محبرة الخليقة (40)

تحليل ديوان "المحبرة" للمبدع الكبير "جوزف حرب"

ملاحظة : حلقات من كتاب للكاتب سوف يصدر عن دار ضفاف (الشارقة/بغداد) قريباً . 

في نصّ "نقطتان" (ص 1059 – 1061) يذكّرنا الشاعر بالنقطتين الأساسيتين في شوط حياة الإنسان ، نقطة البدء البيضاء في الطفولة ، ونقطة المنتهى السوداء في الشيخوخة ، والمسافة بينهما تثير الغثيان في نفسه ، فهما بعيدتان ، وتمنّيه أن تكونا قريبتين لا يوفّر حلّاً سوى اختصار سنوات العمر ، هذا العبء الثقيل المسمّى الحياة الذي يريد الشاعر أن يزيحه عن كتفيه ؛ وهذا العبء ما هو – في حقيقته الباطنة – إلّا الخوف من الزمان في حركته التي لا ترحم عجلاتها من يقف في طريقها . فالقلق من الموت واستعجاله يجعل السنوات مخيفة ، وتمثّل ، هي نفسها ، الموت الذي نفرّ منه . إنتظار الموت اقسى من الموت نفسه ، وقد يُفسّر هذا الكثير من الحالات التي يرمي فيها الجنود أنفسهم في ساحة المعركة قبل الأوان فيُقتلوا .  

في النصّ السابق يحيّر الشاعر ، وبالتالي يضجره ، "شوط العمر" الممتد بين نقطتين لا داعي لأن يكونا بهذا البعد ، والآن يحيّره ، في نصّ "الممحاة والرماد" ، ويضجره "شوط الجسد" ، فهو شوط محيّر ومضجر فعلاً . فما أن نولد ونكبر ونكمل حتى يبدأ بالترهّل ، وما أن يبدأ الإنسان بالتمسّك بالدنيا والتعوّد على محبّتها ، حتى يبدأ الجسد بالضمور ولملمة أغراضه إستعداد لتوديعها والرحيل . شوط غريب فعلاً .. ومُضجر فعلاً . وهنا يحتجُّ الشاعر على سيرة جسده بطريقة التساؤلات المؤرّقة والمضجرة التي رفضها من قبل :

(                  ما هذي السيرةُ يا جسديْ ؟

        عمرٌ قلمٌ ،

                   ما بينَ محابرَ من جمرٍ ، ودموعِ

         سودٍ

                   يتنقلْ .

                   وبآخرِ سطرٍ نتودّعُ . حِبري تتسلّمهُ

         الممحاةُ ،

                   وأنتَ

                   رماداً

                   تتحوّلْ . – ص 1063) .

 إن هذا التناقض المفروض والغريب بين ضمور مادة الجسد مع اشتعال الرغبة في النفس يعيد التذكير دائماً بأنّ استمرار الحياة هو في صميمه انقضاء للزمان ، وانقضاء الزمان معناه السير الوئيد نحو الموت أو الإنحدار السريع نحو هاوية العدم . ولعلّ هذا هو ما حدا ببعض المفكرين الى القول بأن الحياة إنما هي الموت نفسه ، لأن الإنسان يشرع في الموت بمجرد أن يولد ، والشاعر الذي يحيّره شوط جسده المتناقض لا يريد أن يدرك أنه في الحقيقة يدفن أجزاء من جسده مع كل خطوة نمو يحققها في الفترة المحدودة التي يحياها ؛ وهذه الفترة المحدودة التي يحياها إنما هي المدّة التي تستغرقها عملية وفاته بين النقطتين (البيضاء والسوداء) اللتين أزعجه طول الشقة بينهما ، وبهذا المعنى – ومن جديد – يكون الخوف من الحياة خوفاً من الزمان ، والخوف من الزمان خوفاً من الموت . وقد قيل لرجل حكيم : كيف حال أخيك ؟ فأجاب : إن أخي قد مات . فقيل له : وما سبب موته ؟ فأجاب : حياته ! (79) .

