محبرة الخليقة (62)

تحليل ديوان "المحبرة" للمبدع الكبير "جوزف حرب"

ملاحظة : حلقات من كتاب للكاتب سوف يصدر عن دار ضفاف (الشارقة/بغداد) قريباً

ريشة في محبرة الريح:

أضفني إلى النصّ وإلّا ستُمحى

-----------------------------

(                    وهلْ

                     زمنُ الخلقِ واحدْ ؟

                     تثلّثَ ، ثمّ توحّدَ حتى غدا البَعدُ

  يصنعُ ما قبلهُ ، وغدا الآنَ قبلَ ، وقبلُ هو الآنَ ؟

  أمْ زمنُ الخلقِ كلٌّ بداخلهِ اثنانِ ليسا سوى هوَ

  فيهِ ؟ أمْ أنّ الذي قدْ قرأتُ نبوةُ ما كانَ وحياً

  فأصبحَ حدساً ؟ وهلْ ما أنا أقرأُ الآنَ حدسٌ به

  ينزلُ الوحيُ في صورةِ الحدسِ ، والحدسُ

  في صورةِ الشعرِ ، والشعرُ في صورةِ الخلقِ ،

  والخلقُ في صورةِ الشيءِ ، والشيءُ في صورةٍ ليسَ

  تبقى إذا لمْ

                     تُنقّحْ

                     لتصبحَ

                     أوضحْ ؟

                     ويصبحَ ما هو أوضحُ أغمضَ

        يسبحُ في سرّهِ كبياضٍ من الملحِ في

        زرقةِ البحرِ

                     يسبحْ

                     ويُحذفُ

                     من

                     كلِّ نصِّ الغمامِ

                                        المجنّحْ )

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

يفتتح الشاعر هذا القسم "ريشة في محبرة الريح" (ص 1619 – 1682) بالتساؤل الذي طال انتظاره في وجدان المتلقي كي يكمل سلسلة التساؤلات الطويلة التي شهدتها رحلة النصوص الطويلة والشاقة السابقة : (تُرى منْ تكون ؟) . فقد سرنا مع الشاعر في رحلة مدوّخة مع نتائج هذا الذي لا نعلم من يكون ، وأرعبتنا دوّامة مصير المكوّن الأصلي لهذه النتائج ، الوحيد حامل العقل الشقيّ الذي يتساءل عن مصير الاشياء في الكون وهو في الحقيقة يتساءل عن مصيره الشخصي بعد أن حاز لعنة العقل ؛ وهو الإنسان ممثلاً هنا بالشاعر ، صوتنا ، الذي صار مؤكدّاً أنه – على الأقل من وجهة نظري كناقد يحلل نصّ ، وهو نصّ واحد في روحه ومبتغاه ومآله – ملحمة أو محبرة الخليقة هذه – قد تعّب كثيراً في سبيل أن يخلق قصّة خليقة خاصة ومتفردة به لكنها جاءت مثل وجودنا المرعوب المهدّد "ريشة في محبرة الريح" . وهذه قد تكون حتمية لأن المخيلة الشعرية مهما حلّقت وجنحت وجمحت ، فلن تستطيع أن تستمدّ موادها الأوليّة لتشكيل عوالمها إلّا من أرض هذا الواقع الذي وضعت أسسه قصّة الخليقة الأصلية وصنّاعها الماهرون عبر الدهور . وبعد أن تساءل الشاعر كثيراً وحدّ التخمة عن كنه هذا الكون ومصيره ، مازال يعلم ، ونحن معه ، أنّ كنه الكون ماضٍ فكّ اسراره على يدِ العالِم الصاعد ، وأن مصير الأشياء ما زال يتأمله بهدوء مزعج الفيلسوف ، ولكن لا أحد يستطيع القترّب وبجسارة من دائرة المصير الشخصي الملتهبة مثل الشاعر ، فأكثرنا يدفن أفكاره عن الموت مثلما يدفن موتاه في التراب . وحتى الشخص المحتضر يرفض سماع كلمة الموت بالرغم من أنه في حضن الموت نفسه ، أو كما يقول "لاروشيفوكو" : "إن ثمة شيئين لا يمكن أن يحدّق فيهما المرء : الشمس والموت" . وهنا تتجلى واحدة من أهم عطايا الشعر خصوصاً ، والفن عموماً ، وهي توفير القدرة على التحديق في عيني الموت . ولا يكتفي جوزف حرب بالتحديق طويلاً وطويلاً جداً في عيني المثكل في مسيرة ملحمته الطويلة هذه حسب ، بل يتجاسر ويسائل من قدّر وأرسل هذا المثكل الشرس ، يسائل ربّه :

