الفرق بين صائب عريقات واليغيري دانتي

الفرق بين صائب عريقات واليغيري دانتي

ناصر اللحام

بيت لحم -معا- في العام 2003 ذهبت لاجراء مقابلة تلفزيونية مع د. صائب عريقات، وكانت اسرائيل اعادت احتلال الضفة الغربية الزعيم الراحل عرفات محاصر، واليأس قد تفشى بين الناس كما يتفشى المرض المعدي.

وفجأة وجدتني اساله عشرات الاسئلة حول المفاوضات هل يكذب المفاوض، هل يجب ان يكذب على عدوه؟ على خصمه السياسي؟ هل يبقى هاتفه النقال مفتوحا؟ هل تكون العلاقة عدائية ام رطبة مع المفاوض الاخر؟ كيف يختار ملابسة؟ وسيادته وكيف يكون مزاجه؟

بصراحة فاجأتني اجابات الدكتور عريقات واللقاء لا يزال محفوظا في ارشيف التلفزيون.... وقبل ان اغادر اهديته كتابي الاول "تل ابيب مدينة بلا اسرار". وقد ورد في الكتاب العبارة التالية ( وماذا ينفع الدكتور صائب عريقات كل المهارات ما دمنا نعيش في زمن الانحطاط).

ومؤخرا وعقب صدور كتاب "حياتي مفاوضات " للدكتور عريقات وردود الفعل حول الكتاب وخصوصا النقد اللاذع من الدكتور عبد الستار قاسم .. وبعد ان طلب الاخوة في كتائب الاقصى ومن الاسرى ان اكتب رايي في هذا الكتاب ، وجدتني اقراه مرتين، مرة للاطلاع ومرة للتمحيص، وهذا هو رأيي اذا كان يهم احد من القراء او اذا كان يهم الدكتور عريقات .

اولا: ان قيام الدكتور عريقات بطباعة الكتاب خطوة جرئية تستحق الثناء وبدلا من ان نذهب لارشيف الغرب او الدول الاستعمارية لقراءة تاريخنا يطيب لنا ان يبادر الدكتور عريقات بفتح هذا الباب وان كان لا يشمل "اسرار المفاوضات ان جاز التعبير".

ثانيا: ورد في الكتاب "نحن العرب بحاجة الى دراسة سلوكنا في الصراع وسلوكنا في التفاوض ، وورد ايضا انه لا يوجد حتى الان كتاب حول السلوك التفاوض العربي.

وانا ارى الصواب في الشق الاول ، فنحن بحاجة الى دراسة ذاتنا مرة اخرى على اساس المنهاج العلمي وعلى اساس "المادة التاريخية التي تفند السذاجة الطوبانية والهرطقة الراسمالية وتفك انشوطة الدكتاتورية الادكومراكية عن رقابنا وتزرع فينا بعد ان تحرثنا من جديد ، تزرع فينا حب الوطن والفخر بالتاريخ والدين على اساس علمي وليس اساس الجاهلية المعاصرة.

اما ما ورد في الشق الثاني فلا ارى ذلك ضروريا ، وما الضرورة اصلا ان يكون لدينا كتاب حول السلوك التفاوضي العربي؟؟ فهل نحن بحاجة الى كرامة ووطن وحرية اولا ومن ثم الى كتاب حول السلوك التفاوضي في كيفية انجازنا تلك الاهداف.

ثالثا: بقول د. صائب ان المفاوضات هي لغة البشر ، وليس مبارة ومعركة بل انها الطريقة التي تحقق المصالح والاهداف والتطلعات وحماية الحقوق والانجازات ، ويتحدث في الفصل السادس عن العناصر السبعة لروجرز فيشر وعن كرامة المهارات التفاوضية للبرفيسور جون ميري.

انا شخصيا لم اقرأ لهما .. ولكني قرات كلليلة ودمنة للفيلسوف بيدبا واعتقد ان كليلة ودمنه افضل واعمق واقدر واخطر وادق وابلغ من فيشر وميري وان السياسيين الغربيين بحاجة الى ان يجلسوا ويتعلموا في مدرسة ابن طفيل، وبيدبا لاننا نحن يجب ان نطلع على مسوداتهم وكراساتهم ولا شك عندي ان انسان بثقافة د. صائب يتفق معي في هذه النقطة .

رابعا: في فصل اخر يدور الحديث عن المشكلة والقضية والطريقة والاتجاه والدليل، عن المفاوضات واستراتيجيتها والمفاوضات الداخلية والربح والخسارة والوساطة والمساومة والتحكيم والتنازل والمقايضة، ويتقدم د. صائب عريقات بافكار اكاديمية بحتة ومجردة لتعريفها وانا اعتقد ان ذلك جهد مستفيض يلزم طلبة الجامعات والمختصين ويلزم جامعاتنا ويلزم القاريء.

خامسا: في صفحة 44 ينصح الدكتور عريقات اي مفاوض ويقول (لاتشرح مشاعرك) وفي صفحة 75 يتحدث عن الحيل النعاعية التي يستخدمها المفاوض عن الطرف "الضعيف" وانا اعتقد ان صاحب الكتاب بذل جهدا كبيرا لتبسيط الامر للقراء لان مهنة التدريس غلبت عليه، تماما مثلما كان احمد شوقي يجد نفسه مسبوقا الى الشرح والفصل والتكرار لان مهنته الاساسية كانت في مجال التعليم .

