هامش على الصفحة الأولى

من كتاب (قصص وأمثال من المغرب)

محمد فريد الرياحي

[email protected]

إنه لا وجود للمدينة من منظور أفلاطوني، إلا بالعقل، وفي العقل، ومن العقل، وعن العقل، وللعقل. فبالعقل يكون الكائن إنسانا فاعلا بالوعي وواعيا بالفعل،وفي العقل يؤسس هذا الإنسان وجوده المبدع، ويرسي حقائق الوعي ودقائق الفعل، ومن العقل يخلق ما به يمكّن لهذا الإرساء، وذلك التأسيس، في الوجود الحق، وعن العقل تصدر الأحكام التي تقوّم المنآد، وتصلح المعوج،وللعقل يكون الإيجاد ويكون البناء.

.وفي هذا تحقيق للعقل بمظهرين أوفي مظهرين. أولهما مظهر التشريع بما فيه وما له وما حوله من حقائق الحكمة، ودقائق فصل الخطاب. وثانيهما مظهر الوجود الحق، أي  مظهر المدينة التي هي التشكل الفلسفي، أو المثالي للتشريع العقلي. فالعقل، إذن، عقل خالص مفصول عن الواقع، وإن كان يصدر في الأحايين كلها عن هذا الواقع.أليس الحكم على الواقع أي واقع صدورا عن هذا الواقع أي تصورا له؟ ولكن هذا العقل بما هو قدرة قادرة مقتدرة على الإبداع الفكري، يعطي ذاته من ذاته  صفة الحاكمية التي لا ترد ولا تدفع، ولا تصد ولا تمنع، أي صفة الإطلاق في المطلق والمطلق في الإطلاق.فهو إذن موجود في هذه الوجهة وجودا أنطلوجيا، أي بما فيه من الوجود الذي يمكّن له في الوجود.وليس الوجود الموجود  في العقل، إلا هذه القدرة التي من الإلهام أصلها الفعال. وليس الإلهام، ها هنا، بالإلهام الذي يتنزل على الشعراء المطرودين من المدينة، ولكنه الإلهام الذي صلته بعالم المثل ماثلة، وفيه قائمة وعليه مقيمة.فإذا استوى هذا الإلهام حقيقة من الفكر، ومُثّل دقيقة من الرأي، في العقل الخالص اتخذ إلى المدينة سبيله في التشريع   والتأسيس والإر ساء والبناء، فتكون المدينة هي التجلي لهذا العقل، أو عقلا له أي ضبطا في المكان والزمان.

 إن العقل الخالص يضبط الواقع أي يفهمه. ولا فهم إلا بالتحليل والتعليل، بل لا يكون التحليل والتعليل إلا بالقدرة القادرة المقتدرة التي وجودها في العقل الخالص، من جهة الإلهام الموصول أصلا بعالم المثل.

وإن المدينة تضبط التشريع بما فيه من حكمة ومثل، أي بما فيه من ثبات بانضباطها فيه،وبه وله، أي انسلاكها في مسلكه الأمثل ، وتوحده بطريقته المثلى.أليس هذا التشريع من العقل الخالص؟ أليس العقل الخالص بالحكَم الذي تُرضى حكومته التي هي الحكومة بالرأي الذي يتأكد بالإلهام؟ يكون الجواب ببلى في المنظور الأفلاطوني المثالي، ويكون بنعم في الوجهة المخالفة عن هذا المنظور.

