تأمّلات فيصلية ومنابع الفكر

محمد عمر يوسف القراعين

صدر كتاب"تأمّلات فيصليّة" للكاتب الاماراتيّ الشّاب فيصل سعيد السويدي عن دار الجندي للنشر والتوزيع في القدس بداية هذا العام 2016، ويقع في 92 صفحة من الحجم المتوسّط، وهو عبارة عن مجموعة نصوص.

أطاعن خيلا من فوارسها الدهر     وحيدا وما قولي كذا ومعي الصبر

هكذا يقف صاحبنا فيصل مادّا يديه، أمام بحر تحيط به غيوم مدلهمّة، يواجهها بالحِكم والإيمان والصّبر، ليس صبر أيّوب، بل صبر يعقوب الذي يكرر الإشارة إليه، بادئا بلفتة كريمة بإهداء الكتاب للقدس الحبيبة، بتواضع الهدهدة أمام سليمان يوم العرض، عندما قدمت له جرادة هي كل ما تملكه؛ وهكذا لو تكون القدس عزيزة، على كلّ عربيّ من الخليج للمحيط لكنا بخير.

يضمّ الكتاب مائتي فيصلية واثنتين بدلا من أن أسميها آيات، حتى لا تلتبس بآيات سور القرآن الكريم، مع أنه يجريطناسا مع القرآن الكريم والحديث النّبوي عدّة مرات، واعظا مرّات أخرى، كما يبدي إعجابه أو تعجّبه واستنكاره باستعمال كم 19 مرّة مثل كم هي متحدثة تلك العيون! (9)، وكم هي قاسية بعض الإجابات!(11)، فهو حسّاس يهيم بالحسن كما ينبغي، ويلفظ ما يشين. يحب أن يبدأ صباحه بابتسامة حتى من بوّاب العمارة، فهي أغلى من عشاء ملك(25)، والابتسامة عنده من القوى العظمى في الأرض"117"

للتّنويع حتّى لا يملّ القارئ من تأمّلاته، يزاوج الكاتب أحيانا في تعبيراته مع النّحت في بعضها، مثل أعوذ بك من طرقات التّيه ومتاهات الطرق(38)، إبداع القلم على قدر الألم(40)، يزيدني هما وأزيد به هياما(41)، فلا يروقنّ لك إلا كلّ راق(84)، لأنّنا أصحاب رسالة، لا نكتفي بالرّسائل للأصحاب(112)، السّيّارات فارهة والعقول فارغة(192). ومن حيث الطول تتراوح الفيصليات، بين الإيجاز بقصّة قصيرة من كلمتين: مات فاهتموا(147)، متدرّجا إلى بضع كلمات ثم بعض الأسطر، إلى أن يصل إلى قصيدة نثرية من الحِكم، تقول إنّ الليل لبوس الشّاعر الجميل، والأخبار أجراس إنذار، وللقلب ربّ يحميه والكاهن لا يعلم الغيب...إلخ (123)، ويُتبعها بأخرى في نهاية الكتاب: زمن غريب، كلّ شيء آيل للسّقوط حتى الكرامة، وكلّ شيء قابل للنّسيان إلا وجوه الراحلين، الأطفال لا يتعلمون خط الرقعة والرُقعة تزداد تحت خط الفقر(196).

وقد يستشف القارئ أنّه تغلب المرارة على صاحبنا، لولا رجوعه إلى القرآن الكريم، الذي يعتبره محطة انطلاق، لا نقطة توقف(180)، إذ يستخلص العبر في تأمّلاته وخاصّة في طناسه من الآيات الكريمة، فهناك حبل الله الممدود وفرجه الواسع ولطفه الخفي، الذي أنقذ يوسف من ظلمات الجب ويونس من أمعاء الحوت(63)؛ ويعود إلى قصّة يوسف وإخوته الذين جاؤوا على قميصه بدم كذب، فخلص إلى أن الذئب أبرأ عندما نقارنه ببعض البشر(91)، والكلب الذي لازم صاحبه لسنوات، عليه أن يتصدّق بدرس خصوصي في الوفاء على بعض البشر أيضا(175)، كأنه يقول: الكلب أوفى من الإنسان يا عجبي. وهنا يصدر في حكمته من واقع اعتماد الطلاب في دول الخليج على الدّروس الخصوصية، (إذ قال درسا خصوصيا)، كما يعود للتّعبير عن الواقع هناك حول تجديد الإقامة للمغتربين، عندما يقول: تمنيت لو أن للقلوب إدارة للإقامة، تجدد القلوب المُحِبة إقامتها سنويا، وتُفرض على البعض الغرامات، وفي بعض الحالات لا بد من الإبعاد والتسفير(176).

يكره الكاتب المشاعر الباردة(137)، في هذا الزّمن الباهت الألوان(138)، ويؤمن بالحب الصادق حين يقول: تساقط الورق وظلّ الهدهد يناجيني(152)، ويقدم خلاصة تجاربه على لسان الشيخ البحريني الوقور: لكي يزيد حبك في قلب من تحبّ، اسأله عمّن يحبّ(122)، بمعنى وأحبها وتحبني ويحب ناقتها بعيري. الحياة عنده قرطاس وأحبار وأقلام، ومع ذلك فهو يحذر أنّ الثقافة فكر، ولا علاقة لها بالسّيجار الكوبي والنظر من فوق النظارة(69)، قبعة الرسام قد تقول أكثر من رسمه(86)، وليس كل ما يلمع ذهبا(78). وقد لاحظت أن الفيصليات في الكتاب غير مبوّبة حسب موضوعات معينة منفصلة، بل متداخلة تتخلل بعضها بعضا، فيها الإيمان والثقافة والوعظ والإعجاب والاستنكار، فهو يؤمن بالحظ، حيث الاستخارة التي ترتب حياتك وتبدد حيرتك(83)، وبعد ستّين فاصلة يعود إلى فقراء الحظ، المساكين، الذين أحلامهم كسيحة، يولون مدبرين من واقع مرير إلى حلم جميل في المنام لا يكتمل.

وآخر فكرة استوقفتني أنّ البقاء يكون أحيانا مستحبا، ولكن الرّحيل عنده واجب لدواعي الكرامة وغيرها(189). نعم، الرجل تْدِبْ مطرح ما تْحبْ، ولكنّ العاقل يعرف متى يرحل عن قوم ملوه، والأشجع هم شيوخ الأسكيمو، الذين يرحلون عن الحياة بمحض إرادتهم، قبل أن يصيروا عالة على ذويهم.

وسوم: العدد 654