفاشات لا جوهر لها، ولا طائل وراءها.

·   وكلاهما تخلص بالإبعاد أو النفي أو السجن أو القتل من إخوانه ورفاقه في السلاح والثورة، كما فعل عبد الناصر مع معروف الحضري وعبد المنعم عبد الرؤوف وأبي المكارم عبد الحي والقائد الحقيقي للثورة محمد نجيب.

كما تخلص القذافي من ثمانية من أعضاء مجلس الثورة منهم عمر المحيشي ومحمد نجم، وعبد المنعم الهوني، وعوض حمزة وغيرهم، ولم يبق من أعضاء مجلس الثورة الأثنى عشر إلا أربعة.

·   وكما خَرّب عبد الناصر الاقتصاد المصري, وأراق أموال الشعب في جبهات خارجية وحروب خاسرة, كما فعل في اليمن والكونغو, وغيرها فعلها القذافي في تشاد وأيرلندة وبعض دول أمريكا اللاتينية ورومانيا.

·   وكلاهما عاش حربا على الإسلاميين من المجاهدين والمفكرين وأصحاب الدعوات والعقائد النقية، ومن ثم كان لكل منهما الفضل في هجرة عشرات الألوف إلى دول الخليج وأوروبا وأمريكا، وتقول الإحصائيات إن خمسين ألف ليبي معارض يعيشون في الخارج عام 1985م ,على نسبة سكانية لا تتجاوز ثلاثة ملايين.

·   وكلاهما كان له معجمه الغني في السب والشتم والتجريح.. تجريح الرؤساء والعلماء علانية، وإن كان معجم القذافي أغنى وأوفى، فامتد إلى جرح سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته.

·   وإذا كان عبد الناصر قد أنجب لشعبنا "فلسفة الثورة" و"الميثاق", فإن القذافي قد أفرز – بعد ذلك لشعب الليبي.. والعرب والعالم كله- كتابه الأخضر.

·   ونجح عبد الناصر نجاحًا باهرًا في تحقيق هزائم وانكسارات لم يعرف الشعب المصري لها مثيلا من قبل وذلك عامي 1956م و1967م، ونجح القذافي بسياسته في وضع ليبيا تحت الحصار والمقاطعة العالمية.

·   وأخيرًا – وهذا ما يهمنا في هذا المقام- يحكي أن جمال عبد الناصر الطالب في المرحلة الثانوية شرع – بموهبته القصصية- يكتب رواية طويلة بعنوان "في سبيل الحرية"، وقد كتب من هذه الرواية أربع أو خمس صفحات، ولم يكمل روايته عن نسيان,لا عن عجز, (وهذا ما قاله الرواة).    

وبعد أن صار عبد الناصر رئيسا لمصر... وبدأت سنوات الهزائم والانحدار تأخذ بخناق الشعب.. فجأة عثر "الرئيس" على أوراقه التي كتبها كمشروع لرواية وهو طالب بالمرحلة الثانوية. وهلل المهللون, وطبل حملة القماقم لعبقرية الفنان القصاص المحروس "عبده", وأعلن عن جائزة ضخمة لمن يكمل هذه الورقات لتصل إلى حد الرواية.. وحصل الكاتب عبد الرحمن فهمي على الجائزة الأولى بعد أن حول الورقات الخمس إلى ستمائة صفحة من القطع الكبير، وتجدد التطبيل والتزمير على نحو أشد، لا لعبد الرحمن فهمي، ولكن للمحروس عبد الناصر طالب الثانوي الذي "مكن" عبد الرحمن فهمي من كتابة هذا السفر الضخم.

وطبع من الرواية مئات الألوف، وقررت على الطلاب والطالبات في إحدى فرق المرحلة الثانوية، وظلت مقررة لعدة سنوات، ورأى القذافي أنه لم يعد من جوانب عبد الناصر ما لم يدركه إلا ولوج العالم القصصي، فليتقدم وليلج، وليكن ما يكون، وبالكتابة القصصية تتكامل جوانب الشبه، ويتم الولاء والوفاء للميراث الناصري العظيم.

3- وآخر هذه الدوافع نجده في طبيعة الشخصية الدكتاتورية, فهذا النوع من الشخصيات يحرص على أن يعيش في أضواء متصلة, وبريق دائم، ويحرص على أن يشغل العالم. ويشد إليه الأنظار، ومهما قال القذافي والقذافيون عن المنقـذ الأعظم الذي  اسمه "الكتاب الأخضر", فقدْ فَقَد بريقه بعد أن أثبت واقع التجربة سقوطه الفاحش، وإخفاقه الذريع فكريا وعمليا، وقاد ليبيا إلى الفقر والتآخر والانقسام والانكسار، وهو الذي أعده صاحبه ليكون "نظرية عالمية" واسعة المدى.

ومن ثم لم يعد أمام "القذافي" لاستعادة البريق والأضواء إلا جانب الأدب، ولكن أي جنس من الأجناس الأدبية يختار؟

الرواية؟ صعبة.. صعبة عليه جدًا: فالرواية، وهي أطول الأعمال القصصية وأوفاها وأقدرها على التصوير تحتاج إلى تصميم دقيق، ومعايشة نفسية وعقلية طويلة للموضوع، وقدرة فائقة على أداء السرد والحبكة، وفن التشخيص أي رسم الشخصيات المحورية والشخصيات الثانوية بأبعادها الثلاثة: المادية أو الحسية أو البرانية، والمعنوية أو العقلية  والنفسية والروحية أو الجوانية, ثم الاجتماعية، وطريقها تحديد مجموعة العلائق التي تربط الشخصية بالمجتمع ابتداء من الأسرة، وانتهاءً بالمجتمع الإنساني العام

فلم يغد أمامه إلا معالجة القصة القصيرة .

( وللحديث بقية )