إن هذا العقل الخالص في المحل الأرفع من عالم المثل، أو هو في المحل من الرأس، ومنه أي من الرأس تتنزل الحكمة خالصة دافقة لتملي شرعتها على الصدر من جهة، وعلى البطن من الجهة الأخرى. فإن كان الانقياد في الطاعة، وكانت الطاعة في الانقياد، كان الذي ينبغي أن يكون في المنظور الأفلاطوني من تحقيق المدينة المثالية التي يحكمها العقل المثالي، بما هو نموذج في الأذهان ينبغي أن يتحقق في الأعيان كاملا غير منقوص، فإن تحقق كان التوازن في المدينة وكان الاعتدال، وكان النظام والانتظام، فإن عدم العقل المثالي  تحققه في الواقع كان الاضطراب والاحتراب، وكان سوء الحال والمآل. وليس هذا العقل المثالي إلا عقل الشيوخ الذين يملكون المعرفة المثالية النموذجية التي لا يرقى إليها الشك، ولا يعتورها التشكيك، بل هي المعرفة التي ينقلها الخلف عن السلف  في التقديس وبالتقديس، فيكتب لها المشي على رؤوس الحقب بما هي جوهر ثابت لا يقبل التحول، وليس من طبعه أن يتحول وكيف يتحول من كانت طبيعته في الإطلاق راسخة متجذرة، وعن الإضافة معرضة مخالفة؟

إن هذا الوجه الذي قدمناه، وجه من وجهي الفلسفة المثالية الأفلاطونية. والوجه الثاني هو ما لا مجال للحديث عنه، في هذه الهنيئة، وينبغي أن نشيرإلى أن بين الوجهين تنازعا أدى بالفلسفة الأفلاطونية، التي هي فلسفة سقراطية، إلى أن تسقط في هوة من التناقض سحيقة. ولهذا المقال مقام آخر. ونعول في هذه الكلمة  على الوجه الأول لتأكيد الفكرة القائلة إن(وإن هنا على الاعتقاد) الحق ما قاله الشيوخ أو ما كان من الرأس خارجا، ومن العقل منبثقا، وإن الصدق ما كان مثالا، أو مَثلا، أو نموذجا يحمل من المعنى، ما إن عرض على معيار الحق الذي استوى في عقل السلف حقيقة ماثلة، (ولا أقول شاخصة) كان يمثل الطريقة التي لا تضل ولا تشقى، ولا تزيغ ولا تنسى.

وفي هذا بلاغ لمن أراد استقامة بالحق، وإقامة على الحق، وهو شهيد بالعقل وفي العقل الذي يعقل الحال والمآل بما كان من الحقائق واثقا، ومن الدقائق دافقا، ومن الرقائق شائقا ورائقا. ودعك من قول القائل(ذو العقل يشقى.....) فتلك صرخة موتور قيدت بسياقها، وعلقت بمساقها،وليست بالحق الذي لا يدفع، أو الحقيقة التي تجمع وتمنع.قلت إن الحق والصدق، وهما في قرَن واحد، يجريان في حضرة هي حضرة السلف الذي له من علمه الصالح ما قد سلف، فانتفع به، وما زال معناه جاريا في الوجهة التي كانت له بالتجربة والمراس، في المعمعان الحياتي، فلم يحد عنها، ولم يمرق منها، ولكنه ظل عاكفا عليها فاعشوشب زرعه، واغلولب ينعه، رزقا باقيا ماثلا إلى يوم القيامة.

كان هذا العلم علم قوم وعوا فرووا، ونصبوا فكتبوا، فاجتمع لديهم من الرواية والدراية، تراث أقبل عليه الخلـَف وأعرض عنه الخلْف فكان بين الإقبال والإعراض، باقيا ماكثا في الأرض فاستحق الذين أبدعوه، والذين رووه وصنعوه، رحمة أدركوها من بعد أن أدركتهم، فهي باقية ماثلة تغشاهم ما دامت الأرض والسماوات. إن هذه الرحمة، إذ يرفدها الدعاء، ذكر للذين أحسنوا الحسنى وآثارهم التي كالخوالد حقائقها، ودقائقها، ورقائقها. وهل تفنى الخوالد؟ إنها إن لحقها الوهْي، إذن، لواهية، لاغية خاوية ثاوية. فما أبعد النقصان والفناء عنها، هي الثريا وغيرها الثرى ومن يساوي بلألاء الثريا ونعمائها حلكة الثرى ومحله؟ فالوَحى الوَحى إلى ما كان من التراث ماثلا،ومن المثول مثلا،ومن المثل تمثيلا للمثال النموذج الذي في الأذهان قراره، وفي الأعيان سيرورته واشتهاره، فهل لك إلى أن تعض على هذا التراث بالنواجذ، فإن فيه لخيرا، وإنه  له لأثرا، وإن به من ومض الرأي، ونبض الفكر، وفيض الرؤيا، ووهج الدلالة، ولمح الإشارة لعلقا.

