الدفقة الحيوية في الكتابة الشعرية

محمد فريد الرياحي

[email protected]

الإنسان ذو الأبعاد المتعددة هو موضوع القصيدة، والشاعر العبقري هو الذي يرصد هذه الأبعاد في تظاهراتها المختلفة، وانعكاساتها المتنوعة، وتجلياتها الكثيرة، ويصوغها بطريقة تتلبس خلال الفعل الشعري بألوان الحياة المتجددة.

الكتابة الشعرية تتغلغل في المضامين الإنسانية، وتتجسم فيها، ولها، ومعها، في المجال الإبداعي الذي تتفاعل فيه الرؤى والأحلام والصور والمعاني النفسية تفاعلا يمتد طولا وعرضا ليشمل الماضي والحاضر والمستقبل في دفقة واحدة هي دفقة الحياة التي لا تنتهي بانتهاء مرحلة زمنية، وابتداء أخرى، ولكنها تستمر في اندفاعها الخلاق. ومعنى هذا أن هذه الكتابة تستمد قوتها وقدرتها على التلون والتنوع من اللغة الشعرية التي لا تقف بك عند معنى محدد، فتوقف فيك كل نزعة إلى التطلع والتجاوز، ولكنها لغة تصدمك بمضامينها وإيحاءاتها، وتخرجك من واقع الألفة والعادة بفعل الصدمة. إن أخطر ما يهدد حياة الإنسان في كينونته وإنسانيته، تلك الحال من الشعور التي يلبسها وتلبسه، فيحس معها بأنه فقد جوهره،وعدم عنصره الفاعل،وتحول إلى موضوع يتكرر بتكرر البواعث والأسباب. وهذه الحال الشعورية هي التي جردت الحياة من حيويتها وحركيتها، وأفقدتها امتدادها في المكان والزمان، وخارج الوقت والطبيعة. ومن هنا تتضح صورة السلوك الحياتي الذي لا يعرف التنوع والتجدد. إنه سلوك ضاعت منه حقيقة الحياة، وقنع بأن يكرر نفسه في كل حين.ويأتي الشعر ليعطي هذا السلوك وجهته، ويرد عليه وجوده باعتباره إبداعا وخلقا، وتأتي الكتابة الشعرية لتخليص الإنسان ذي البعد الواحد من عبثية الوجود المسطح عن طريق زلزلة كيانه وشعوره بالإشعاعات الخلاقة. إن هذه الكتابة لا تقول شيئا محددا، ولكنها تولد فيك عوالم من الإشراقات النفسية، والتجليات الشعورية، فتحس بأنك كنت قبل هذه الحال الجديدة التي تتقمصك، نسيا منسيا. ألم تجدك هذه الكتابة جامدا هامدا متكررا، فحركتك وصدمتك بأن نبهتك إلى صميم وجودك وحقيقة نفسك؟ ألم يجدك الشعر ضائعا  في متاهات شعورك بالوحدة القاسية فمنحك الدفء، وهداك سبيلك السواء الذي وصلت به إلى ممارسة وجودك؟ إن ممارسة الوجود بكيفية فاعلة وممتلئة هي الحال الحقيقية التي يجد الإنسان خلالها وفيها طبيعته وجوهره. والشاعر إنسان يمارس وجوده ويكشف عن هذه الممارسة في شعره. والقصيدة من هنا حقيقة وجودية تملك ثراء إنسانيا ضخما قادرا على التمدد في كل جهة. لقد قال ألفريد دو ميسي مرة''اطرق باب قلبك فهناك تكمن العبقرية''، ولم يكن يريد بقولته هذه تحويل اتجاه الإنسان إلى الحقائق النفسية وحسب، ولكنه كان يبغي تعميق هذا الاتجاه أيضا، لمواجهة التيار العقلي والمنطقي الجاف الذي أصاب الحياة بمرض البعد عن الذات. كان ديكارت يفكر تفكيرا داخليا، ولهذا وجد نفسه . غير أن الكلاسيين كانوا لا يهتمون إلا بظواهر الأشياء، ولهذا أضاعوا نفوسهم ،ونسوا وجودهم، فكان لا بد، من هنا، من الرجوع  إلى منبع الرؤى، ومستقر الحقائق، أي الذات التي تعطي الشعر جوهره وفاعليته وإنسانيته، في خضم وجودي لا يعرف الثبات. ومن هنا  أيضا كان الشعر خارجا عن التعاريف التي تخضع للعقل والمنطق. ليس الشعر كلاما عاديا موزونا مقفى، وبس ولكنه أيضا كل ما يخالف طبيعة التكرار والسطحية والبعد الواحد في الحياة والوجود. وليست الكتابة الشعرية تراكيب لغوية مفيدة يتصل بعضها بالبعض الآخر تبعا لنظام ونسق معينين، وحسب  ولكنها لغة قادرة على تجاوز الكائن إلى ما هو غير موجود في الاعتقاد العقلي. هل هذه الكتابة وسيلة أم هل هي غاية؟ الكتابة ليست منفصلة عن كينونتها التعبيرية، أي عن وظيفتها التواصلية.  ولكي تكون هذه الوظيفة.  حقيقية وتامة، يعمد الكتبة إلى تحسين الكتابة وتزيينها، بمختلف المحسنات اللفظية. وقد فسر رولا بارت هذه المسألة عندما أكد في كتابه (درجة الصفر في الكتابة) أن الفارق بين النثر والشعر عند الكتاب الكلاسيين يتمثل في هذه الإضافات البلاغية، وعلى هذا تكون المعادلة الشعرية النثرية كالتالي