وحين يُحاصر الإنسان بقلق الموت يبدأ لاشعوره الذي لا يؤمن بفنائه بالبحث عن مخارج وتأمين دفاعات ، منها البحث عن "سبب" للموت ، فتراه يضع العلل بعد المعلولات ويبرّر نظرته القاتمة للحياة ، وقانون الأرض التي تبتلعه ، بأن الأرض قد يئست من الإنسان الذي أزاح ابيضها وجعل أكليلها سواداً ، وملأ روحها بالمرارات . ولن يقدّم هذا اللعب الدفاعي أو يؤخر من الحقيقة الوجودية الدامغة شيئاً ، وهي أنّ يأس الأرض من الإنسان يقابله يأس مُسقط من الإنسان من مصيره الذي يمثله ابتلاع الأرض له في أيّة لحظة وبلا أدنى مقدّمات . لكن هناك فارقاً كبيراً بين اليأسين ، فالأرض الأم قد أعطتْ كلّ ما في وسع رحمها من سنابل وورود وبهاء شجري وبحري للإنسان ، في حين أن الإنسان لم يعطها غير القهر والتدمير والحروب والدماء والمقاصل :

(                      منذُ بدءِ الخلقِ حتى الآن

   والأرض التي أعطت سنابلها ،

                          ووردتها ،

                                       وكلَّ حمامها ،

   وبهائها الشجري والبحريِّ للإنسان ، لمّا يعطها إلّا

   سياطاً من رصاصٍ أدمتِ الخيلَ التي نجري

                          بها في الأفقِ حول الشمسِ

                          يا

                          للأرضِ كمْ هو مؤلمٌ دورانها

                   الأبديِّ

                          بالإنسانْ .

                          ولَكمْ تمنّتْ أن يغادرها لنجمٍ

                 آخرٍ ، يحيا بهِ

                          لنهايةِ الازمانْ ،

                          ولوحدها

                          فلتكملِ الدوران .

                          الأرضُ

                          يائسةٌ من الإنسان . – ص 1066 و1067) (نصّ "يأس الأرض") .

ومن يأس الإنسان وشعوره المتأجج بـ "العقم" ينشأ ذاك الحسد الذكوري الذي تحدّثنا عنه ، وجعلناه من بين الأسباب الأساسية لهذه النقمة العارمة على الموجودات التي تنجبها الطبيعة ؛ نقمة يحركها اليأس المديد والمتطاول الذي يتمظهر عدواناً جعَلنا لا نشهد أي حضارة سلام في تاريخ البشرية غير تلك اللحظة الفردوسية الوجيزة في ظلال الرحم المومي في الداخل ، ورحم الأرض في الخارج :

(                     ما منْ حضارةٍ قد استوتْ على

           عرشٍ لها ، إلّا وكانتْ

                      جبهةً مكلّلهْ

                      بتاجِ قيدٍ ، أو

                      بغارِ مقصلهْ . – ص 1068) (نصّ "حضارة") .

وها هو الشاعر يجول عبر الأزمان والعصور في محاولة يائسة يجد فيها عصراً من العصور يحمل سمات تلك اليوتوبيا السعيدة التي برع في رسمها الشعراء والمنتزعة من فكرة الأمومة ورحمها العادل والمسالم والحامي .. فلم يجد .. لم يجد عصراً إلا وحرّية الإنسان فيه يحكمها السجّان ، وسفينة الحياة في قبضة القرصان ، فعاد (من كلّ العصورِ حالماً بالفأس والممحاة والنسيان) (نصّ "طواف" – ص 1069- 1071) .

وعلى الإنسان المنصف – ومن المفترض أن يكون الشاعر أنموذجه الناجز – أن يقدّم "اعتذاره" الشخصي على الأقل بعد الذي شاهده في هذا "الطواف" المخزي ؛ طواف يكلل هامة الإنسان بالسواد والعار والشنار ؛ طواف لم يلمح فيه الشاعر سوى آثار ثور هائج منفلت في محل للخزفيات هو الحياة كما يقول المثل الروسي ؛ آثار مخالب وحش مسعور على خارطة جسد الأرض الأم الرقيقة . والشاعر ذو ضمير منصف ، لا يكتفي بأن يقدّم اعتذاره عن الأفعال الوحشية التي اقترفها الإنسان بحق الحياة الأم ، بل يقدّم "استقالته" من كل شيء . إنّه يتخلى حتى عن تلك المظاهر والتجلّيات المرتبطة في الوجدان الجمعي بدور الإله الإبن المزعوم الذي ألصقه به الباحثون الأسطوريون :

(                   إنّني

                           اقدّمُ اعتذاري

                    منْ أنْ أكونَ في البنفسجِ

          النديِّ . من أنْ أكونَ

                                الماءَ

                                في الجرارِ .