سادسا: ما بين الصفحات 87 وحتى 108 يقدم صائب عريقات نصائح جميلة صاغها بشكل اديب وابدع في النصح حتى تمنيت لو ان كل الكتاب على هذا النحو .. ومن باب المزاح اقول : لقد ذكرني صائب بالكاتب رخول حمزتوفي في طريقته حين قال ساخرا "لاشيء في هذه الحروب يستحق الموت سوى امراة جميلة ووطن حنون اما باقي الحروب فهي صراعات بين الدبكة".

وبين هذه الصفحات يشرح عريقات للقاريء كيف يتشكل الوفد وكيف على المفاوض ان يبتعد عن المزاح الثقيل.

سابعا: ما بين الصفحات 109 وحتى 123 يعتمد الكاتب المهنية التقنية في عرض الافكار فتشعر وكأنك في ورشة عمل لشرح ميكانيزم التفاوض.

ثامنا: من هناك الى صفحة 172 يمزج الكاتب تجربته الشخصية في العلاقة مع الرئيس ومع اعفاء الوفد وهو جانب مهم في فتح مصداقية للكتاب بل ورافد اساسي غني بالمعلومات .

تاسعا: في الجزء الثالث في صفحة 187 يعود الدكتور عريقات للحديث عن المصالح وانها اهم من المواقف .. ولانني شخصيا اعتبر المواقف اهم من المصالح ولانيي اصدق المرحوم غسان كنفاني حين قال " الانسان قضية" "والانسان موقف" فانني لا اريد ان اتسبب في اشكالية فلسطينية حول الامر، لكن ربما ان الحديث يدور عن المفاوضات وعن المصالح فلا بأس والتواصل الحديث عن المصالح .

عاشرا: من صفحة 205 وحتى 287 اي حتى نهاية الكتاب يعود الكاتب الى اسلوب النصائح وبشكل جميل ومريح حتى شعرت ان الكتاب عبارة عن 3 اتجاهات ، تماما مثل كتاب تئوريا تعليم السياقة (توجيه- ارشاد - تحذير) ولا اتردد ان اقول ان هذا الكتاب هو تئوريا تعليم التفاوض.

حادي عشر: لاشك ان الفيلسوف الايطالي نيكولا ميكافلي هو اقدر من كتب عن التنظير السياسي الواقعي ومن خلاله ما اصطلح عليه (الغاية تبرر الوسيلة ) ولا شك ان ميكافلي سيبقى هو مهندس النفس البشرية لكل مفاوض وهو الاب الروحي للمصالح في العصر الحديث,.

وانا لا ارفض ميكافلي رفضا تاما ولكنني لا اقبله قبولبا صاغرا فالانسان والجماعات والمجتمعات والبشر ليسوا مجموعة من المصالح وانما هم مجموعة من المواقف ايضا فاذا ارادوا مصلحتهم فليفاوضوا واذا اراددوا مواقفه فليثورو.

ولاشك ان العروضات التي عرضتها قريش على النبي محمد كانت سخية جدا لكن الرسول الكريم رفضها واختار الموقف والرسالة وكذلك فعل الفادئي الاول السيد المسيح حين سحبوه والدم يسيل من جسده في درب الالام بالقدس وصولا الى تشي جيفارا واوب اياد وحتى الزعيم عرفات .

وصحيح ان الرسول محمد عليه السلام وافق على صلح الحديبية وان الرسل والقادة اعطوا امثلة كثيرة عن التوازن بين المصالح والمباديء وان هذا سقودنا مرة اخرى للقول : الناس عبارة عن مصالح ومواقف.

وان المفاوضات تعبر عن مصالحنا وان الثوار والاحرار يعبرون عن مواقفنا وهكذا لا تختلف وان تحدثنا عن عمرو بن العاص او عن ابو موسى الاشعري.

وفي الختام اشعر باستفادة كبيرة لانني قرات كتاب الدكتور صائب عريقات واعتقد ان من ينتقد الكتاب لمجرد النقد سيقبل على نفسه ان يكون ضحية "الانكسار " وانا انصح بالاستفادة من نصائح الدكتور صائب عريقات فهيمفيدة لحماس قبل ان تكون مفيدة لفتح ومفيدة لحزب الله مثلما هي مفيدة للمفاوض الادرني.

وقد اخرت ان اقارن صائب عريقات مع اليغيري دانتي من باب احترامي للدكتورصائب وثقتي به وبشرفه الوطني وكفائته الاكاديمية ولاقول للقاريء ان اليغيري دانتي وهو سياسي ايطالي عاش في زمن الانحطاط السايسي عام 1300 وفشل في تحقيق اية نجاحات سياسية ولكنه حين هجر السياسة وكتب "الكوميديا الالهية" اصبح من اشهر الكتاب في العصور الحديثة .. وقد قام دانتي في كتابه بوصف الجنة ووصف النار وسار في ذلك على هدى ابو علاء المعري في كتابه رسالة الغفران ، وهو من اروع واغنى الكتب التي قراتها في حياتي.