محبرة الخليقة (58)

تحليل ديوان "المحبرة" للمبدع الكبير "جوزف حرب"

ملاحظة : حلقات من كتاب للكاتب سوف يصدر عن دار ضفاف (الشارقة/بغداد) قريباً

وما يزكّي هذا المخلّص الجديد الذي التجأ إليه الشاعر ، هو أنه دفع ضريبة باهضة ثمناً لانحيازه للعقل وانتصاره له في وجه التأويلات الغيبية . فقد تمّ تكفير كلّ العلماء وسفكت دماؤهم وصُلبوا عبر التاريخ ، وكان الغيب جلّادهم الأكبر . فالإيمان مع التسليم وضد العقل . كانت مشاعل كل العصور توقد من زيت دم العلماء لتبديد الظلمة التي نشرها الغيب خيمةً على "أبيض" الحياة . ومنذ اللحظات الأولى لاختلاجة العقل العلمي ، سار العلم وحيداً نحو صليبه .. وجعل يصعد .. يصعد .. يصعد ، وهنا تنفلت أول ملاحظة اعتراضية قد تكون غير مقصودة واستباقية ، فقد صعد العلم بلا شعر أو دين ، أو رؤى نفس :

(                 يصعدُ عبرَ الأسئلةِ الكحليّةِ ، والسادرِ ،

  والسريِّ ، ولا شعرَ يرافقهُ ، لا أديانَ ، برغمِ النفسِ

  الملأى بالرؤيا ، وظلالِ الخالقِ .

                  يصعدُ

                  يصعدُ

                  يصعدُ

                  يصعدْ . – ص 1509 ) .

وسوف تلاحظ أنه كلّما كان عمل الشاعر ذهنيّاً ، ومسخّراً لتوصيل فكرة "خارجية" ، جاءت القصيدة قليلة الإنفعال ، وصورها جافّة . أمّا حين تنطلق الفكرة من أعماق النفس الممزقة ، وبعد أن تمرّ في مشغل وجدان الشاعر يتأجج انفعال القصيدة ، ويستعر لهيب صورها .

والشاعر يريد من "الصاعد" ، كما يلقّب العلم الآن ، أن يأخذه إلى نجمٍ آخر كي يحقّق المسافة المحسوبة والمطلوبة للنظر والتأمّل في حال الأرض التي كان عليها . وسوف تلاحظ السمة الترابطيّة بين نصوص الديوان والأقسام في أنّ بداية موضوعة هذه القصيدة : "أبحرْ" ، هي في الواقع تركيز وتوسيع وتعقيد بالتساؤلات الموجعة على رغبة خلاصية أفصح عنها الشاعر في المقطع العشرين – قبل الأخير – من القسم السابق "يا أيتها العتمة" – بعد أن أضناه طول طريق التساؤلات ووحشته ، والخيبة من الحصول على الأجوبة المسكتة . فقد نادى العتمة التي لا تبغي انكشافاً ، وتزداد حلكة مع تصاعد إيقاع اسئلته المدوّخ ، ووعدها بأن يزورها كي يبدأا رحلتهما في الليل معاً ، فقد لمح في البعد القصيّ بيوتاً لا يعرف من عمّرها ولا من يسكنها :

(                  يا

                   أيّتها العتمهْ

                   إنّي أشعرُ بالجوعِ .

                   هناكَ بأبعادِ البعدِ بيوتٌ تلمعُ

  في قريةِ قمحٍ سوداءَ . لنرحلْ هذا الليلَ لبيتٍ منها .

  ما أطيبَ أيتها العتمةُ أنْ نُدعى لرغيفٍ أزرقَ

                                                   في نجمهْ . – ص 1485) .

