محبرة الخليقة (32)

تحليل ديوان "المحبرة"

للمبدع الكبير "جوزف حرب"

د. حسين سرمك حسن

ملاحظة : حلقات من كتاب للكاتب سوف يصدر عن دار ضفاف (الشارقة/بغداد) قريباً . 

هكذا يعلن الشاعر الإبن المثكول المحطّم إدانته لصنّاع الحروب وقادتها ؛ إدانة يدِ القيادة المجرمة التي (حملت مروحهْ ، لتبعدَ حرَّ الظهيرةِ ورائحةِ المذبحهْ) (ص 903) . والطامة الكبرى هي أنّ العدوان قد وُلد مع الإنسان (الإنسان حيوان معادي !) ، فخلق آلهةً للحربِ شديدة الشراسة يعبدها ويقدّسها ويأتمر بأوامرها الدمويّة ، حتى الأديان روّجت للحروب بصورة تجعل المقولة الغريبة التي ترى أنّ "الرذيلة هي الذراع الأيمن للفضيلة" صحيحة ودقيقة . حتى الله في عُرف أوغسطين ساوى بين الحرب والفضيلة إن هي كانت لأجل المسيح . عشرات الفلاسفة والمفكرين وبعضهم مصلحون مشهورون كانوا متحمّسين للحرب ، وينادون بما أسموه بـ "الحرب العادلة" متناسين أن كلّ حرب ستعني أن تكون قاتلا أو قتيلا . أرسطو ، وهرقليط ومكيافيللي وهيغل نظّروا للحروب التي توصل للإصطفاء والخلاص والسموّ وغنى العبقرية :

(                 بعضُ الفلاسفةِ التافهينَ ادّعوا

أن عصرّ الصناعةِ يلغي سلاح الحروبِ .

                  هي الحربُ ، تبقى ،

                                وتبقى ،

                                وتبقى ،

                                       ليلغي

النقيضُ

النقيضَ (...)

                  وقد تسكبُ الحربُ فكرَ القويِّ

برأسِ الضعيفِ . وقد يفتحُ البابَ من هو يحيا وحيداً

لكي يتلقّحَ . قدْ يدخلُ الغدُ بيتَ الذي ساكنٌ

أمسهُ . – ص 906) .

إنّ إشارة جوزف حرب هذه خطيرة جدا جداً وتتطلّب وقفة وتأمّل ودرس واستخلاص عِبَر ، فدور الفلاسفة – وكذلك الشعراء – صار خطيراً جدّاً جداً في تعبئة النفوس المسالمة نحو الحرب ومسخ قيمة الحب فيها ؛ الفلاسفة يجعلون الحرب طريقاً ضرورياً للبقاء واستكمال إنسانية الإنسان ، والشعراء يلهبون المشاعر ليبطش الإنسان بأخيه الإنسان ، ويدبجون القصائد في مديح "الأبطال" – وهم قتلة في الواقع – وفي حبّهم . إن الفلاسفة التافهين هم مثل هوليوود التي تحاول أفلامها جعل الحرب تبدو بسيطة ومبائرة جدا .. وممتعة . وعندما يتحدث معظم الناس عن القتل ، فإنهم يشبهون العذراء التي تتحدث عن الجنس . يمكنك أن تتحدث عن الحرب طوال اليوم ولكن عندما يجدّ الجدّ وتقف ضمن أتونها ستجد أن الأمور مختلفة بشكل مريع . فعندما تبدأ الإطلاقات بالتطاير تبدأ العواطف بالتصاعد والإحتدام ، وستكون هذه عاملا قويا يؤثر على الطريقة التي يرى فيها الإنسان الأشياء . فخمسمائة مقاتل يمكنهم أن يروا خمسمئة شيء مختلف . وفي الحرب يرى كل مقاتل الأشياء بصورة مختلفة ، ولكن الفلاسفة يريدون جعل الإنسان يعتقد أن العالم أما أسود أو أبيض . "هو" الأبيض – طبعاً ليس على طريقة أبيض جوزف حرب – و"الآخر" هو الأسود . وإذا درس أحدنا التاريخ وتعمّق فيه فسيجد أن الإنسان لا يرغب عادة في قتل أخيه الإنسان ، وأن المقاتل يجد أن القيام بذلك أمر فاجع وصادم جداً . لكن الفلاسفة يجعلون المقاتل يقتل بـ "قناعة" .. يقتل لأنه يؤدي واجبا مقدّساً . ليس هذا حسب بل طلع علينا من ينظّرون للنهوض الذي تشهده الشعوب بعد كل حرب كونية مدمّرة .. ولا أحد غير الشاعر يتساءل عن أي نهوض هذا الذي يشهق على جماجم الضحايا ويروى بدماء الشباب ودموع الأمّهات ؟ لا أحد يقف أمام أصحاب نظرية تمازج الحضارات في الحرب ويصرخ في وجوههم : أين قتلاي ؟ :