(                        تُرى

                         من تكون ؟

                         وهل ما قرأتُ من الشعرِ شعرُكَ ؟

  هل أنت ذو القبلِ ؟ أمْ أنكَ الآنُ ؟ أمْ أنّكَ

  البعدُ ؟ هل أنتَ أنتَ أمِ الآخرونَ ؟ وأنتَ الذي

  خطّ ذا الشعرِ ، أمْ آخرٌ ؟ هلْ أتتكَ القصائدُ

  من زمنٍ سيجيءُ ، وحلّت عليكَ بماضِ الزمانِ ؟

  وهلْ جُمِعَ القبلُ والآنُ والبعدُ في واحدٍ ليسَ

  يقدرُ إلّاهُ أنْ يكتبَ

                          هذي القصائدَ ؟ - ص 1620) .

وفي خطوةٍ أولى قام جوزف بـ "شخصنة" الذي يتساءل عنه بمقتضى صورته الشخصية هو نفسه فقد جعله شاعراً مثله ، واستفهم منه للتأكّد ثانية هل هو كاتب هذا الشعر ؟ وهل جاءته القصائد من المستقبل وحلّت عليه في الماضي . ثمّ حار في تعريف أبعاده مقسوماً على محور الزمان السرمدي وهو يجمع : الماضي والحاضر والمستقبل ، وجمع بين محور الزمان بمحطاته الثلاث ، ومحور القدرة ، وجعله الزمان مشخصّاً في القدرة الإبداعية الشعرية التي تجمّعت في واحد لا يستطيع غيره كتابة القصائد التي لم يحدّد نوعها حتى الآن ولا طبيعتها . ولكنها تجمّعت في ما يعدّه مالك "زمن الخلق" الذي تتفجّر في روح الشاعر التساؤلات عن طبيعته ، وقد تحوّل من "أنتَ" إلى "هو" الذي جعله يلتبس مع "هو" الزمان الذي يجمع القبل والبعد في "موقف" الآن على الطريقة الصوفية التي رآها الشاعر غريبة عنه وتعالى عليها . فالشاعر حتى الآن لا يبغي "الوصول" بل يترك مسافة للتساؤل بينه وبين "هو" المطلق ، فبالوصول تنتفي الحاجة للتساؤل بل تصبح محرّمة . يُختصر الزمان بكل أبعاده : القبل والبعد والآن ، يصيران اثنين في واحد هو الآن . والشاعر محكوم بأن يقف "الآن" بعيداً عن "الهو/الأنت" الذي يتحرّك على محور سرمدي يجمع الأبعاد الثلاثة على متصل يستحيل تحديد موقعه عليه أو فيه ، وهو يتمظهر في تلك القصائد التي اقلقت لبّ الشاعر واستولت عليه ، ولم يستطع تحديد طبيعتها ، وصار يستفهم عنها وفق أبعاد متصل الزمان : القبل (الماضي) وهل "قرأ" فيه وحي النبوّة وقد صار حدْساً ، والحاضر (الآن) وهل "يقرأ" فيه حدس النبوة وقد نزل في صورة الحدْس ذاته ، ليصل الشاعر عبر سلسلة تحوّلات من صورة الحدس إلى صورة الشعر فصورة الخلق ثم صورة الشيء . وهذه السلسلة كأنها سلسلة الخلق الشعري عند الشاعر ، فنحن كبشر نقيس ما هو "موضوعي" خارجي على ما هو "ذاتي" داخلي . وصورة الشيء الأخيرة لن تدوم وتثبت إذا لم تُنقّح لتكتسب ملامحها النهائية . وكأننا نحتوي في "صورنا" على "حدسنا" الغامض الكامن الذي تنزّل به الوحي ، ويصبح ما كان واضحاً أشدّ غموضاً كبياض من الملح يسبح في زرقة البحر ، لكنه لن يكون ماثلاً في بياض النص الأخير / الإستحالة الأخيرة : الغمام . ولا أعلم كيف أصف هذا الموقف المتبتل في حضرة "الخلق" لا الخالق الذي ظلّ بعيداً ، وهذه المداور اللغوية الرمزية العجيبة ؟! هل أصفه بالصوفية المحدثة ؟! :

