محبرة الخليقة (43)

تحليل ديوان "المحبرة" للمبدع الكبير "جوزف حرب"

ملاحظة : حلقات من كتاب للكاتب سوف يصدر عن دار ضفاف (الشارقة/بغداد) قريباً . 

السيرة المسائية لابن الصباح:

        الجسد المؤثَّم

-----------------------------

 (            وأقرأُ نصّكَ منذ عصورٍ ، وتطلبُ

     منّيَ ألّا اصدّقَ

                نصّاً

                سواهْ .

                وألّا اصدقَ إلّا الذي قدْ

     رسمتَ لما قبلَ موتيْ ، وما بعدّ موتيْ ،

     كأنّكَ مجرى ، وأنّيْ

                مياهْ .  

               فإنْ كنتَ لم تستطعْ جعلَ

     عينيْ تصدّقُ هذا الذي كلّ يومٍ أراهُ ،

     فكيفَ اصدّقُ ذاكَ الذي

                لا

                أراهْ . )

 

 

 

.. وبشيء من الأوهام العلاجية ، يفتتح الشاعر نصوص القسم التالي "سيرة مسائية لابن الصباح" . فنصّ "رؤيا الممحاة" – وهو النص الأول - هو عبارة عن سلسلة من الأوهام العلاجية التي يمكن أن نسمّيها الآمال . ففي العالم الذي وصفه الشاعر في الأقسام السابقة ؛ عالم يستظل بأشباح العدوان ، ويحيا على الجثث والدماء والشظايا ، تبدو الآمال التي يتمناها الشاعر في أن يمحو فظائع هذا العالم ويخلق آخر خال من المقابر ، وخال من الدموع ولحظات العناق الأخير ، أوهاماً وخداع نفس مأزومة تستنجد بالمستحيل . إنه يريد صناعة فردوس على الأرض ؛ فردوس يحلّق فيه الإنسان بأجنحة الغمام ، وتصبح فيه الأرض "نصّاً" يقرؤه الزمان ، وينقّحه مثل النص الذي عرضه عليه الكون الشاعر في استهلال ملحمته ؛ فردوس تشتغل فيه "ممحاة" الله لتمسح كل الجروح والضغائن ، بل تهيّْ الأسباب لتتدخل في قوانين النماء في الطبيعة ، فتسرّع حركة النضج والخصب والتفتّح . أما الوهم / الأمل - الأهم - فهو الذي يُمسك بخناق الشاعر نفسه طول حياته ، وهو سرّ إبداعه وأوهامه أيضاً ، فهو الخلاص مما يسمّيه "مذبحة الموت" :

(                     ولا شيء يُدعى : الخيانةَ . لا

        شيءَ فيكَ سوادٌ ، وفيّ بياضٌ . ولا جوعَ ،

        لا حزنَ ، لا شوقَ إلّا الجميلُ ، ولا وطنٌ ،

        أو قضاةٌ ، ولا

                      أسلحهْ .

                      ومذبحةُ الموتِ ؟

                      يا

                      لانتصاريْ ، إذا ما انتهتْ

                  هذه

                      المذبحهْ . – ص 1109) .

إنّ أوهاماً من هذا النوع لا يستطيع "تسويقها" أيّ أحد على القلوب العطشى لهذه الجموع البشرية المُنهكة ؛ جموع تذكّرك بلوحة "أمثولة العميان" الشهيرة لـ "بروجل" الذي صوّر فيها ستة عميان كلٌّ منهم يُمسك بعصا الثاني (كان الأول قائدهم قد سقط في حفرة . والثاني انجرّ مع السقطة وهو في اللوحة على وشك السقوط ، وهكذا الثالث بدرجة أقل . وكان العميان الآخرون يتجهون إلى السقوط منقادين خلف قائدهم من دون أن يعلموا ما يجري ، وملامح الرعب والفراغ على وجوههم ؛ هذه الجموع يسوّق الأوهام بينها "من" تربع على العرش بعد أن تسلّم صولجانه من الشمس ، وتاجه من القمر (راجع سيّدي القاريء نص "رباعية الخلق" ص 59 - 109) ، والذي يثبّت معالم عظمة نرجسيّته عن طريق إنكارها الآن :

(                        ولستُ عظيماً لأنّ الوصايا التي

      أحيتْ الأرضَ مكتوبةٌ

                         فوقَ لوحيْ يديّْ ،

                         وأنّيَ أمشي

                         وكيسُ العصورِ على كتفيّْ ،

                         وأنّيَ بحّارُ ذا السرِّ ،

                         هبّتْ رياحُ البعيدِ عليّْ ،

                         وأنّيَ ساكنُ بيتِ الغموضِ ، إذا

      ما رجعتُ مساءً إليهِ ،

                         رجعتُ إليّْ ، ص 1110 و1111) .  