(               يتمازجُ ماءُ الحضاراتِ في الحربِ . بعدَ

   الحروبِ تصيرُ القوانينُ فينا أقلّ غباراً . وما الحربُ

إلّا التقدمُ ، لكن ، خطاهُ دمٌ .

                ربّما

                كلّ ذلك كان صحيحاً .

                وقتلايَ ؟

                أينَ همُ الآنَ قتلايَ ؟ - ص 906) .

 

درس من كازنتزاكي .. الفيلسوف قاتلاً :

----------------------------------------

لا مراء في أن "نيتشه" الأحول هو من أخطر الفلاسفة الذين شهدهم التاريخ البشري ، لقد قلب الفلسفة – كما يقال في التعبير الدارج – على بطانتها ، وأعلن موت الله وولادة الإنسان الأعلى / السوبرمان . كل ما حصل من تغيرات فلسفية في العالم مدين له بقسط وافر ، وهو واحد من أهم آباء الحداثة وما بعد الحداثة . لكنه في المقابل أنموذج للدور المدمّر الذي يمكن أن يلعبه الفلاسفة في تأجيج شحنة العدوان في نفس الإنسان ، وجعلوا الحرب اصطفاءً وخلاصاً وسموّاً وغنى للعبقرية كما يقول جوزف حرب . والشاعر والروائي "نيكوس كازنتزاكي" هو واحد ممن سمّم نيتشه أفكاره وأثار الفوضى في روحه في مطلع شبابه . وكان من الممكن أن يجعله "قاتلاً أو قتيلاً" . يخاطب كازنتزاكي نيتشه بعد أن التهم "هكذا تكلم زرادشت" بروحه لا بعقله :

(ليس الفن ، بعد ، بل القدرة . اعتبرتَ الإله طاحونة هوائية ، يا دون كيشوت ، ورحت تدكّه . أعلنتَ "مات الله" . وأوصلتنا إلى حافة الهاوية . هناك أمل وحيد . على الإنسان أن يتخطى طبيعته ويخلق السوبرمان ، وسيقع على عاتقه عبء الإدارة الكاملة والتنظيم الشامل للكون (كوسموس) وستكون لديه القدرة على تحمّل هذه المسؤولية .

الله ميّت ، وعرشه خال . وسنتوّج أنفسنا مكانه . هل نظل وحدنا تماماً في العالم ؟ وهل رحل السيّد ؟ يكفي هذا . منذ الآن لن نعمل لأنه يأمرنا بذلك . وليس لأننا نخاف أو نطمح . بل لأننا نحن أنفسنا نريد أن نعمل . إن العود الأزلي خاوٍ من الأمل والسوبرمان هو الأمل الوحيد .

كيف يمكن تحقيق المصالحة بين هاتين النظرتين المتناقضتين للعالم ؟

ألمٌ لا يوصف . منذ ذلك الحين وروحك ترفرف أجنحتها فوق هاوية الجنون ، وظلَّ زرادشت مجرد صرخة . تركتَ تلك القصيدة المأساوية في حالة نصف اكتمال ورحتَ تكافح الآن لتثبت أن جوهر الحياة هو الرغبة في السيطرة .