إن التراث بما هو حقيقة ماثلة، مثال على القدرة القادرة المقتدرة في

مجال هو مجال الصنعة والإبداع، ومثَل للذين يريدون أن يكون لهم في الثقافة والحضارة شأن كشأن السلف. وياله من شأن يوم تعرف الحقيقة فتدرك، وينكر غيرها فيترك. وإن كل دقيقة من دقائق هذا التراث، وكل رقيقة من رقائقه، مثال ومثل أي نموذج لمن اهتدى واقتدى، من بعد ان ارتقت نفسه في لحظة من لحظات الإعجاب والانبهار، إلى تقديس السلف. وليس المثل بمفهومه المحدود بحدوده، والمقيد بقيوده، والمعروف بما انعقدت عليه الخناصر من الوضع والاصطلاح إلا مثالا بمفهوم النموذجية التي استوت على جوهرها، فدنت منها الأفهام، وتدلت الأقلام تأخذ عنها الحكمة   وفصل الخطاب. ولقد وعى العالم الثبت الثقة الحسين بن علي بن عبد الله هذه الحقيقة فرعاها، وهيأ لها من جهده ووكده ماءها ومرعاها، وجعلها وكده، ومبلغ همه، فكان أن ولى وجهه شطر

 التراث من بعد أن تقلب وجهه في المسطور من الفكر، والموزون من الرأي، واختار من هذا التراث ما فيه من الأمثال الدالة بصفاتها ونعوتها، على عبقرية السلف في الفكر واللغة والثقافة والحضارة، فاستجلى هذه العبقرية وجلاها، وعرفها للقارئ وحلاها، بالذي قد مكن له فيه من القدرة القادرة المقتدرة على الجمع والتجميع والفهم والتحليل، والفقه والتعليل.

إن هذه القدرة، الحق أقول لكم، لتأخذ روائع المعنى وبدائع اللفظ، فتجمع هذه إلى تلك في المنظوم من السبك، والمسبوك من النظم، وإنها لتشقق اللغة تشقيقا ما هو بالشقشقة ولا هو من الحذلقة، وإن القارئ ليقف أمامها مبهورا، وينتصب حيالها مشدوها، وإنه في حال الوقوف وحال الانتصاب شاخص ماثل من وقع الروعة التي أخذت بروعه، معتبر متمثل الأمثال لا على طريقة التغلبي الذي ثلبه جرير، ولكن على طريقة أولي الألباب، وما ينبئك مثل خبير. ودونكم كتاب (قصص وأمثال من المغرب) ففيه الذي ألمحنا إليه من القدرة التي تأيدت بآد من الدراية والرواية فكانت دلالة على صاحبها في السراء والضراء وحين البأس.

تلك آثارنا تدل علينا=فانظروا بعدنا إلى الآثار

دونكم هذا الكتاب فاستمعوا له.

إن الأمثال من التراث، وإن التراث من الورث، الذي يتركه السلف للخلف. وإن السلف والخلف في قرَن من العقل، وعلَق من الوجدان، يتصلان ويتواصلان على الهدي من العهد الذي لا ينفك، والعقد الذي لا ينحل، والأمانة  التي ترعى في سلك مسلوك من الجهد  والفطنة. عهِد السلف إلى الخلف أن كن حافظا العهد، قائما بالحق، مقيما على الصدق، فكان هذا الخلف كالذي أريد له من المشي على الصراط الذي لا يميد من تحت الأرجل ولا يزيغ، ولا

