رواية البيتُ الثالث لكاتبها صالح أبو لبن

وثيقةٌ تؤرخ للصراع على هذه الأرض

عزيز العصا

[email protected]

البيت الثالث؛ رواية لكاتبها "صالح أبو لبن".. لهذا العنوان رمزية ترتبط بالكاتب؛ فهو مناضلٌ فلسطيني خَبِرَ دروب النضال ومكافحة الاحتلال منذ نعومة أظفاره، فلم يتجاوز السابعة عشر من عمره عندما حفرت معصميه الغضين "كلبشات" الاحتلال. ذلك الاحتلال الذي هدم البيوت، ودمر الحضارة، وزوّر التاريخ وعبث بالجغرافيا.. أمضى صالح طفولته المعذبة وشبابه المتوثب ورجولته الصلبة في سجون الاحتلال ومعتقلاته؛ فخرج منها بعد خمسة عشر عاماً بأيامها ولياليها وعذاباتها.

تتألف الرواية من أربعةٍ وثلاثين عنوانا، تتوزع على (290) صفحة من القطع المتوسط، تربض بين غلافين يحملان رمزية الصراع على هذا الارض. فالغلاف الأول؛ يحمل بناءً بسيطاً يعبر عن حلم الالتصاق بالأرض-الوطن وبالأرض-الهوية وقاطنوه يسهرون لحمايته والدفاع عنه، وأما الغلاف الآخير؛ فقد جعل منه الكاتب محطة تذكرنا بأن الاحتلال بعيد انتاج ذاته بشباك يحرسها جنوده؛ حرصاً على استمرارها، وزيادة حدتها، وإطالة مخالبها حتى تطال مستقبل الأجيال القادمة.. لكن الكاتب "ما انفك جاهداً، وبطول نفس، ينفخ في الجمر لعله يتقد، ويسعى بثبات واصرار لاستعادة زمام المبادرة المضيع، واقفا عند حدود بيته الثالث وظهره الى الحائط".

لقد قمت بقراءة تحليلية لأربعة عناوين من هذه الرواية تقع في منتصفها؛ تشكل امتداداً لما قبلها وتقديماً لما بعدها، وهي: جمال، البيت الثالث، لله عباد وزكريا. فوجدتها تزخر بالبيانات والبينات التاريخية، كما تحمل في ثناياها وثائق تعبر عن طبيعية هذا الشعب الذي استطاع مواجهة الاحتلال الاحلالي-الاستيطاني. وتمكنت، بقراءة تحليلية، من رصد المحاور التالية التي أضاء بها صالح أبو لبن ظلمة الزمان والمكان:

أولا: الارادة، الابداع، والشجاعة؛ فالاطفال، وهم في دور التفتق ما بين السادسة عشر والعشرين يشكلون خلايا مسلحة لقتال الاحتلال، وصابر (الذي لم يبلغ السابعة عشرة من عمره) النحيل-رقيق العظام لا يخاف من شئ (ص77)، ويلقي القنبلة على الدورية العسكرية وفي داخله عظمة عبد الناصر، وفي وجدانه يجلس جيفارا (ص91)، ثم يقفز عن السطح وكأنه يطير عن عقود من الهزيمة والاستكانة (ص93). ويكبر صابر وهو دائم الحسابات في تجربة جديدة مع الاحتلال الذي يكشف، جهاراً، عن عدوانية فظَّة (ص97). كما أن "جمال" المصاب بشلل الاطفال هو الاب الروحي لمجموعة فدائية.

ثانيا: الآباء والأمهات مصدر الهام:

·        فلم يسجل "اطفال الشيخ" ملاحظة تشير الى ضعف والدهم قد تنعكس عليهم فترعبهم وتثير الهلع في نفوسهم. وعندما كبر صابر، وأصبح أسيراً، بقي يواسي نفسه بالموقف الشجاع لأبيه في مواجهة الحاكم العسكري عندما نسفوا بيته، وأضحى ذلك الموقف هو ذكرى والد بما فيها من مهابة وإيمان (ص107).

·        الأب؛ نموذج في التضحية والعطاء، فرغم ضيق اليد أصر على تعليم أبنائه وبناته.. إلا أنه في العام (1960) نُكِبَ، ونُكِبَتْ مع أسرته، وامتلأت القلوب بالحسرة، عندما سرق أحد الأغنياء منحة أحد أبنائه لتعلم الطب في الجامعة الأمريكية ببيروت (ص112). الأب-الشيخ لم يتعصب لفكره؛ فانطلق مؤيداً لأبنائه اليساريين المنادين بالتحرر من ربق الاحتلال، حتى أُطلق عليه "الشيخ الأحمر" (ص116).