فهو إذ ينفي أن تكونَ عظمته قد شمخت على عرشها على ركائز تلك السمات الخارقة ، فإنه في الحقيقة يؤكّدها في وجدان المتلقّي ، ويصعّدها كلّما انكرها وهو يستعرض أبعادها الكونية التي تضعه في موقع المتعالي علينا نحن البشر العاديين الذين لم تتوّج سواعدنا الأرض بالملح ، وإذا استمعنا إلى صوت الغيب ، فمن المؤكّد أننا سوف نستمع إليهِ بآذاننا . لسنا مثله نحن البشريين ، وهو مثلنا إذ ينكر شروط عظمته التي لا نمتلكها ، لكنه لن يصبح مثلنا لأن شرط عظمته الفائقة ينبثق من إمكان مستحيل مضاف هو نوع من "كلّية الوجود – omnipresence" يصبح فيه مركزاً لهذا الكون بكل موجوداته ؛ مركز تدور حول محوره الأشياء التي تكتسب مبرر وجودها وديمومتها الحيوية من وجوده . وهي ركيزة مضافة لعظمة نرجسية تصل حدوداً باثولوجية . والكشف الأخير لشرط الوجود الكلي يتضمن ما يشبه التهديد المغلّف ، لأنه إذا انتهى انتهى مركز الوجود الكلي ، وانتهت كل الاشياء بلا استثناء :

(                        ولستُ عظيماً لأنّ مفاتيحَ ذا

                الكونِ

                         في راحتيّْ ،

                         وأني البياضُ الذي غيمةُ الحبرِ

                         تهمي عليّْ ،

                         عظيمٌ ،

                         لأنيْ إذا ما انتهيتُ

                         انتهى كلُّ شيّْ . – ص 1112) .  

ولاحظ السكون المضاعف في نهاية حرف الرويّ كيف يشعرك وكأنّ الشاعر يخاطبك بحماسة فائرة وهو يدق بقبضته بعنفوان وتحدٍّ .

.. وتتجلى ملامح تلك النرجسية المرضيّة من التساؤلات الثلاثة الأولى في النصّ التالي "الكئيبة" :

(                        تُرى ، كمْ نبيٍّ أتى لم أخنهُ ؟

               وكمْ منْ سلامٍ ، ولم أُجرِ يوماً عليهِ

                                             دماءهْ ؟

                         وكمْ منْ غمامٍ علا الروحَ

                         أيبستُ ماءهْ ؟ - ص 1113) .

إنها نرجسيّة القدرة الكلّية السادية التي لا تُطاق ، فهي تتعدى كلّ حدّ ، وتخرق كل منطق . إنها الساديّة الكلّية التي لا تبقي ولا تذر بحيث يمكن وصف صاحبها بأنه شيطان الوجود وعاره ، فهو خائن الأرض ، وقاتل عشاقها ، ورافع صلبان الرسل ، ماحق الإصباح ورسول الظلام ، همّه الأول والأخير أن تكون الأرض كئيبة شاحبة الوجه متشحة بسواد الخراب وذابلة من الأسى المزمن :

(                        أنا

                         كاهنُ البومِ . لا وحشةٌ للقبورِ

             وما كنتُ من قد اقامَ الصلاةَ عليها . ولا

             منبرٌ للخرابِ

             وما كنتُ يوماً

                         خطيبهْ

                         أيا

                         هذه الأرضُ ، لا أجملَ عنديَ

                  من أن تكوني

                         كئيبهْ . – ص 1115) .

ويبدو أنّ جوزف حرب – وبخلاف النظرة السريعة والمباشرة إلى نصوص كلّ قسم – قد وضع مخطّطاً محكماً لمضامين نصوصه في كل قسم ، بحيث ترتبط سلاسل هذه النصوص بحلقات مستترة تجعلها في وحدة عضويّة تتنقل الفكرة فيها بخفّة من نصٍّ إلى آخر يليه . فالعدوان المحيّر ، والروح السادية الطافحة التي يتلذذ فيها الشاعر بانكسارات الأرض وأحزانها وحرائقها وقبورها ، هي نتاج مرضي مرتبط بالإحساس بكلّية الوجود ، ولكن عواملها الفاعلة تتضح في النص اللاحق "لو لم أجىء" . فعبر سلسلة من التساؤلات الإفتراضية عمّا سيحصل لو لم يجىء ، ولأنه قد جاء وانتهى الأمر ، وصار مجيئه حقيقة مفروضة عليه ، فإنه يلحق تساؤله الأول بسلسلة افتراضات تتسلسل جدّيتها بصورة متصاعدة لتتحوّل إلى اعتراضات واقعية صلبة ؛ اعتراضات على هذا الغبن الماحق الذي يصيب الشاعر من عالم بذل كلّ وجوده من أجله ، فلم يحصد غير الخيبة ، والعوز والجحود ، وروح مثخنة بالجراح :

(                    دميْ

                     سالَ أكثرَ ممّا بهذي المحيطاتِ

منْ أجلِ شمسيْ .