وقد جاء هذا المقطع ليكون المرحلة التمهيدية الأخيرة التي تتوّج مساراً شعريّاً طويلاً نسبياً للإجابة عن تساؤلاته الشائكة المشتبكة ، والذي بدأه بالإلتجاء إلى حلٍّ عملي هو "الرقص" من خلال تأمّل تمثال "شيفا" الساحر في المقطع السابع عشر ، وأتبعه – في المقطع الثامن عشر - بوصيّة إبداعية "نظريّة" ذات نبرة نرجسية آمرة توضّح طبيعة منهجه : (لا تمزجني بكمالي ، وبخمر جمالي ، وخيالي ، إن أنتَ مزجتَ ، فلن يبقى شيءٌ يُدعى الفن) (ص 1483) ، ثم لمحة "تطبيقية" – في المقطع التاسع عشر - اعترض فيها ، كما بيّنا ، على جنوح "نيوتن" نحو تجاذبات الجماد لاكتشاف القوانين قبل الإنتباه إلى تجاذبات الجسد البشري الحي النابض ، ليصل إلى هذا الحلّ "الشعريّ" - في المقطع العشرين - الذي يقترح فيه على العتمة أن ترحل معه إلى نجمة قصيّة لعلّهم يدعوان فيها لتناول رغيف أزرق ، ليتوّج مشروعه بالتمنّي المستحيل في المقطع الأخير (الحادي والعشرين) بالرحيل الشائق نحو المطلق ، ملّاحاً في الفلك الذهبي الأزرق ، لا يملك إلّا مجذافاً ، وريحاً مرخيّة ، وإنساناً أخضر ، و"زورق" . وها نحن نحتفل في قسم الفلك الذهبي الأزرق ، حيث يحاول الشاعر الإستعانة بالـ "صاعد" ؛ العالِم ، كي يصل إلى النجم البعيد ، حيث قرية القمح السوداء ، والرغيف الأزرق :

(                  يا

                   صاعدُ ، هل تأخذنيْ كي أسكنَ نجماً

       آخرَ ؟

                   قلْ ليْ :

                   هل في النجمِ الأخرِ

                                       عصفورٌ ؟

                                       شجرٌ ؟

                                       نايْ ؟

                                       وغروبٌ للشمسِ

    كجمرةِ بخرةٍ يرفعها للخالقِ هذا البحرُ الناسكُ ،

    والغيمُ بخورٌ

                   يتصاعدُ

                   منها ؟

                           هل في ذاكَ النجمِ امرأةٌ مِنْ

    محبرةٍ ،

                   وأنا الريشةُ ؟ - ص 1510) .

ونعود إلى "ستراتيجية" التساؤلات الضاغطة من جديد ليحاصر بها "الصاعد" قبل شروعهما بمشروع "الصعود" وهي امتداد لتساؤلاته الشائكة والمرهقة في القسم السابق . والتساؤلات الأولى مباشرة وطلبيّة يستفهم فيها الشاعر عن طبيعة مكوّنات الحياة هناك في النجم البعيد : هل يوجد عصفور وشجر وناي ؟ ويمكن للعلم أن يجيب عليها بالإيجاب أو النفي مثل أي عالم صعد على ظهر المريخ مثلاً وشاهد طبيعة الحياة فيه . ولكن يبدأ تشوّش الصاعد / العالِم حتماً عندما يسمع "لغة" لم يعتد على سماعها ، لغة تتلاعب بالكلمات ، وتمنحها استخدامات "لا علميّة" من جانب ، وتنزع عنها وظائفها الواقعية الفعلية من جانب آخر . وهذه هي لغة الشعر . فكيف سيجد العالِم في النجم البعيد غروباً للشمس – ويا لعظمة الصورة يا جوزف حرب !  صورة وحدها تجعلك تؤمن بالله - كجمرة مبخرةٍ يرفعها للخالق هذا البحر الناسك ، والغيم بخور يتصاعد منها ؟ .. وأين – وهذا الأدهى -  سيجد العالِم امرأة من محبرةٍ يكون الشاعر ريشتها ؟ . ثم يأتي التساؤل الكاشف ، عقدة حياة الشاعر والبشر كلّهم ومنهم العالِم ؛ التساؤل الذي ليس له جواب ، المؤرّق الغيب المتكبّر المهيمن القهّار : تساؤل الموت ؛ تساؤل الروح الأخرى والجسد الآخر .. وإمكانية العثور على "عشبة الخلود" التي ضيّعها جدّنا جلجامش ، والتي يفتش عنها العلم مستميتاً بوسائله طوال حياته المديدة :

(                 أمْ سأكونُ سوايَ ، بروحٍ أخرى ؟

  جسدٍ آخرَ ؟ هلْ في نجمٍ آخرَ عمرٌ أبديٌّ ؟ أم موتٌ

  وضريحٌ ، ليسا ما أعرفُ عن هذا الموتِ ، وهذي

  الأضرحةِ المرسومةِ كالنقطةِ في آخر نصّيْ ؟ - ص 1511) .