·        وتبقى ذكرى الأب، التي لا تمحي، عبر تسمية إبنه بـ "صابر" الذي أسماه كذلك لكي "يكون صابراً على قدره الصعب صامداً في مواجهة التحديات الكبيرة" (ص113).  

·        الأم؛ نموذج في العطف، والحنان، والصبر، والتفاني في تلبية ما يطلب منها، وحسن التدبير والإدارة وهي المربية والمعلمة؛ فهي التي يغفو أطفالها وهي تقص عليهم القصص التربوية-الهادفة. ورغم "عسر الحال"؛ تستجيب لطلبات إبنها "صابر" عندما يأتيها من الخلف ويطوق عنقها بذراعيه مع قليل من الرجاء والحنان؛ فتُخرِج كيس النقود المعلق في صدرها وتعطيه منه ما يريد" ص102.

·        الأم؛ هي السند في الأزمات وهي المعين في الأسر. فها هي تبلغه بلغة الدموع: "يمه.. اليهود نسفوا دارنا، ودور اصحابك" (ص104)، وعندما تشتد عليه وطأة الخبر، ويطالب بإعدامه هو بدلاً من نسف البيت؛ تنهض فتواسيه وتشجعه وتتمنى له العمر المديد والصحة والعافية التي تمكنه أن يبني بيتاً آخر..    

ثالثا: الاحتلال؛ إرهاب مستمر وإذلال للمواطنين على مدى عقود من الزمن: دائما؛ كان الاحتلال يتصرف بشراسة على مبدأ شارون "ما لا يأتي بالقوة؛ يأتي بالمزيد من القوة"، فكان للاحتلال في رواية صالح أبو لبن صور قاتمة-حالكة السواد، منها:

·        منذ الأيام الأولى للاحتلال في العام (1967) سام جنوده الناس سوء العذاب. ولم تمر مناسبة والا وقام الجنود بإذلال رجال المخيم وشبابه، فجمع جنود الاحتلال أكثر من ثلاثين رجلا من وجهاء المخيم، الكبار في السن، وأشبعوهم حتى تركوهم بأسنان مهشمة وعلى وجوههم آثارٌ دامية (ص80) أمام أطفالهم وأسرهم ومجتمعهم.

·        عانى الصغار من "الليل البهيم والرصاص الأرعن والجيش وما تختزنه خيلاتهم من قصص الكبار المرعبة" (ص79).

·        سياسة الاحتلال وقوانينه الجائرة في هدم البيوت؛ كانت حاضرة في رواية صالح أبو لبن.. فبعد أن كَنَسَ الاحتلال بيته (الأول) في العام (1948)، عاصر هدم بيته (الثاني) عندما كان هو معتقلاً في سجن رام الله، ثم زحف هدير الاحتلال ليهدم بيته الثالث بأُسَرِه الثلاث التي تقطنه، الذي يضم في حديقته رفات والده، والذي يعتبره وقف له القدسية (ص100)، ويقول فيه: إنا باقون فيه وسنموت من دونه (ص105).

·        يستذكر أبو لبن ما قام به الاحتلال في الانتفاضة الأولى من فرض حصار على المخيم عندما وجه العراق صواريخه إليه ص108.

·        في الانتفاضة الثانية؛ تبقى نفس الرصاصات هي.. هي تطارد طالبي الحرية (ص95). ونفس الجنود المدججين يقتلون الناس؛ بلا وازع من ضمير.. فقتلوا مدير مستشفى بعد أن ضمنوا له المرور (ص96). وتوالى القتل في الشعب الفلسطيني حتى ضاقت ثلاجات الموتى بالجثامين عندما وصل عدد الشهداء إلى معدل عشرة شهداء في كل ساعة (ص109).

·        من أبشع صور الحصار أنه أطبق على المخيم، من كل الجهات، اضطر صابر وأخوته إلى مواراة جثمان والدهم في حديقة "البيت الثالث" الذي بنوه بعرق السنين. بذلك؛ فإن الاحتلال يسرق من أبناء الشعب الفلسطيني كل شئ؛ الأرض، والعز، والحياة، ويسرق منهم حتى فرصة أن يحظى الواحد منهم بحقه في الموت بطريقة لائقة (ص119).

رابعاً: فلسفة الثوار واستراتيجات تفكيرهم تتطور مع الزمن:

·        جعلت الاحداث من الاطفال فلاسفة ومقاومين فقد وجد الواحد منهم نفسه أمام الجنود المدججين بالسلاح "ليس انساناً" (ص81)، فأخذت أفكار المقاومة تتشكل في أذهانهم.