 يتخلف ولا يرتد، ولا يخالف عن ما سطر الأولون من الحق والحقيقة، ولكن يثبت في العقل ويعقل في الثبات، أما الخلْف ففي الخُلْف وجهتهم، وفي الخلاف قبلتهم، وفي المخالفة شرعتهم، وفي ما تهوى أنفسهم طريقتهم ومنهاجهم، ذلك بأنهم قوم لا يفقهون حديثا، ولا يعلمون الذي ينبغي أن يعلم بالضرورة، والبصر والبصيرة، فبما نقضهم الميثاق، وحلهم العقد، ونكثهم العهد، عَموا وصَمّوا وغووا وضلوا. ألم يعلموا بأن السلف هم الأماثل، وبأن طريقتهم هي الطريقة المثلى، وحجتهم هي الحجة الفضلى.؟ ألم يروا إلى آثار السلف فينظروا فيها تبصرا وتدبرا، واعتبارا واتعاظا.؟ ألم يضرب السلف الأمثال لتكون لهم آية وهداية؟ ولكن الخلْف قوم لُدّ لا يُقرون بالفضل لذوي الفضل، ولا يشهدون للمحسن بالإحسان، ولا يصلون ما يجب أن يوصل من البيع. وقديما كان في الناس العقوق. وفي هذا الذي ذكرنا ونذكر كان تضييع الأمانات، وإضاعة الصلات، واتباع الشهوات، والخوض في الذي تشتهي الأنفس من القيل والقال، وكثرة السؤال، من غير وعي للقصد، أو بصر بالغرض، وكان التفريط في التراث الأمثل، وما فيه من مثل وأمثال وأمثل. ولقد تنبه العالم الثبت الثقة الحسين بن علي بن عبد الله إلى هذه المنقصة فرام تجاوزها، بل شاء إماطتها عن طريق البحث والباحثين، إذ هي أذى من الأذى. وله بذلك صدقة يمكث فضلها، ويثبت أجرها، لأنها من قبيل ما ينفع الناس وأين الزبد من هذا الذي ظهر نفعه في البر والبحر فهو يشفع لصاحبه يوم الحاقة؟ قلت فطن الشيخ المصنف إلى هذه الزلة فقال ''رأيت الأجيال المعاصرة من بني قومي على مدى عمر رجل من الناس مثلي قضى الله له أن يبلغ الشيخوخة يزورون ازورارا ويعرضون إعراضا على توالي الأيام وتعاقب الأعوام عن هذه الأشياء التقليدية الفائقة الرائقة والمعارف التراثية البارعة الرائعة واللغات العامية الرشيقة المونقة، وهذه الآداب الشفوية المشاع التي وقرت في الصدور والتحمت بالأذهان وامتزجت بالنفوس حتى لكأنها سيطت بخلايا العقل والدماغ والتي لم تسطر في كتاب إلا في اليسر والنبذ القليل. كنوز ثمان لا يفي بنفاستها مال عاش بها وعليها السلف المرضيون والخلف المتبعون دهر الدهور. وإن مما يضاعف الإساءة ويزيد في الألم أن نراها في هذا الزمن وقد طويت في مدارج النسيان حتى غفل عن ذكرها الغافلون بالكلية'' الخ ما جاء في مقدمة المؤلف

أيها السادة

إنا قرينا الصفحة الأولى من كتاب (قصص وأمثال من المغرب) في ضوء ما سلف ذكره، وتقدم خبره، وفي وهج ما سكت عنه المؤلف فبان، وبان من الرسم والرقم والوسم والوشم أثره الدال عليه، بل إنا قريناها قراءة عمودية كانت كلمة الرحمة هي المبتدأ