هذه المداورة كلّها ، ودوّامة التساؤلات ، وصخب الحيرة ، والبحث اللاهب عن الأجوبة المطمئِنة المستحيلة ، والإخراجات الإلتماسية للرغبة في التقرب من "عتمة" الوجود ، هذه المداورة كلّها هي بسبب قلق الموت الذي يكتسح وجود الشاعر . الموت الذي يظهر الخلاف الكبير بين نظرة الشاعر "النازل" ، ونظرة العالِم "الصاعد" ، إليه من الخطوة الأولى .. من النظر إلى أضرحة الموتى كالنقطة في آخر نصّ حياة الشاعر . ففي الخطوة الأولى ينظر الشاعر إلى الموت كـ "مشكلة" في حين ينظر العالِم إليه كـ "إشكالية" . والفارق هائل أيها السادة بين النظرتين ، ويعكس "منهجين" في النظر إلى معضلات الحياة والوجود . فالإشكال هو صفة تُطلق على كلّ شيء يحتوي في داخل ذاته على تناقض ، وعلى تقابل في الإتجاهات ، وعلى تعارض عملي . والمشكلة هي طلب هذه الإشكالية بوصفها شيئاً يُحاول القضاء عليه ، هي الشعور بالألم الذي يُحدثه هذا الطابع الإشكالي ، وبوجوب رفع هذا الطابع وإزالته ؛ هي تتبع هذه الإشكالية كما هي في ذاتها أولاً ، ثم محاولة تفسيرها تفسيراً يصدر عن طبيعة الشيء المُشكل وجوهره . فكأنّ المشكلة تتضمن إذاً شيئين : الشعور بالإشكال ومحاولة تفسير هذا الإشكال . فالحياة مثلاً تتصف بصفة الإشكال بطبيعتها ، لأنها نسيج من الأضداد والمتناقضات ؛ ولكنها ليست مشكلة بالنسبة إلى الرجل الساذج الذي ينساق في تيارها دون شعور منه بما فيها من إشكال ، ودون محاولة – بالتالي – القضاء على هذا الإشكال ، وذلك لأن الشعور بالإشكال يقتضي من صاحبه أن يكون على درجة عليا من التطور الروحي ، وأن يكون ذا فكر ممتاز على اتصال مباشر بالينبوع الأصلي للوجود والحياة ، وأن يكون إلى جانب هذا كله على حظ عظيم من التعمّق الباطن الذي تستحيل معه المعرفة إلى معرفة وحياة معاً ؛ وبقدر هذا الحظ تكون درجة الإدراك . هذا إلى جانب ما يقتضيه الموضوع المُشكل من شروط صادرة عن طبيعته هو الخاصة ، دون غيره من الموضوعات المشكلة الأخرى .

فإذا أردنا الآن أن نطبق هذا على الموت ، وجدنا أنه يتصف بصفة الإشكال . فمن الناحية الوجودية يُلاحظ أولاً أن الموت فعل فيه قضاء على كل فعل ؛ وثانياً أنه نهاية للحياة بمعنى مشترك ؛ فقد تكون هذه النهاية بمعنى انتهاء الإمكانيات وبلوغها حدّ النضج والكمال ، كما يُقال عن ثمرة من الثمار إنها بلغت نهايتها ، وقد تكون هذه النهاية بمعنى وقف الإمكانيات عند حدّ ، وقطعها عند درجة ، مع بقاء كثير من الإمكانيات غير متحقق بعد .

وثالثاً أنه إمكانية معلّقة إذا جاز التعبير ، بمعنى أنه لا بدّ أن يقع في يوم ما . هذا يقينيٌّ لا سبيل مطلقاً إلى الشكّ فيه ، ولكنني من ناحية أخرى في جهل مطبق فيما يتعلق بالزمان الذي سيقع فيه ؛ فها هنا إذن علم مطلق من ناحية ، وجهل مطلق من ناحية أخرى .

ورابعاً أن الموت حادث كليٌّ كلية مطلقة من ناحية ، جزئيٌّ شخصي جزئية مطلفة من ناحية أخرى . فالكل فانون ، ولكن كلّاً منا يموت وحده ، ولا بدّ أن يموت هو نفسه ، ولا يمكن أن يكون واحد آخر بديلاً عنه . وهذا عين مصدر الإشكال من ناحية المعرفة : إذ لا سبيل إلى إدراك الموت مباشرة بوصفه موتي أنا الخاص ، لأنني في هذه الحالة – حالة موتي أنا الخاص – لا أستطيع الإدراك . ومعنى هذا أيضاً أنني لا أستطيع أن أدرك الموت إدراكاً حقيقياً ، لأن إدراكي الموت سينحصر حينئذ في حضوري موت الآخرين ، ومشاهدة الآثار الخارجية التي يحدثها هذا الموت .