(                    وهلْ

                     زمنُ الخلقِ واحدْ ؟

                     تثلّثَ ، ثمّ توحّدَ حتى غدا البَعدُ

  يصنعُ ما قبلهُ ، وغدا الآنَ قبلَ ، وقبلُ هو الآنَ ؟

  أمْ زمنُ الخلقِ كلٌّ بداخلهِ اثنانِ ليسا سوى هوَ

  فيهِ ؟ أمْ أنّ الذي قدْ قرأتُ نبوةُ ما كانَ وحياً

  فأصبحَ حدساً ؟ وهلْ ما أنا أقرأُ الآنَ حدسٌ به

  ينزلُ الوحيُ في صورةِ الحدسِ ، والحدسُ

  في صورةِ الشعرِ ، والشعرُ في صورةِ الخلقِ ،

  والخلقُ في صورةِ الشيءِ ، والشيءُ في صورةٍ ليسَ

  تبقى إذا لمْ

                     تُنقّحْ

                     لتصبحَ

                     أوضحْ ؟

                     ويصبحَ ما هو أوضحُ أغمضَ

        يسبحُ في سرّهِ كبياضٍ من الملحِ في

        زرقةِ البحرِ

                     يسبحْ

                     ويُحذفُ

                     من

                     كلِّ نصِّ الغمامِ

                                        المجنّحْ – ص 1620 و1621) .

وعبر سلسلة "الحذف" هذه التي يبتكرها جوزف حرب – وهي عكس السلسلة "الحلولية" الصوفية  – سوف ننتقل بهدوء من وحي النبوّة - وعبر سلسلة من الصور – لنستقر في التراب ، وإلى ما قد كان غامضاً واتضح بعد أن تنقّح . وحيث يمكن أن نمسك بمتصل الزمان بأبعاده الثلاثة وقد تكثّف في روح زهرة أو في قوام شجرة أو خضرة عشبة أو ساق زرع . وقد انتقى الشاعر المفردة المناسبة التي تصوّر نتيجة هذه السلسلة من العمليات الكونية بـ "الموشّح" الذي تتزيّن به المرأة الحسناء (الطبيعة هنا) وتضعه – مرصّعاً باللآليء والجواهر - بين عاتقها وكشحها . وهذا التعبير يشترك مع "الموشح" الشعري الذي يوصف بأنه يقوم عادة على المبالغة في الرقّة والموسيقى والتزويق والعذوبة . وليست مظاهر هذا الموشّح الجميلة الرائعة المتشابكة ، التي يتسلّمها إدراكنا عبر أعيننا ، وحداتٍ مستقلة ومكتفية بذاتها ، إنّما هي "خلاصات" للكون كلّه . ففي الزهرة الواحدة والشجرة السامقة والعشبة المفردة والغصن المتمايل تجتمع كلّ استحالات تلك السلسلة التي بدأت بالوحي وقد صار حدساً فشعراً فخلقاً ... فزهرة أو شجرة أو عشبة أو غصناً . أي أن ما نراه من اكتمال وضوح مكوّنات الموشّح هذه هو في غاية الغموض .. هو في الحقيقة الغموض وقد تفتّح :