 فيها، وكانت كلمة الخلَف هي المختتم وبين الكلمتين تتنزل تباعا  

  كلمة السلف وكلمة قول وكلمة معنى وكلمة كلم( بجمع القول إلى

المعنى) فتتم بذلك الفائدة، ويمثل الكمال الذي يملك الأنفس بما يملكه من القوة والتأيد والمثالية والنموذجية، وكلمة الخلَف الذي ينتهي إليها هذا المعنى الكامل المكتمل الذي استوى على سوقه، يعجب الزراع نباته المكتهل، ويغيظ الخلْف حصادُه المشتعل فتكون له العاقبة هي الكلمة الفصل التي ليست بالهزل في الشهادة الدالة على أن ما كان من السلف نموذجا بذاته وآياته، قد وجد امتداده الوجودي في التأييد والتمكين، والاهتداء والاقتداء، والاقتفاء والاصطفاء، فحاز بالسبق الذي هو من فطرته تفضيلا، واستوجب ممن تنزل عليهم ثناء جميلا. تلك هي الوجهة التي لا راد لها ولا معقب عليها، فمن نهجها فاز ونجا، ومن حاد عنها ضل وغوى، فلم تتنزل عليه الرحمة كما تنزلت على السلف الصالح الذي ضرب الأمثال للناس لعلهم يعقلون وعلى الخلف الذي قدس هذا السلف  فاهتدى بهديه، واقتدى بطريقته، من بعد أن نهى النفس عن الهوى، فكان هذا النهي وذلك الاهتداء والاقتداء من قبيل التقليد، ومن قلد شيخا عالما لقي الله سالما، بل من الرحمة التي أدركت الشيخ أو السلف أو العالم بما تركه من العلم، واللطف الذي أدرك المقتدي والمهتدي أي المقلد بما ارتضاه من الاتباع والاستماع  لما جاءه من القول موزونا معقولا غير ملحون فهو به متعلم عالم، مردد دعاءه في البكرة والعشي ''وارحم من علمنا'' أي ارحم يا ألله من لم يبخل بعلمه عند الذكر والادكار، ولم  تلجمه بلجام من نار، أي أدخله الجنة مع الأبرار، فإن كانت الرحمة وهي كائنة بوجودها المستيقن لدلالة الفعل الماضي عليها وعلى وجودها في المتن قال المصنف''كان السلف رحمهم الله'' إن كانت الرحمة كان الخلود للسلف في الدنيا في حسن الذكر، وكان الخلود لهم في الجنة مع الذين أحسنوا الحسنى. وإن أحسن التخليد أيها السادة ما كان باللفظ الموزون، لا ما كان بالأيقون، وإن جملة ''رحمهم الله'' لتحمل من دلالات الرجاء عند الدعاء ما يؤكد أن المدعو له بالرحمة كان صالحا, ولا يستوي الصالح والفاسد، ولا المكرَم والمجرم فلا مماثلة إذن بينهما.