·        اعتلى كل منهم كتف الآخر؛ فكونوا سلماً تمكنوا من خلاله من تثبيت العلم الفلسطيني على سارية مخفر الدهيشة (ص92).

·        رغم طفولتهم المبكرة؛ إلا أنهم طوروا استراتيجيات تفكيرهم، والبحث عن الطرق المنظمة في مواجهة الاحتلال، حتى أصبحوا أعضاء في خلية عسكرية لا يعرفون إسمها. ثم استخدموا البيئة أفضل استخدام؛ فجربوا تنفيذ أول عملية عسكرية لهم باستخدام الحجارة (ص89).

·        بمرور الزمن، وصقل التجربة، أخذ الثوار يتفهمون مرامي الاحتلال وأهدافه الاستراتيجية في معركة الوجود تلك. ففي تعقيبه على خبر نسف بيته؛ يبث صابر قناعته بأن الاحتلال بنسف البيت يريد "نسفنا كفكرة ووجود"، وتتجلى في ذلك الفلسفة العنصرية التي لا أخلاق لها (ص104).

خامساً: مثلث مواجهة الاحتلال: لقد كان لممارسات الاحتلال، وعنجهية جنوده، ووعي الفلسطينيين لطبيعة الصراع، وللاعتقالات المتتالية والأحداث المتتابعة، بعد العام 1967، بالغ الأثر في الالتفاف الجماهيري حول الفدائيين والعمل الفدائي، مثل: معركة الكرامة، وحرق المسجد الأقصى، وحرب الاستنزاف. فتشكل مثلث متماسك الأضلاع، أضلاعه: حرب الاستنزاف، فدائيي الخارج القادمين من خلف الخطوط والعمل الفدائي داخل الأرض المحتلة (ص88). 

سادساً: المرأة حاضرة في كل المراحل:

·        فلم يمر حدث، ولم يُذكر نشاط وطني، ولم تذكر مجموعة عسكرية، ولم يتم اعتقال الا وكانت المرأة حاضرة فيه بقوة.. فمريم توزع المناشير، وتخيط الأعلام وتشارك في تعليقها (ص84)، وعائشة عطا وعائشة عبيد تعتقلان إلى جانب الرجال (ص83).

·        يسرى (أخت صابر)، التي فرح والدها بقدومها؛ فذبح لأجلها عقيقية تيمناً بقدومها، ومحبة لها (ص110).. وعندما كبرت "يسرى"، أصبحت الأم البديلة عند مرض أمها؛ فتغسل غسيل العائلة وتنشره "يدوياً"، وتعجن، وتخبز، وتطبخ، وتجلب الماء، مع رفيقاتها من المخيم، من  نبع عين قرية ارطاس في وادٍ سحيق وطريق طويلة مضنية ووعرة جداً ص103. كما أن الأخوات: يسرى، وزهرة وخولة عملن بجد واجتهاد؛ فأسهمن في دعم وإسناد أسرتهن التي نُسف منزلها (ص110).

·        أما زوجة صابر؛ فتحظى بزوجٍ يطبق المفاهيم التي يحملها بشأن المساواة في التعامل مع المرأة؛ فيقف إلى جانب زوجته حتى تكمل دراستها الجامية وحتى تمكنت من بناء شخصية المرأة القوية التي ترغبها (ص98).

سابعاً: ذاكرة تأبى النسيان:

·        والد صابر يصطحب ولديه ويتوجه بهما إلى بلدتهم زكريا؛ ويمشي من هنا ومن هنا حتى يصل منطقة مسواة بالأرض، فقال: "هان يابا محل دارنا" (ص105).

·        وهناك جمعية "أهالي زكريا" التي قامت بجمع التاريخ الشفوي للقرية؛ فاستعاضت بكبار السن عن الأقمار الصناعية؛ فصورت من خلال رواياتهم حارات القرية وبيتوها وعاداتها وتقاليدها (ص123).

·        ولعل من أسوأ مراحل تلك التجربة المريرة؛ ما أشيع في حينه بأن الخروج من البلاد مؤقت وأن الجيوش العربية ستعيد الأهالي إلى قراهم (ص124).

·        كان العباد في تلك البلاد غارقون في عالم الروحانيات غير عارفين بما يُدّبَّر لهم. ثم تبدأ الهجرات المتتابعة من القرى رغم وجود الجيش المصري. هذا الجيش الذي انسحب لِتَخْلفَهُ مدفعية (العدو) تقصف البلد (زكريا) مساءً، فخرج اليهود للأهالي من كل مكان، فاحتلوا التل العالي المشرف على كل قرى المنطقة ص127. وعندما حل الظلام؛ جهزت أسرة "صابر" نفسها بما يقتاتون عليه لمدة أسبوع، وفي الطريق ارتعبت "فاطمة" فسقطت عن رأسها جرة السمن؛ فانكسرت واندلق السمن على الأرض ص128.