                     ولكنني

                     لستُ أملكُ شمعهْ .

                     ومن حقِّ موتيَ ضدَّ المجاعاتِ ،

ألّا أرى فوقَ خدٍّ على الأرضِ

                                   دمعهْ . – ص 1118 و1119) .

الآن .. تبدو في ذاك العدوان الفائض لمسة "منطقيّة" متصلة بالإحباط الجسيم ، والنكران الذي لا يُطاق ، فحينما لا يحصد الإنسان من تضحياته وعرق عطائه الممزوج بالدم سوى الخيبة والإجحاف والظلم الشامل ، لن نتوقع منه غير عدوان شامل ضروس يتعدى حكمة بيت أبي نؤاس :

لا أذود الطير عن شجر   قد بلوتُ المرّ من ثمره

فلن يكتفي الفرد المحبط المظلوم بعدم إبعاد الطير عن ثمار الشجرة المرّة التي كُلّف بحراستها ، بل سيدعو الغربان للفتك بها ، وإن استطاع فسيحمل فأسه ويقطّعها .

ولم يكن هذا الحيف والظلم والإجحاف مرتبطاً بمناسبة أو عام أو عقد من السنوات ، إنه ممتدٌ عبر العصور ؛ ليس العصور الماضية حسب ، بل المقبلة أيضاً ، فحتى عصور المستقبل ستكون مظلمة ومثقلة بالموت والنفي والإغتراب (نصّ "عصور" – ص 1121 – 1123) . أما الجوع .. فقد كان "شهيد الطحين" لقرون وقرون ، في الوقت الذي يتنعم فيه الوحش والطير بالغذاء (نصّ "الخبز" – ص 1124 و1125) .. وأمّا الموت ، فإن حياته التي أرادها خادمته عبر السنين كي ترتب له عمره ، لم تستطع ترتيب غير قبره (نصّ "خادمة" – ص 1126) .

وبعد هذا القهر الساحق ، والظلم الماحق ، والإجحاف والخيبة والحزن ، هل سيبدو غريباً حنق الشاعر الأسود على الأرض المجافية . بالعكس ، سيبدو لا سويّاً حين ينكص مذلولاً وهو كظيم . وهذا ما صار إليه فعليّاً بعيداً عن أوهام العظمة المرضيّة التي سطّرها في نصّ "العرش" ، حيث يتجلى حاله المنكسر والمنخذل في النص التالي : "تاج اليأس" الذي يأتي ليؤكد ما قلناه قبل قليل عن ترابط نصوص الشاعر ، فهو متسقٌ ، عنواناً وبحراً شعرياً وحرف رويٍّ ، مع نصّ "العرش" . فالشاعر هنا مكلّل بتاج اليأس ، مخلوع عن عرشه ، وفوق يديه رائحة الملح لا وصايا الكون . وقد ضاعت أيضاً أوهام الأمل التي باعها لنا في نصّ "رؤيا الممحاة" الذي حلم فيه بعالم حرٍّ بلا خيانات ولا سجون ولا أسلحة ولا أضرحة ؛ فعالمه الآن عالم اللصوصية والقهر والقتل والطعنات :

(                  مضى

                   ألفُ عصرٍ عليَّ ،

                   فمنْ كانَ لصّاً فقد صار لصّينِ .

والسجنُ صارَ سجوناً . وأصبحَ أقصرَ عمرُ الحدائقِ ،

والشوكُ أصبحَ أقوى ،

               وأعلى .

               ويا

               طعنةَ الرمحِ ، كمْ أنتِ

        أرفقُ ممّا يحاصرني اليومَ

               منْ

               أسلحهْ .

               لقدْ

               ضاقَ بهوُ الأسابيعِ ،

               واتسعتْ قاعةُ الأضرحهْ . – ص 1131) . 

وأمّا النتيجة الختامية لكلّ هذا الضيمِ فهي خلاف ما أعلنه في نصّ "الكئيبة" عن نزوعه الدائم ، بل فرحه في أن يرى الأرض كئيبة ممتلئة بالأحزان ، فقد صار هو نفسه غيمة للكآبات والتعاسة ، وأصبح بيت يديه ملاذاً لوجهه كي يدخله ويبكي ، ولم يبق له في هذا الوجود الجائر إلّا أن يرفع مناديل الوداع ويمّحي في ضباب الضياع والالم . 

وسوم: العدد 630