ولهذا كان ذكر الأبرار بالذي هم أهل له من الخير وكان ذكر الفجار بما فيهم أي بما لُعنوا.وفي هذا حقيقة الإنصاف وجوهر العدل. ومن يساوي بأنف الناقة الذنبا؟ وفي هذا أيضا دعوة إلى أن ننزل الناس منازلهم. ومن جعل الناس سوا ليس لحمقه دوا. علم ذلك من علم، وجهله من جهل. قال الشيخ المصنف''كان السلف رحمهم الله يفتتحون المثل بمقدمة يقدمونها بين يديه كأن يقولوا مثلا الله يرحم عليها اللولانيين اللي قالوا ثم يذكرون المثل'' فهل يجوز لنا أيها السادة أن نكتب هذا الكلام بهذه الطريقة ''افتتح السلف رحمهم الله المثل بمقدمة قدموها بين يديه فقالوا مثلا الله يرحم عليها اللولانيين اللي قالوا ثم ذكروا المثل'' وهل يجوز الإبقاء على الطريقة الأولى أي طريقة الشيخ المصنف مع إضافة ''كلمة'' إليه فتكون الصياغة ''كان السلف رحمهم الله يفتتحون المثل بمقدمة يقدمونها بين يديه كأن يقولوا مثلا الله يرحم عليها كلمة قالوها اللولانيين'' (إضافة كلمة إلى الكلام أحدثت تغييرا (في بعض من أسلوبه). إن الكلمة هنا ليست إلا المثل في اتساقه واستوائه وانبنائه في نظم يضم اللفظ إلى المعنى في قرَن واحد لا يتفرق ولا ينفصل. أليست الكلمة هي أصل الوجود؟ أليست هذه الكلمة في سوائها دالة على الرجل؟ أليس الرجل هو الكلمة؟ أليس المثل مصدرا للمعرفة، ورأسا للحكمة، ومبدأ لفصل الخطاب فهو بهذا وذاك فعل للكلمة؟ إن الكلمة تحقيق للفعل الذي يموقف الأشياء، وللموقف الذي يفعل الحقائق فهي  كالقدر المفعول الذي ينزل من عل فيدبر الأمر، ويقدر الشيء بالمعيار المرسوم والمقدار المرقوم. ولا محيص ولا مفيص من تقبلها بالاستماع لها والعمل بها لأنها كلمة حق يراد بها حق، ولأنها علم من العلم، والعلم كما أكد غير واحد من العلماء يؤخذ من أفواه الرجال. قلت هل يجوز أن نكتب كلام الشيخ المصنف ''كان السلف رحمهم الله يفتتحون المثل بمقدمة يقدمونها بين يديه كأن يقول مثلا الله يرحم عليها اللولانيين اللي قالوا ثم يذكرون المثل'' هل يجوز أن نكتب هذا الكلام بهذه الطريقة ''افتتح السلف رحمهم الله المثل بمقدمة قدموها بين يديه فقالوا مثلا الله يرحم عليها اللولانيين اللي قالوا ثم ذكروا المثل''