الشعر=النثر +أبج

النثر=الشعر- أبج

غير  أن الكتابة كثيرا ما تخرج عن الإطار الواضح المرسوم لها والذي يجب أن لا تتجاوزه بحكم أنه الإطار الذي حدد من القيمين على اللغة. ويحدث هذا الخروج في مجال الشعر .

الشعر لا يرضى بأن يدخل في دائرة المعادلات الرياضية فيبقى حبيس التنظير العقلي. وهو لا يقبل اللغة ذات البعد الواحد مطية له، ولكنه يجد ضالته الشعرية في لا معقولية اللغة أي في لا محدوديتها داخل الزمان والمكان. ومن هنا فالكتابة الشعرية بالإضافة إلى أنها تنقل تجربة شعورية فإنها تؤديها بطرائق مختلفة.وهذا الاختلاف في الأداء راجع إلى حركيتها وديناميتها. وكلما كان الأداء متنوعا كان المعنى النفسي الذي تحمله التجربة متجددا. وهكذا تصبح الكتابة الشعرية وسيلة وغاية، والشاعر بين الوسيلة والغاية يجد ذاته. وحينما يجد الشاعر ذاته يحدد معالم التغير والتغيير، لأنه في هذه الحال يعي قدراته، ويرتفع فوق الضرورة التي تملي شروطها على الإنسان في حال الضعف التي تدفع في تيارها الجارف كل شيء.ألم يقل بليز باسكال''لقد جرنا التيار'' إن الشاعر يقف من هذه الحتمية التي تمضي غير مكترثة بما تلفظه في طريقها من ضحايا ،غير عابئة بالإنسان موقفا يعطي الأشياء والحقائق شروط وجودها. ومن هنا تصبح العبثية تصرفا غريبا يتلفه الوعي الحقيقي بالأشياء في الخضم الوجودي، ويصبح الشعر فعالا لأنه يملك في الأصل وجهة يريدها، واتجاها يخطو فيه خطواته المسؤولة. ومن هنا أيضا، تصبح الكتابة الشعرية حقيقة تفرض ذاتها على القارئ باعتبارها كينونة تمتد في كل الاتجاهات لتشمل العالم والإنسان في عناق دائم.

كان القارئ في مرحلة ما يطل من الخارج على القصيدة. يعرف ما بداخلها وما تحمله في ذاتها بطريقة لا يجد فيها اللذة الوجودية الكبرى. كانت القصيد تلعب دور الخبير الذي يعرف كل شيء ، ويريد أن يقول كل شيء. لكن القارئ يريد القصيدة التي تعطيه فلا تمل العطاء. وكلما نطقت قراءته التأملية بهذه العبارة القلقة'' هل من مزيد'' أمدته هي بما يثير فيه نزعة التمكن من الجديد.