                    من أنْ يكونَ الشجرُ الصيفيُّ

          صبحاً شاربَ

                    اخضراري . – ص 1076 و1077) .

ولا يكتفي الشاعر بتقديم الإعتذار والإستقالة من ذاته ومن سلالته حسب ، بل يختار "الموت" حلّاً فيجعل احتضاره – وهي مداورة فهي خطوة على طريق الموت – سبيل خلاصه الوحيد :

(                   نادمٌ

                    على جميعِ حالاتي التي قد

      عِشتها يوماً ،

                    سوى

                    احتضاري ،

                    لأنهُ في آخرِ الأمرِ

                    هوَ

                    الخلاصُ لي ،

                    هوَ

                    انتصاريْ (...) 

                    فرغمَ ما مرّ من العصورِ لم أزلْ

       أقلّ حكمةً من الوحوشِ

                    في البراريْ . – ص 1075 و1077) (نصّ "اعتذار" – ص 1072 – 1077) .

ولم يبق إلا أن ينشر شراع مركبه ويرحل (مقطوعة "الرحيل" – ص 1078) .. فـ "الكلّ باطلٌ وقبض الريح" كما يقول "سليمان" الحكيم . وقد وصل الأمر حتى أنه يطلب فتح النوافذ وتنظيف المقاعد ، لتهوية الغرفة وتنظيفها من رائحة العفن وبقايا الصدأ التي لحقتها إثر زيارة قام له فيها وفد يمثل القيم ؛ قيم العدل والمساواة والقلم (نص "زيارة" – ص 1079 – 1081) .. فما الذي سيتبقى بعد .. لم يفسد اللحم فقط .. لقد فسد الملح .. وصار الإنسان يعشق كلّ مرض يُهلك في ذاته محبة العدالة والوفاء والأمانة ؛ صار يفرح حين يصابُ بجراثيم اللصوصية والخيانة والغدر والجريمة حتى صار لا يتردّد في الإعلان "الزرادشتي" الشيطاني :

(آهِ ما أطيبَ في الأرضِ الخطايا . – ص 1085) (نصّ "مداواة" – ص 1082 -1085) .

وكل مشاعر السخط على الحياة ، كل أحاسيس السأم الثقيلة من الموجودات من حولنا والعلاقات التي تربطنا بها وبالبشر الآخرين ، كلّ الغثيان من هذا "التكرار" الفضّ الذي يخيّم على أعمارنا .. كلّها تنبع من الوجدان الآثم .. وهذا بدوره ينبع من المُسخِط والمُسئِم والمُغثي الأصل وهو : الموت . فالموت هو الذي يجعل الوجود "دائرة" تبدأ بالفناء وتنتهي بالفناء ، وما الولادة إلا نقطة عابرة في متصل ممتد بين فنائين هي شوط عمر الخليقة . ووسط هذه الدائرة المغلقة الدوّارة تدوخ العصفورة العمياء المكسينة ؛ روح الشاعر :

(                  كأنني

                   في دائرهْ

                   مغلقةٍ ، تظلُّ في آفاقها روحيَ

           حيرى ،

                   طائرهْ . (...)

                   سئمتُ إيماني

                        وكفري ،

                                    الفلسفاتِ ، الفنَّ ،

    كشفَ العلمِ ،

                   أنّي لترابيْ عائدٌ ،

                   أنّكِ للما بعدُ روحٌ

                                       عائدهْ . (...)

                   لمّا أزلْ

                   كأنني الآنَ خُلقتُ . أو كأنْ قدْ

    بدأَ البدءُ . أنا

                   بعدُ أنا .

                   وما تغيّرتْ سوى أقنعتيْ . لا

    شيء عندي غيرُ ضدّينِ أنا بينهما عصفورةٌ

    عمياءَ

                   في أجنحةٍ

                   مهاجرهْ . – ص 1086 – 1089) (نصّ "الدائرة") .

وسوم: العدد 625