صرختَ أن أوروبا تنهار . وعليها أن تنصاع لمبدأ الزعماء الصارم . إن الأخلاقية المسيطرة اليوم هي من صنع العبيد . مؤامرة دبرها الضعفاء ضد الأقوياء (...) هؤلاء العبيد لا يستطيعون تحمل الألم . إنهم خيّرون ومسيحيون واشتراكيون . السوبرمان وحده الذي يقسو على نفسه بادىء ذي بدء ، هو القادر على طرح وصايا جديدة وإعطاء الجماهير أهدافاً سامية جديدة ) (62) .

يصف لنا كازنتزاكي حالته النفسية بعد أن اخترقت وصايا زرادشت نيتشه هو الضائع الذي كان يبحث عن مخلّصه منذ سنوات طويلة بالقول :

(لم يسبق ان انطلقت من صدر إنسان صرخة أكثر تمزيقاً للقلب ، ولم يسبق أن عشت حياة قدّيس بهذه الصرامة .. أعتقد أن قلبي (وليس عقلي) قد تغيّر . إلى هذا الحد عانيت آلام هذا الشهيد الملحد العظيم . وبقسوة كبيرة بدأت جراحي القديمة تلتهب . وأنا أتتبع هذه الآثار الدامية إلى درجة أني صرت أشعر بالخجل من حياتي : حياة الجبان المنظمة الرصينة التي لم تجرؤ على تهديم جسورها وراءها لتدخل وحدها تماماً مملكة اليأس والشجاعة الكاملين . ما الذي قام به هذا النبي ؟ وما الذي طلب منّا ان نفعله بالدرجة الأولى ؟ طلب إلينا أن نرفض العزاءات كلها – الآلهة والأوطان والأخلاق والحقائق - . وأن نظل منعزلين دون أصحاب ومرافقين . وأن لا نستخدم إلا قوتنا . وأن نبدأ بصياغة عالم لا يُخجل قلوبنا . أي الطرق أكثرها خطراً ؟ ذلك هو الطريق الذي أريده . أين هي الهاوية ؟ تلك هي التي أتوجه إليها . أي المتع أكثرها شجاعة ؟ إنها تحمّل المسؤولية كاملة ) (63) . – ص 402 و403) (نيكوس؟؟؟؟؟؟؟ظ) .

لقد سمّمتْ أفكار فيلسوف واحد هو نيتشه عقول جيل كامل في أوروبا ، وجعله يتوجه نحو الحرب . وهذه الآن انفعالات كازنتزاكي في اللحظة التي أُعلن فيها بيان الحرب الغربية الثانية (وليس العالمية فقد اقحموا العالم في جحيم أطماعهم) ، وطبيعة مشاعره تجاه نبيّه الملحد نيتشه :

(.. توقّف الناس في الشارع وكأن قلوبهم قد توقفت عن الخفقان . وركض بعضهم بسرعة الى البيوت . كان يبدو عليهم وكانهم يريدون أن يتأكدوا مما إذا كان أطفالهم مازالوا على قيد الحياة .

اقترب ظلٌّ وجلس على المقعد الى جانبي . التفتُّ إليه فارتعش . كان هو . من كان ذلك الذي أعلن أن جوهر الحياة هو التوق إلى التوسّع والسيطرة ، وأن القوة وحدها جديرة بأن تنال الحقوق ؟ من كان ذلك الذي تنبأ بالسوبرمان ، وعند التنبّؤ به جلبه ؟ لقد وصل السوبرمان . وها هو نبيّه المرتعد المنكمش يجاهد أن يختبىء تحت شجرة خريفية .

كانت تلك هي المرة الأولى التي أحسّ فيها بتعاطف مأساوي كهذا معه . لأنها كانت المرة الأولى التي أرى فيها بهذا الوضوح أننا جميعاً مزامير راعٍ غير مرئي ، وأننا نعزف أي نغمة ينفخها فينا ، ولا نعزف النغمة التي نرغب فيها نحن .

حدقتُ إلى العينين الغائرتين والحاجب المقفل والشاربين المتدليين .