·        يستذكر الناس حالات بشعة من القتل الذي مارسته عصابات الصهاينة بحق أبناء فلسطين؛ فقتلت الشباب وخطفت الفتيات. كما يستذكرون أولئك الذين اعتقدوا أن الصلوات وحلقات الذكر تحميهم، فكانت النتيجة أن العصابات الصهيونية دخلت عليهم في الزوايا والجامع وقتلت منهم الكثير.

ثامناً: توظيف الثقافة والفن في المعركة: فقد قرأ الثوار للثائر الأممي جيفارا، وجعلوا من أغاني أم كلثوم خلفية لجلساتهم المشبعة بالأمل. فبدت الأغاني وكأنها تؤرخ للأحداث؛ فما من أغنية صدرت في تلك الفترة إلا وصادفت سهرة للمجموعة الفدائية تخللتها فكرة ما للنضال (ص87). كما أنهم يتابعون الأفلام؛ فعندما تفيض النقود عن حاجتهم يخططون لحضور فيلم سينمائي(ص88). تلك الأفلام التي لم يقتصر أثرها على إثراء ثقافتهم ومعارفهم؛ بل كانت الملهم لهم في خططهم المختلفة، كخطوات تنفيذ إلقاء القنابل على الدوريات (ص89).

التعقيب والخاتمة

لقد جدت في رواية "البيت الثالث" سيرة حياة على مدى ستة عقود من الزمن لصالح، ورفاق دربه النضالي، واسرته، ومجتمعه، ومخيمه، وشعبه.. إنها رواية مشبعة بالأحداث، والصور، والمشاهد التي توثق لما تعرض له الشعب الفلسطيني من تعذيب، وتشريد، وهدم لمساكنه، وانتزاع لأطفاله من أسِرَّة نومهم، ثم المزيد من هذا كله؛ فلم يكتف الاحتلال بهدم البيت الأول، بل استمر ليهدم البيت الثاني ثم يشحذ أنيابه لهدم البيت الثالث.. وفي ذلك يتجلى ظلم الاحتلال وشراسته وعدوانيته اللامحدودة.

إنها توثيق لجزئية زمانية ومكانية من الكل الفلسطيني الذي خُطِّطَ له أن يعاني من الفقر المدقع، والجهل القاتل؛ نتيجة الإفقار والتجهيل الذي فرضته عليه الاحتلالات السابقة، آخرها الإنجليز؛ لينتهي به الأمر لقمة على مائدة الحركة الصهيونية التي كانت قد أعدت العدة للانقضاض على الأرض والشعب لاخراجه من دياره، بغير حق، واجتثاثه من جذوره لينتهي الأمر بفلسطين "أرض بلا شعب؛ لتحتضن شعبٌ بلا أرض!".

وقد بين لنا أبو لبن كيف واجه هذا الشعب عنجهية القوة، والقوة المفرطة، رغم صدره العاري؛ فلم يكن لقمة صائغة طيبة المذاق سهلة الهضم، بل كان عصي على الانكسار صعب المراس، يمتلك من الإرادة وشدة الشكيمة ما جعله يشكل الرقم الصعب في معادلة الصراع على أرض الآباء والأجداد، ففجر ثورة عارمة على المحتل وأعوانه ومريديه وقدم التضحيات الجسام على مذبح الحرية والتحرر.

لم ينسَ أبو لبن تقييم أداء المجتمع الفلسطيني قبيل النكبة؛ عندما كان غارقاً في "الروحانيات" والدروشة التي تعمي البصر والبصيرة عن الواقع القاسي الذي يداهمهم، تلك "الإيمانيات!" التي لم تحمهم من قتلهم وهم في دور العبادة، ولم تمنع السمن من أن يندلق من الجرة المكسورة، وكأني بأبي لبن يذكر الجميع بقوله تعالى: "وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ" (الأنفال: 60). 

هذا ما أراد صالح أبو لبن تبيانه في روايته هذه؛ لقد وثق لسيرة ومسيرة عاش تفاصيلها، وعايش شخصياتها عن قرب. فوصف وتعمق في الوصف ليترك لنا بين جنبات هذه الرواية مجموعة من المفاهيم، والقيم، والمثل العليا التي تشكل وقوداً لقطار الأجيال القادمة المنطلق، قُدُماً، نحو التحرر واستعادة الحقوق المغتصبة.

فلسطين، بيت لحم، العبيدية               30 حزيران، 2013م