(                  ويُحذفُ نصُّ الغمامِ ليصبحَ ماءً

  بريشةِ ريحٍ ، ويُحذفُ نصُّ المياهِ ليصبحَ في أبحديةِ

  هذا الترابِ كلامَ موشّحِ عيدِ الفصولِ الذي وهو

  يُكتبُ – لولا التخففُ منْ كلِّ ملحِ البحارِ ، التنقّحُ

  من كلِّ غيمٍ ، ومن كلّ ماءٍ –

                        لما خُطّ فوق الترابِ ،

                                        وأصبحْ

                                         موشّحْ

                                            تضمّنَ أسرارَ

  كلِّ الذي جاء منهُ ، غموضَ الولاداتِ والخلقِ ،

  حيثُ إشاراتُ ما هو فيهِ خفيٌّ

                             نراها

                                  بما

                             قد تفتّحْ

                     من الزهرِ ، ما قدْ غدا شجراً ،

  عشبةً ، ساقَ زرعٍ ، وما قد تذوّب من كلّ لونٍ

  وما قد تحوّلَ عطراً ، ورقصاً

                           غدا في قوامِ الغصونِ

                                          وروّحْ .

                     موشّح . – ص 1622 و1623) .

وهذا الموشّح / النصّ سوف يُكتب في كل سنة مع انبعاثة كلّ ربيع . ومشكلته التي تثير الإنسان الشاعر وتعجزه هي أنها تتجدّد في كل مرّة ، في حين أن الإنسان كذات ووجود / كنصّ يُكتب وينتهي مرة واحدة ، يقرؤه الزمان ويلقيه خلف ظهره .. كائن هشٌّ محصور في الآن بين لانهائيتي القبل والبعد .. بين الأزل والأبد . وهذا الإحساس الموجع بالهشاشة يستفزّ الدفاعات النرجسية لديه ، فيندفع للإنكار والتاكيد المتحمّس على أنه هو الجديد ، وأن الجدّة كامنة أصيلة في وجوده ، وليست عرضيّة زائلة . كما أنه يعود ليجعل كينونته – مثل الطفل – مركزاً للكون لا يستقي أيّ مكوّن من مكوّنات الأخير معناه ودلالة وجوده إلّا منه ، وإذا كان يعيش في حرب لا هوادة فيها بين الصيرورة والكينونة ، فإنّ هذه المعضلة تشمل "الأنت" أيضاً ، مثلما تشمله هو ، فيصبح هذا التعدد وفرة وامتيازاً بعد أن كان دليلاً مؤكّداً على أنه من ضحايا الزمان الذي يجرفنا بلا هوادة وبلا رحمة كل لحظة ، ليشكّل الفارق الرهيب الذي لا يمكن ردم هوّته السحيقة بيننا وبين الله ، ولنصبح "مطلقاً" على طريقتنا في التذبذب بين لحظة كمون البدء الجنينية في "الملح" – والملح من أعظم مكوّنات قاموس جوزف حرب الشعري لغة ورمزاً - والشوط الذي يتبع مغادرته لكي نتكوّن ، وهو شوط هزيل قياساَ بمن يجمع القبل والبعد والآن في قبضته ، سواءً أكان "أنتَ" ، أو "أنتَ وغيره" ، أو"غيره الذي قد لا يكون سوى غيره" :

(                       موشّحْ

                        سيُكتبُ في كلِّ عامٍ ، ويبدو

  جديداً ، برغم تناسخِ اشكالهِ . والجديدُ بهِ كائنٌ

  فيَّ لا فيهِ . فالياسمينةُ ليستْ سوى الياسمينةُ ،

  لكنْ ، مضافاً إليها أنا . وأنا ليسَ أنتَ ، وأنتَ

  لعلّكَ أنتَ وغيركَ . غيرُكَ قد لا يكونُ سوى

  غيرهِ . وأنا قد لا أكونُ أنا . أنا فيه أنا وسواهُ .

  سِواهُ يُضافُ إليهِ سواهُ . فلا شيءَ إلّا تداخلَ

  حتى غدا كلَّ شيءٍ ولا شيءْ .

                        لا بدَّ

                        مِنْ أنْ نعودَ إلى الملحِ .

  لا بدّ

        منْ أنْ نغادرَ لنكونَ .

                    تُرى

                    من تكونْ ؟ ! – ص 1623 و1624) .  

وسوم: العدد 660