همستُ له : "لقد جاء السوبرمان ، أهذا ما كنتَ تريده ؟" . انكمش أكثر مما كان منكمشاً مثل وحش جريح مُطارد يحاول أن يختبيء ، ورنّ صوته من الضفة الأخرى فخورا أو متألماً : "نعم" . كنتُ أستطيع أن أحسّ بقلبه ينشطر إلى نصفين .

أنتَ زرعتَ . انظر ما الذي حُصد . هل يعجبك ذلك ؟

ومرة أخرى جاءت من الضفة الأخرى صرخة يائسة تجرح القلب : نعم !

وحيداً مرة أخرى نهضتُ عن مقعد الحديقة لأرحل . في تلك اللحظة أرعدت قاذفة قنابل فوق المدينة المعتمة . كانت الطائرة - التي تخيّلها ليوناردو دافنشي طائرا صناعياً لطيفاً يحمل الثلج من قمم الجبال الشاهقة في الصيف ليرشّه على المدن من أجل تبريدها – تمرّ فوقنا الآن محملة بالقنابل بالطريقة ذاتها . بدأتُ افكّر – وأنا ما أزال محتفظاً بنبي الحرب المسالم في ذهني - بالطريقة ذاتها تنبثق الأفكار من العقل الإنساني مثل القبّرات فجراً . ولكن ما إن تقع عليها نظرة الإنسان الجشعة حتى تتحوّل إلى عقبان نهمة تأكل اللحوم . ويصرخ رئيسها التعس ويحتج يائساً : "ليس هذا ما كنتُ أريده ، ليس هذا ما كنتُ أريده". ولكن العقبان تمر من فوقه زاعقة وهي تلعنه .

كان الغذاء الذي غذّاني به نيتشه في تلك المرحلة الحاسمة النهمة من شبابي غذاء قويّاً كغذاء الأسود .

وأجدُ نفسي الآن أتقلّصُ من خلال الإنسان المعاصر في الحالة التي أنزل نفسه إليها . ومن خلال المسيح في الحالة التي أنزله إليها الإنسان) (64) .

ويبدو كازنتزاكي مخطئاً إلى حدّ كبير حين يقول أن الإنسان أنزل نفسه من العلو السامي الذي ارتفع إليه عبر مسيرته . الإنسان أصلاً لم يرتفع عن الحضيض الغرائزي والمصلحي الأناني والعدواني الذي كان يخوض فيه . كان الإنسان ومازال يتطلّع إلى القمر في السماء وهو يخوض إلى الركب في وحل الخطيئة على الأرض . وقد يعتقد السيّد القاريء أننا قد ابتعدنا كثيراً بمداخلتنا الطويلة هذه عن المسار الذي قادنا جوزف حرب فيه . وأقول : لا .. وأبداً . هذه الوقفة هي من عطايا نصّ جوزف حرب هذا عن "الحرب" . وعلى الناقد العربي أن لا يُخدع بأطروحات الحداثة وما بعد الحداثة العربية بأن يتحوّل إلى "مبدع" يكتب بلغة متعالية – metalanguage تجعل النص النقدي محايثا بل متفوّقا في إبداعيته على النص الشعري المنقود ، فيحتار القاريء المسكين ، ويصبح بحاجة إلى نص ثالث يشرح له نصّ الناقد .. وسيحتاج هذا بدوره إلى نص رابع .. وهكذا . هكذا تضيع رسالة الناقد كـ "مفسّر" أصيل ومقتدر . لقد وضعنا جوزف حرب في قلب الجحيم الوجودي الذي نتقلب على جمره كل لحظة . وعلينا أن نعترف بأن هذا الجمر يسعّره الساسة السفلة – عليهم لعنة الله – ، والكهنة الفاسدون من "وعاظ السلاطين"  ، وأصحاب المال والسحت الحرام ، والقادة العسكريون الساديون . وكلّهم سيحتاج الله لملقطٍ ليمسكهم به يوم القيامة لكي لا تتسخ يداه كما يقول كازنتزاكي أيضاً . إن إشارة جوزف الخطيرة - والخطيرة جدا - إلى الفلاسفة "التافهين" الذين يسعّرون نار الحرب بنظريّاتهم المشفوعة بدوافعهم الكامنة القاتلة وضمائرهم المثقلة تستحق هذه الوقفة الطويلة . لقد كنّا ننسحب من الكويت مشياً على الأقدام بعد اتفاق رسمي بالإنسحاب ، لكن بوش الكلب وبطانته من الخنازير كانوا يحصدوننا حصداً بطائراتهم . وخصوصا في مجزرة جسر الزبير . لن نترك أي فرصة لا نذكر العالم بها بجرائم الأمريكان الخنازير الكلاب . كنا نسير والرؤوس والأذرع والأرجل تتطاير من حولنا وتصطدم برؤوسنا أحياناً . ثلاثون ألف جندي أبيدو على طريق الإنسحاب .. الكثير منهم كانوا جرحى في عجلات الإسعاف المحرّم ضربها . ثلاثة ألاف جندي عراقي دفنهم الأمريكان الخنازير وهم أحياء وبملابسهم العسكرية . سيأتي اليوم الذي سيُحاسب فيه كل كلب أمريكي مسعور على جريمته . شكراً جوزف حرب . وستصل رسالتك إلى آلاف المتلقين وسترتجف ضمائرهم من هؤلاء الساسة الخنازير .. ومن "الفلاسفة التافهين" . تسألني : ما علاقة مجزرة الإنسحاب بك ؟ أقول لك إن فلاسفة ما بعد الحداثة "التافهين" كما وصفتهم ، لم يكتفوا بتسعير نار الحرب وتبريرها حسب بل طلعوا علينا بفكرة فلسفية عجيبة وكافرة هي "أن حرب الخليج ومجزرة ذبح الجيش العراقي المنسحب لم تقع" . نعم "لم تقع أبداً" .. وإليك ما يقولون وكل ذلك ضمن عملية النقد الأدبي الأصيل :