إننا، أيها السادة إذ ننظر في الكلامين، نجد أن ما قاله الشيخ المصنف أبلغ في العبارة والإشارة من القول الذي قدرناه. ففي الكلام الأول سيرورة وتكرار واستمرار وديمومة للفعل، بما يملك هذا الفعل من القدرة القادرة على الثبات في الزمان الذي مضى أي سيرورة هذا الزمان الذي كان. والكلام الثاني ربط للفعل بزمان واحد بل بلحظة واحدة من هذا الزمان. يدلكم على ذلك استعمال ''كان'' التي تدل في ذاتها على الزمان الماضي مجردا من الفعل مع الفعل المضارع الذي يدل على الحال والاستقبال. وفي هذا الجمع بين السيرورة والماضوية دليل على أن الفعل، وهو ''يفتتحون'' في المتن، استمر في الزمن الماضي في الدوام ودام في الاستمرار فكان، إذن، ماثلا قائما ثابتا بما هو مثل متأصل ونموذج أصيل ليس بالإمكان الخروج عنه. إن الفعل الماضي ''افتتح'' في الكلام الذي قلناه  رهين لحظة زمانية واحدة ذهبت بذهاب دواعيها وأسبابها المقيمة فيها، وإن الفعل المضارع ''يفتتحون' لائط بكان التي نقلته من السيرورة في الحال والاستقبال إلى السيرورة في الماضي فهو إذن ماض حي لم يفت. وفي هذا تأكيد لقيمة الماضي الحدثية والفعلية، فهو الذي يبقى في الشعور واللاشعور وهو الذي يدوم في وعي الإنسان وعقله، ويستمر في قلبه وعصبه، بل هو الذي يستغرق هذا الإنسان بأجمعه. أما الحال فمولّ وجهته نحو الماضي وكذلك الاستقبال الذي ما زال غيبا. ومن ثمة فلا مجال لسيادة اليوم أي الحال''واليوم لي'' أي لا مجال لمفهوم الهيدونيسم في الساعة التي أنت فيها. والسيادة كلها للحدث الماضي الذي هو لك وأنت له باعتبار وجوده فيك ووجودك فيه. فهو دائم في الكيان لا يتركه ولا يبرحه ولا يهجره، وبهذا يتبين أن دوام الحال ليس من المحال. أليست الحال دائمة في الماضي، قائمة في ذاكرته، ماثلة في مخيلته؟ ألست قائما في هذه الحال مقيما عليها معتصما بها ساكنا إليها؟ إنه، أيها السادة، إن كان ذلك كذلك، كان ماكان من تمثيل الماضي للحال التي كانت أي وجدت، وكانت مثالا ونموذجا لا معدى عنهما في الماضي الذي دام وله الدوام والخلود في السيرورة والصيرورة الزمانيتين باعتباره الجوهر الفرد أي الجوهر المطلق. ويستقيم هذا الفهم في الحالين في حال كون كان فعلا ماضيا ناقصا وفي حال كونها تامة. فبما هي تامة تكون القراءة للمتن هكذا ''وجد السلف رحمهم الله يفتتحون المثل بمقدمة،،،،الخ'' وما دام الأمر كالذي يذكره المتن فلا مناص من الإبقاء على هذه الحال التي هي حال الوجود النموذج. ولا معدى للخلف عن أن يقول ''أولائك آبائي فجئني بمثلهم'' وإنا على آثارهم مهتدون, وليس يخفى أن طلب هذا المثل من قبيل الإعجاز والتعجيز. وإذن ف''ليس في الإبداع أبدع مما كان'' فانهجن سبيل الأولين أو الأوائل أو اللولانيين أواللوالى. فإن هذا السبيل قد فتح وافتتح بالفتح الذي أعيى وصفه النظم والنثرا أي الفتح الذي هو فتح الفتوح فلا فتح قبله، ولا فتح بعده ''طوي الكتاب وجفت الأقلام''. فليخلد الخلف في هذا الفتح فلا فتح بعد الآن. وفي هذا بلاغ للخلف أن اسلك على هدي السلف الذي ملك الحق  فهو له ، وعرف الحقيقة فهو بها، فأصبح بذلك مصدرا للحكمة أي الرأس، والرئيس الذي له الرئاسة في العلم لا يشاركه فيها، ولا ينازعه عليها أحد من العالمين. فاعتبروا يا أولي الأبصار. وفي ذكر السلف ذكر للسالف (الرأس) وما دام ذلك كذلك فإن الرأس مستقر العقل وإن العقل مستودع العلم والمعرفة، وإن السلف بهذا هو الأصل الأصيل المتأصل. وفي الفرنساوية مثل         فتأملواchef هذا المعنى فإن الرأس فيها موسومة بسمة   