وهكذا نرى أن الموت ، سواء من الناحية الوجودية ومن ناحية المعرفة ، كله إشكال . ومن هنا نرى أن الشرط الأول قد تحقق ، ونعني به وجود الإشكال . فمتى يكون الموت مشكلة إذاً ؟ يكون الموت مشكلة حينما يشعر الإنسان شعوراً قوياً واضحاً بهذا الإشكال ، وحينما ينظر إلى الموت كما هو ومن حيث إشكاليته هذه ؛ ويحاول أن ينفذ إلى سرّه العميق ومعناه الدقيق من حيث ذاته المستقلة . وهذا كلّه يقتضي اشياء من الناحية الذاتية ، وأخرى من الناحية الموضوعية (105) ، وأغلبها لا يتوفّر للعالِم "الصاعد" . فالعالِم ينظر إلى الموت كإشكالية ويشتغل عليها في مختبره كذلك ، ويحاول إيجاد حلّ لها ، حل موضوعي لا صلة له بالتداعيات الذاتية العميقة الممتزجة بالألم لأنها تعيق صفاء النظرة العلمية . ونفس الموقف هذا يشخص حين يسائل الشاعر العالِم عن حال الشر الكامن في الإنسان ، وهل ستتوفر إمكانية لمحو "الأسود" فيه في النجم الجديد ؟ (                   يا

                    صاعدُ ، هلْ في نجمٍ آخرَ ممحاةٌ

  للأسودِ بيْ ؟ أمْ أنّي

                    أصعدُ

                    نحو سوادٍ آخرَ لا ممحاةَ لهُ ؟

                    لا تدريْ أنتَ ، وإنّيْ لا أدريْ ،

                لكنْ

                    فاصعدْ

                    بعدَ

                    البعدِ

                    إلى الأبعدْ . – ص 1511) .

فمحنة الخير والشر وصراعهما في ذات الإنسان هي إشكال بالنسبة لعالم النفس وعالم الإجتماع ، برغم أن هذين لا يستطيعان طرح العومل الذاتية جانباً ، وبمجرد أن يصبحا مشكلة فإنهما سيرتبطان بالألم واشتغال الذاكرة الوجدانية والإنفعال وتداعيات الله وإحباطات الطفولة والصلة بالأبوين ودور الشيطان وفعل الرغبة .. وغيرها من العوامل التي تربك الإدرك العلمي الذي يتطلب أعلى قدر من طرح العوامل الذاتية أو التي لا يمكن "حسابها" . كما أنه يضع في الحساب تاثيرات "نص" الخالق .. الذي كما يقول جوزف حرب (نصٌّ لا يتضمن أن العالِمَ كاشف سرّ الكون) (ص 1512) و(إنّما يخشى الله من عباده العلماء) .. و .. هذه مداخلة من "علي عزّت بيجوفتش" :

"إن خلق العالم بالصدفة هو مجرد افتراض وتخمين وليس حقيقة علمية. ومن الاعتراضات المعروفة على هذا الرأي أن تكوين كائن كالإنسان من تلك الذرات بالمصادفة أكثر بعداً من احتمال قرد يخبط على آلة كاتبة فيخرج لنا بالمصادفة قصيدة رائعة . ولكي نصدّق نظرية الخلق بالمصادفة لا بّد أن نؤمن باحتمال أن يلقي إنسان (أو قرد) بالنرد ويحالفه الحظ ويأتي 6/6 ليس مرة واحدة ولا ألف مرة وإنما 44 ألف مرة متتالية.

إن "تشارلز يوجين جاي" ، عالم الطبيعة السويسري ، حاول أن يقوم بحساب احتمالية الخلق بالصدفة لجزيء واحد من البروتين ، فوجد أن خلق مثل هذا الجزء قد يستغرق 34201 بليون سنة تحت ظروف 41015 اهتزازة في الثانية . وتبعاً لذلك، لا يوجد إمكانية لأن تكون الحياة قد نشأت بالصدفة خلال 5 و4 بليون سنة التي يُفترض أنها عمر الأرض  .