# فلاسفة "تافهون" يقولون إن مذبحة حرب الخليج ومحرقة ملجأ العامرية لم تقعا :

لقد طرح فلاسفة معسكر ما بعد الحداثة - الأمريكيون خصوصا والغربيون عموماً - كفانا الله شرور فلسفاتهم - نظرية جديدة "عظيمة" على الشعب الأميركي مفادها – مثلا - أن تدمير العراق في عام 1991 ، ومجازر الجنود العراقيين المنسحبين من قبل الطيران الأميركي ، وقتل المدنيين العراقيين (بعض التقديرات تقول 100000 مدني عراقي) ، ومحرقة ملجأ العامرية ، كلّها ، كلّها لم تحصل – في الحقيقة – على أرض الواقع ، بل حصلت في واقع متخيّل هو "الواقع الفوق واقعي" .

قبل الحرب كتب الفيلسوف "جان بودريار" مقالة في جريدة "الغارديان" أعلن فيها بأن هذه الحرب لن تقع أبداً ، فهي مجرد شىء ملفّق أفرزه زيف وسائل الإعلام العامّة وخطاب ألعاب الحرب أو السيناريوهات المتخيّلة التي فاقت كل حدود العالم الواقعي أو الإحتمال الحقيقي (...) وأننا وصلنا إلى مرحلة زمنية من عدم التمييز بين قضايا الحقيقة والزيف، وبأن الفروق الأنطولوجية لم تعد بذات قيمة في مرحلة "التمثيل الزائف" لوسائل الإعلام المهيمنة ، بحيث بتنا مصابين بنسيان أي جدل حول مسائل "كالواقع" أو "الحقيقة" ، وبالتالي نُروَّض للعيش في عالم مابعد حداثوي تتفشّى فيه ألعاب اللغة ، الدّوال التي تفتقد للمدلولات ، والأوهام التي لا يمكن تمييزها كأوهام . في وضع كهذا ، من الواضح أن "حدثا" كحرب الخليج يجب أن يُنظر إليه كفنتازيا أفرزتها وسائل الإعلام العامة ، نتاج تقنيات مختلفة تساهم في خلق وهم الحوار الجماهيري المطّلع ، في الوقت الذي تضع فيه هذا الحوار خارج نطاق تحقيق هذا الأمل . إننا وببساطة ، لا نملك أن نعرف فيما إذا كانت الحرب في الواقع "قد نشبت" .. 

