سوء فهم وسوء نية

يكاد يأخذني العجب العجاب لولا معرفة الاسباب، من عربي يقرأ القرآن وحديث النبي الكريم محمد صلوات الله وسلامه عليه، وشعر العرب الذي «تطرب له اسماع الكرام» كما يقول جوته كبير ادباء المانيا، ثم تراه يستفتي طائفة المستشرقين في دينه ويقينه، ويستنبؤهم خبر امته ويركن الى ما يقولون.

ان المستشرقين الا من رحم الله يقرنون-كما يقول العقاد-سوء الفهم بسوء النية لانهم «يخدمون سياسة المستعمرين، او سياسة المبشرين المحترفين، او ينظرون في بحوثهم نظر الغربيّ الذي ينظر الى الشرقيّ نظرة المتعالي عليه في ماضيه وحاضره»، ثم ان اغلبهم يخبطون خبط عشواء في تراث لم يحصّلوا ذوقا في لغته، وتقصر ادواتهم عن الاحاطة به خُبرا، فتراهم يهرفون بما لا يعرفون على نحو ما كان من مرجليوت الذي انكر وجود الشعر الجاهلي ونادى بفرية انتحاله تلك الفرية التي هرع على اثاره فيها طه حسين،  فكان ذلك سببا في معركة فكرية ونقدية حامية الوطيس ما لبث طه حسين ان تراجع فيها عن ما دفعه الشطط والغلو اليه ولا سيما في كتابه حديث الاربعاء وذلك بعد ان تصدى له رجال ذوو قامات وعزمات امثال مصطفى صادق الرافعي ومحمد فريد وجدي ومحمد الخضر حسين ومحمود محمد شاكر وآخرون.

وقد كان لنا في الاردن نصيب في تحرير مسألة الانتحال هذه وبيان تهافتها وذلك فيما دبجّه يراع استاذنا الراحل ناصر الدين الاسد في كتابه مصادر الشعر الجاهلي الذي يمثل ردا علميا هادئا وموضوعيا على اطروحة طه حسين في كتابه في الشعر الجاهلي.

وعلى كثرة ما قرات في هذه المسألة التي انبعث عجاجها في مطالع القرن العشرين فاني لم اجد قولا فصلا فيها كالذي قاله العقاد رحمه الله في كتابه مطلع النور او مطالع البعثة المحمدية وهو الى ذلك قول موجز او ايقونة فكرية تطرد بها وساوس المستشرقين ومن يضاهئونهم فيما يزعمون.

يقول العقاد ان من المستحيل او شبه المستحيل تزوير ادب كامل يُنْسَبُ الى الجاهلية ويصطبغ في جملته بالصبغة التي تشمله على تباين القائلين والشعراء فاذا جمعنا الشعر المنسوب الى الجاهلية كله في ديوان واحد فمن المستحيل او شبه المستحيل ان نجمع ديوانا يماثله من كلام العباسيين او كلام الامويين المتأخرين.

اما عن قلة الفوارق بين الشعر المخضرم والشعر الاموي الاول والشعر الجاهلي فان العقاد يرى في ذلك اية على صحة العلامات التي تميز الشعر الجاهلي وعلى صحة القرابة بينه وبين الشعر الذي لم يفرق عنه افتراقا بعيدا بزمانه وثقافة قائليه وبيئاتهم في المعيشة ومناسبات التعبير.

ثم نرى العقاد يوجّه ما قد نسميه ضربة قاضية في مسألة انتحال الشعر الجاهلي حيث يقول ان الملامح الشخصية التي تميز بين الفرزدق والاخطل وجرير لم يكن لها ثبوت اوضح واقوى من ثبوت الفوارق التي تميز بين امرئ القيس وعمرو بن كلثوم وزهير بن ابي سلمى فمن يرى ان خلق دواوين الفرزدق والاخطل وجرير في وسع راوية واحد فقد سهّل عليه ان ينسب شعر الجاهليين جميعا الى رواية او رواة، ولكنه يذهب في الحالين مذهباً لا سند له ولا سابقة من مثله في آداب الامم، ولا نصيب له من الذوق الادبي غير النبوّ والاستغراب.

ولقد كنا نتمنى لو افرد العقاد كتابا خاصاً لهذه المسألة، اذن لكنا ظفرنا بألوان من الحجاج فريدة فيها، فالذي نقلناه هنا من قول فصل جامع انما كان في سياق البحث في البعثة النبوية وما تقدمها من احوال العالم واحوال جزيرة العرب، ولم يكن لأحد غير العقاد ان يلتفت مثل هذه الالتفاتة الشافية في ثنايا بحث مختلف المنطلقات والغايات عن موضوعها، ولكنه العقاد.

وبعد، فان عجبنا ما يزال قائماً من عَرَبٍ يحتكمون الى اقل الناس دراية بتراثهم وفهماً له، ليوجهوهم في مسالك النظر فيه، مع علمهم بما هم عليه من «سوء نيّة وسوء فهم».. ولكن اكثر المضاهئين المبهورين لا يعلمون..

وسوم: 640