يوميّات شفق الزّغلول لـ "منى ظاهر"

يوميّات شفق الزّغلول لـ "منى ظاهر":

توظيف لطبيعة فلسطين.. استحضار للنكبة والنكسة..

وتجديد لمعاني الصراع على هذه الأرض

عزيز العصا

[email protected]

منى ظاهر فلسطينية الهوى والهوية؛ ترعرعت في بيت تربى أبناؤه على قيم الشجاعة الموروثة من ذلك الجد الوطني حتى النخاع، الذي رفض الظلم والطغيان؛ فعاش ثائراً إلى أن قضى وقد حُفِرَ اسمه في صخور فلسطين الصلبة التي تأبى الخنوع والذل..

لذلك؛ جاء النص مفعماً بالوطنيات وقيمها ومثلها التي ترفض الاحتلال بكل أقنعته المزيفة؛ وهذا هو المجس الذي سيصل بنا إلى أعماق ذلك الشفق بألوانه الزاهية، و"زغلوله" الجميل..

شعر.. نثر.. أدب.. ليس هذا هو المهم.. فالنص مفتوح، بل منفتح على مفاهيم ومصطلحات تحمل المعاني، التي لا تخلو من القدسية للوطن، والأرض، والبيت، والمفتاح... الخ، بما يعني محاولة صياغة التاريخ، بل إعادة صياغته بما يحفظ لشعبنا حقه في العودة..

أما فلسطين الطبيعية؛ بحلتها الجميلة المكتسية بطيورها، ونباتاتها وأشجارها وشجيراتها (بلغ عددها حوالى 140) ، وشمسها وقمرها، فقد جعلت منها سمفونية جميلة تشكل الخلفية أثناء سردها للأحداث، عندما وظَّفَت سماتها وخصائصها وجمالياتها وألوانها الجميلة وتوزيعها على الجغرافيا الفلسطينية في خدمة النص، دون أن تنسى أجدادنا، منذ الكنعانيين، الذين غرسوها ورعوها لنأكل منها، ونتداوى بها، ونتمتع بجمالها وعبق رائحتها الزكية، المحروسة بطيورٍ فلسطينية الأصل والفصل والهوية.. تلك الطيور التي تشدو للحرية وترفض الظلم والطغيان.. 

وفي النص تحذير، شديد اللهجة، لمن لا يعضّ على الأرض بالنواجذ، بقولها: "عناة الأرض التي تحل لعنتها الشرسة على من يهتك سر كينونتها.. وأنا الأرض/ وطن المقاتل المتوحد بعشقي..

كما أن النص مشبع بالتأريخ للحرب السادسة، التي حصدت (18) فلسطينياً من الشمال، بطرائق جديدة.. فهي ترى أنه بالحرب يتواصل هدم الحضارة ومحو الفينيق.. ولم تنسَ أن تربط بين الحروب التي شُنت على فلسطين، ماضيها وحاضرها. وما نجم عنها من مرارة التشرد وآلامه وعذاباته..

ففي مواضع كثيرة جاء النص واضحاً وجلياً، دون الاتكاء على الرمزيات.. مما وفر للتربوي ما يقوله لطلبته، وللأم حدوتة الوطن تحدث بها أبناءها كي يناموا على أشجانها:

فهناك مفاهيم في الصمود ورفض التشرد مرة أخرى؛ فصديقتها تقول: "يجب أن أبقى فيه (البيت) لأحترق وإياه، وسنبقى في بيوتنا، نفقد فيها أجسادنا لا أرواحنا. وتمسك بحق العودة؛ فتقول إحداهن: شايفة كومة هالحديد هاد، هو المفتاح إلّي رح يضل مع أحفادي وأحفاد أحفادي لحد ما يرجعوا على الفالوجة".. وأما الكرامة فقد كانت واحدةً من الأعمدة المتينة التي تمكنت منى ظاهر أن تبني عليها كتابها؛ فتقول لنا: جوع البطون مقدور عليه، بس النفوس إذا وطّت ما حدا بشيلها.. ويستمر الصراع على هذه الأرض في أجواء من الإيمان بقضاء الله وقدره؛ فالأمّ الثكلى توزع التمر والفاكهة المجففة على روح فلذيّ كبدها، ثم تناجيهما: "سآتي إليكما".. كما يستمر الاحتلال في ممارسة عنجهيته وظلمه اللامحدود؛ فاليهودي القاتل مضطرب نفسياً؛ ويخضع للعلاج، أما أسطول يحمل وردة فيهاجم ويسقط القتلى..

ولم يخلُ النص من التأريخ للأحداث والمشاهد الفظيعة التي مارسها الاحتلال، مثل:  فلاجئ من "الجش" يكتشف جمجمة أخيه في بئر حيث صب الاحتلال الباطون على أصوات وحشرجات (14) شاباً أثناء مجزرة الجش.. وللدلالة على تدني قيمة إنساننا، من وجهة نظر المحتل، أوردت منى ظاهر أنه في بريطانيا: سجنوا شخصاً لقتل جرو، ونحن ما حكم من يعيث في أجسادنا حقول ألغام وأسلحة محرمة دولياً..

ومما أعطى النص رونقه استحضار للنكبة والنكسة؛ فاقتبست مشهد الأم تحمل المخدة من شدة هلعها، تظن أنها ابنها- حين تسمع النفير المتواصل.. وأن الحرب تحفر في ذاكرة الصغار ما لا يمكن نسيانه؛ فابن الأربعة أعوام، يمد كفّيه ويقرأ سورة من القرآن، ونظراته تحدق في جثة الرّضيع الهامدة المسربلة بألوان العلم..

بهذا؛ تمكنت منى ظاهر من القفز، بنجاح منقطع النظير، فوق أمواج الأحقاد التي تولدها الحروب، وتجاوزت البكاء والعويل أمام الدماء الحمراء القانية التي خلفتها حروب حاقدة عاشت أيامها، بل لحظاتها بما فيها من وجع، وقهر، وتشرد للمشرد أصلاً.. لتنهي بـِ "نهنهة وأفق" التي تنتظر فيها صهيل الخيول لفرسانها، وأن صبرها شوك الشوق.. وذكَّرت الجميع بأنها وردة مكتنزة رحيقها فائضة بالماء السلسبيل.. وتختم بمواصلة الطيران، وتطير أرواحٌ معها لتكبر.. وتكبر.. ونكبر جميعاً على ثرى وطننا الغالي-الطهور والشفق يطل عليه مع كل مغيب شمس..