أمّا بعد أن وقعت كارثة الحرب ودمّرت العراق وذبحت مئات الألوف من شعبه ومنهم إخوتنا الذين دفناهم بأيدينا ، وبعد وقت قصير من التوقف الرسمي للمعارك ، فإن بودريار قد أصدر مقالة أخرى (بضم الهمزة) بعنوان "حرب الخليج لم تقع" في صحيفة "ليبراسيون" سلّم فيها – وإن بشكل عابر – أن هذه الحرب "الوهمية" لم تكن بمجملها نتاج آليات وسائل الإعلام التزييفية ، إذ أن عددا كبيرا من المجندين والمدنيين العراقيين قد لاقى حتفه بسبب القصف الجوّي . ولكنه ظل متمترسا حول موقفه الأصلي ، معتبرا الحرب نوعا من الهلوسة الشاملة ، وفعالية "وهمية" مورست في غياب كل الأسس التي تشترط "الحرب" الحقيقية كما عرفناها وعشناها حتى اليوم . إن هذه الحرب هي حرب خرافية أو متوهّمة ، صراع أنظمة متخيّلة أو متنافسة لا يمكن إخضاع خواصها إلى التحليل وفقا للمعايير العقلانية الباحثة عن الحقيقة ، في العالم الحقيقي (..) أن تكون "مع" أو "ضد" الحرب هو شىء أحمق إذا لم يُعط المرء دقيقة تفكير واحدة لمعقولية هذه الحرب ، مصداقيتها ، أسسها الواقعية . إذ أن مجمل التكهنات السياسية والأيديولوجية لا ترقى إلى مستوى معين من الردع الذهني (غباء) . وبسبب إجماع البعض المباشر على الدليل فإنهم يساهمون بتصعيد لا واقعية هذه الحرب ، إنهم يرسّخون الخداع عبر استعدادهم المسبق للخداع (...) . أما الحل الما بعد حداثوي الذي يقترحه الفيلسوف "التافه" بودريارد فهو :

(دعنا نكون أكثر "وهمية" من الأحداث نفسها ، ونأنف من إرساء اية معايير للحقيقة – إذ نحن نفتقر للوسائل للقيام بذلك . لكننا ، على الأقل ، يمكن أن نتجنّب أن نصير مغفّلين ، ولهذا الغرض نحيل كل هذه المعلومات ، والحرب ذاتها ، إلى عنصر الوهم حيث شهدت مولدها أساسا . علينا أن نعيد الردع إلى نحره ذاته . علينا أن نصون بشكل فائق حساسيتنا تجاه الغباء بشتى أشكاله) (65) .      

وهذا هو الدور التخريبي لتيار ما بعد الحداثة الأميركي خصوصا ، والذي تحدثنا عنه كثيرا ، والذي يبدأ من أطروحة تبدو بسيطة جدا ، وتتمثل في فصل الدال عن المدلول ، وصولا إلى مساواة الحقيقة بالخيال ، لننتهي بأطروحة إمبريالية مخيفة تتمثل في أن الحرب بكل دمويتها وأنين ضحاياها ووحشية أميركا فيها "لم تقع أبداً" . وإن وقعت فهي واقعة ضمن "الواقع ما فوق الواقعي" !! .

وليس "بودريار" هذا هو من نصنّفه كفيلسوف "تافه" وفق معايير الشاعر الدقيقة حسب ، بل هناك قائمة طويلة ، لعل من بينهم فوكاياما وهنتنغتون اللذين طلعا علينا بأطروحتين تؤججان كل عداوات التاريخ وتجعلان قتل الشرقي المسلم والصيني الكونفشيوسي عملاً مقدّساً لحسم صراع الحضارات وتحقيق نهاية التاريخ . علماً أنهما وظّفا أطروحة برنار لويس "صراع الحضارات" التي طرحها منذ الخمسينات بعد تأميم قناة السويس حيث اعلن أن ما يجري في الشرق الأوسط هو صراع حضارات وليس مصالح فقط .