وقد أعاد هذا الحساب "مانفريد إيجن" من معهد ماكس بلانك لكيمياء الطبيعة الحيوية في جوتنجن بألمانيا ، فأثبت أن جميع المياه على كوكبنا ليست كافية لكي تنتج بطريق الصدفة جُزيئاً بروتينياً واحداً ، حتى ولو كان الكون كله مليئاً بمواد كيميائية تتحد بعضها مع بعض بصفة دائمة . فإن البلايين العشرة من السنين منذ نشأة الكون لم تكن كافية لإنتاج أي نوع من البروتين .

وقال العالم الروسي "بلاندين" : لو أن مليون معمل على الأرض عملت لبضعة ملايين من السنين في تركيب العناصر الكيميائية ، فإن احتمال خلق حياة في أنبوبة اختبار ستكون شيئاً نادراً . وطبقاً لحساب هولدن ، فإن الفرصة هي 1 إلى 1310 . . هذا هو الأمر بالنسبة إلى التنظيم الذاتي لجُزيء واحد من البروتين الذي إذا قورن بكائن حي فإنه يشبه طوبة (طابوقة) في مواجهة مبنى كامل . إن العلم ، وخصوصاً بيولوجيا الجزيئات قد استطاع أن يضيّق الثغرة الهائلة بين الحياة والمادة الميتة ، ولكن الثغرة الصغيرة بقيت مستحيلة العبور . ولاشك في أن ذلك الإستخفاف بهذه الثغرة يُعدّ خطاْ علمياً . ومع ذلك ، فهذا هو الموقف الرسمي للفلسفة المادية" (106).

ولكن حقّاً كان الكهّان مخالب هذا النصّ ، وصاروا جلّادي العلماء في كل العصور ، يرفعون العالِم فوق صليب الكفر برغم أنه يريد أن يرفع عن أسرار الكون سواد الغيب . إنّه لا يُصلبُ على أيدي الكهّان "إنْ أبحر" كما يقول الشاعر حسب بل يُصلبُ "إن فكّر أن يبحر" . ولكن العالِم أبحر .. ومخر في عباب بحار ومحيطات المعرفة مستكشفاً الأسرار وممزقاً حجب الظواهر ، ولهذا صار الشاعر يجد فيه خلاصه ؛ صار يرى أن عليه أن يقترب من العلماء كثيرا ، ويُبعد الشعراء قليلا ، مثلما من الضروري أن يبتعد النص المقدس عن الكهّان المسلّحين بالفأس السوداء :

(                   يا

                    علماءُ ،

                    - وقليلاً

                     فليبتعدِ لشعراءُ ،

                     وليبتعدِ النصُّ الشجريُّ القدسيُّ عن

                 الكهّانِ وقد رفعوا

                     الفأس السوداء –

                     لن ينقذني إلّا أنتم من هذا الجهلِ

  المُعشبِ في روحيْ . لم آتِ الأرضَ لأغرقَ في

  الجهلِ الأخضرِ . فلتذهبْ يدكمْ في الكونِ عميقاً .

  ولأعلمْ ماذا يوجدُ بعدُ من الأسرارِ بهذي الأرضِ ،

  وماذا يوجدُ خارجها . ولكنْ لستمْ

                        قادةَ روحيْ . – ص 1513) .

روحه المعذّبة الممزقة هذه تبحث عن شيءٍ آخر . صحيح أنّه يحيي جهود العلماء العظيمة ، ويدعوهم إلى إبحار أبعد وأبعد ، وإلى غوص أعمق وأعمق ، لكن دعوته العجول واللحوح هذه لا تخلو من منفعة واختبار . . منفعة لأنها تبغي حلّاً للمشكلة التي أمرضته ولا علاج لها أبداً ، واختبار لأنه في يقينه الباطن يعتقد أنهم لن يستطيعوا قيادة روحه الملتاعة الخائفة . إنّه يبعد الآن كل معضلات الحرب والجوع المالح والدمع المرّ ليسألهم : هل إن إبحارهم البعيد المذهل وغوصهم العميق المدهش هذا سوف ينقذه من موته ؟ أم أنه سيحيا في هذا الكون والموت يلاحق جسده ليعود به إلى عدمه الأول ؟ . وشيئا فشيئا يحوّل الشاعر الموت من إشكال علمي إلى مشكلة وجودية كونية ماورائية :

(                                            هل ينقذني

  ما أنتم تمضون إليهِ هنا ،

                    وهنالكَ ،

                    منْ موتي ؟

                              أمْ أنّ الأرضَ ، وهذا الكونَ ،

  سأحيا بهما ، والموتُ يلاحقُ بي جسدي لأعودَ

  إلى عدميْ الأولِ ؟ أفضلُ ليْ منْ عدميْ تلكَ الجنةُ .

  أمْ لا جنّةَ ايضاً ؟ أمْ أنّ الموتَ الممحوّ ، ولكنْ ، من

  غيرِ سماءٍ ، سترافقهُ في جسديْ ، وأنا أحيا أبديّاً ،

  هذي الحسراتُ المحفورةُ في أعماقيْ ، ورخامةِ أيّاميْ ،

  كنساءٍ ينجبنَ لروحيْ

                              مخنوقاتِ الصوتْ

                              طفلاً يُدعى :

                              أمنيةَ الموتْ . – ص 1514 و1515) .

ولهذا فهو سرعان ما يعتقد بأن الإشكال صار مشكلة ، وعليه (فليقتربِ الشعراءْ ، والبسطاءْ ) (ص 1515) . وبدلاً من أن يوقف سيل التساؤلات الجارف – وكلّها قضايا على العلماء أن يبحثوها – نراه يعود بهم وبنا إلى نقطة البدء ، ليس في هذه القصيدة ، ولا في هذا القسم حسب ، بل في هذه الملحمة كلّها ، تخيّلاً وواقعاً فعلياً . فأعماق الإنسان ممزقة وروحه ينهشها اللصوص والقساة من كل لون ، ووجوده مخنوق بأشباح الأسى والكآبة ، ووحش الفناء يتهدّده كل لحظة ويقرض وجوده . فمتى – أيها العلماء -  يكون الشاعر سعيداً أو أقلّ حسراتٍ ودموع ؟

والأرض .. أيها العلماء ؟ هذه الأرض المسكينة ، التي لم تركض يوماً فرحاً ، كطفلةٍ ، في براري القرية ، ولم يُنصب لها صبحُ أرجوحتها ولو مرة واحدة ، حياتها دمع ودم .. وعويل ودويّ تحطم آمال على صخرة الشر . ثم يختم الشاعر نداءه الحارق للعلماء بطريقته ، وبمنهجه في الفعل والتفكير واستخدام اللغة :

(                       يا

                       علماءُ (...)

                                  من يجعلُ هذي الأرضَ

  غزالاً يتنزّهُ ، ليسَ يلاحقهُ إلّا العشبُ ، وفي راحتهِ

  ماءٌ ؟ والماءُ وفي راحتهِ نومٌ ؟ والنومُ وفي راحتهِ

  حينَ يطلُّ الفجرُ الذهبيُّ

                    الأحمرْ

                    جرسٌ

                    أخضرْ . – ص 1518) .  

والشاعر لا يُربك العالِم بأن يجعل أبواب النصّ مفتوحة على مهمّات عسيرة جداً ، لا يستطيعون حلّها ، أو حتى رسمها واقعياً في مختبراتهم حسب ، بل بـ "اللغة" التي خاطبهم بها أيضاً ، وهي لغة لم يعتادوا عليها ، ولم يتعاملوا بها في حياتهم كما قلنا . كما أنّه يربكنا نحن المتلقين في الوقت نفسه لأنه لم يحسم نتيجة تحوّله ، ولم يرنا ما آل إليه رجاؤه على أيدي العلماء ، بل ترك المهمّة مفتوحة وكأنها "سؤال" أيضاً ؛ سؤال مثل أسئلته الهائلة الأخرى ، يُطرح في "العتمة" :

(                   فكّر

                    يا

                    عالمُ

                    في حسَراتِ الأرضِ ،

                    وأبحرْ – ص 1518) .

لكن الشاعر يعي بحدّة طبيعة مهمّته ، وأنّ عليه – كمهمة حاسمة في الخط الإدراكي الأول من مخطط تصميم ملحمة خليقته – هو أن لا يتركها "مفكّكة" ، وأن يمشي مع قارئه في المسار نفسه ، وليس شرطاً حذو الخطوة للخطوة ، مادام الشعر يكسب بهاه بالإيحاء والتلميح والإشارة . وقد يدخل في ذهن القاريء أنّ القسم التالي : "النصّ القتيل" ، وهو قصيدة طويلة نسبياً أخرى (ص 1521 – 1534) ، لا صلة له بالقسم السابق "احتفالية الفلك" ، لكنه في الواقع استمرار له وتواصل في الشكل والمضمون .. فكونا معنا . 

وسوم: العدد 652