 بهذا الفهم، أيها السادة، يتأكد الذي أكدناه من قبل وتضمينه في أن الرأس أي العقل عند أفلاطون هو منبع الإشراق، منه تخرج المعرفة في لألائها وآلائها فالبِدار البِدار إليها، ومنها تتنزل الحقيقة في إشراقها وإغراقها، فليس للإنسان إلا أن يتلقاها فيعمل بها، فإن لم يفعل ذهبت ريحه وكان أمره فرطا. وفي هذا الفهم كانت قراءتنا للمتن قراءة عمودية رأسها السلف رحمه الله، ووسطها المعنى أي المعرفة، وأسفلها الخلف أو الأواخر أو التوالى الذين لا يملكون إلا التلقي والانسياق والانقياد في حال من التشوف والتطلع إلى الأعلى أي إلى النموذج قال ''كان السلف رحمهم الله يفتتحون المثل بمقدمة يقدمونها بين يديه كأن يقولوا مثلا الله يرحم عليها اللولانيين اللي قالوا.

ثم يذكرون المثل أو يقولون

الله يرحم اللولين أو اللولانيين حتى متلة ما جابوها كدوب أو يقولون

ما خلاو اللولين للتاليين ما يقولوا

وظاهر أن اللولين هنا بمعنى الأولين والأوائل أو يقولون

اللاوالى ما خلوا للتوالى ما يقولوا

وهذا كالقول القديم عند العرب

لم تدع الأوائل كلمة لقائل انتهى كلام المؤلف

وذر ما ورد في الصفحة الأولى من معادل موضوعي أمازيغي للأمثال العربية العامية لأني لا أعرف من أين تؤكل كتفها وعسى الجهل الذي أمسيت فيه بالأمازيغية يكون وراءه علم قريب. افتتح المصنف كتابه بما كان يفتتح به السلف رحمهم الله وهم يلقون أمثالهم لتكون عبرة وعظة للآخرين. وفي هذا الافتتاح فتح للمغلق، وحل لعقدة اللسان، ورجاء في أن يفقه الخلف القول فيتبع أحسنه. فهو إذن مفتح من مفاتح العلم، أو مفتاح لباب العلم، وليس بعد الفتح إلا الخير.وفي هذا الذي نذكره يتسق الدعاء المعروف ''فاتحة للوالدين والأشياخ المحبسين....والله يفتح عليك ويستوي التقرير المعلوم فْتَحْ الله عليه. وإذ يتم الفتح سلوكا ومسلكا أي قراءة وفهما وعلما وعملا يكون الختم أو يكون مسك الختام أو ختام المسك أي ختم ''السلكة'' أو الحلقة أي إغلاقها بمغلاق الثبات والتثبت فيصبح السالك أو المتلقي أو القارئ أو الطالب أو الحافظ أو المتمثل أو المريد ثقة ثبتا أي يصبح كالسلف في الدراية والرواية فلا حاجة له بعد هذا وذاك إلى أن يستزيد أو يزيد. وإذا كان هذا الختم بمعنى الحفظ والفهم وأن يُنْبَت السالك نباتا حسنا فإنه يختم بالفتح أو الفاتحة أي الدعاء لهذا السالك بأن يَثْبت على المحجة بالقول الثابت والعمل الصالح وأن لا يخرج عن الدائرة المختومة التي هو فيها. فإن ارتد عنها انقلب إلى سوء الخاتمة والعياذ بالله، وكان من الأخسرين أعمالا. إن الفتح، إذن، والفاتحة والافتتاح من معاني الخروج من الضيق والضائقة، والانسلاك في مسلك من فتح بصرُه، وفتحت بصيرتُه، فكان جزاؤه أن فتح الله عليه بركات من السماء والأرض. ولقد أنعم الله على المصنف ففتح له في القصص والأمثال ووفقه إلى أن يدركها بالعقل والذوق، ويجمعها بالعلم والدراية ويحللها بالذكاء والفطنة فهو إذن من الخلَف الذين لا يقطعون الوصل، ونعمت كلمة هو قائلها في المفتتح والمختتم. وليس يخفى أن أصل هذا المسلك القولي والفعلي من الاهتداء بهدي السلف الذين تركوا من التراث ما به كانت القدرة على إيجاد نموذج حياتي يبهر الورى  بنوره وضيائه، بل إن أصل هذا الاهتداء من الرحمة التي شملت السلف في الحياة الدنيا فلم يحملوا ظلما ، وأحاطت بهم بعد الممات  فلم يخيبوا. وفي هذا كانت الرحمة هي المفتاح الأول في القراءة العمودية التي اخترناها لتحليل الصفحة الأولى  من كتاب( قصص وأمثال من المغرب) فلولا هذه الرحمة وهي قريبة من السلف والخلف لكان الضلال والضياع والتضييع ، وكانت الفتنة والخيبة والنكسة واللعنة. قال المصنف ''كان السلف رحمهم الله يفتتحون المثل بمقدمة يقدمونها بين يديه,,,''وكان هؤلاء السلف يستمدون سلفيتهم إما من السبق الزماني والسبق المعرفي وإما من السبق الزماني وبس. وظاهر أن أصل سلفية السلف المذكور في المتن من التقدم في الزمان. وبهذا يتبين أن السلف الأول هو صاحب الأمثال وصانعها ومبدعها وقائلها وأن  السلف الثاني هو الداعي إليها والمقيم عليها أو هو الخلَف  الذي حُمِّل  الأمانة فحملها ولم يضيعها، فكان أن روى المثل من بعد مقدمة قدمها بين يديه ( أي بمقدمة تمثُل أي تنتصب بين يدي المثل) وفي ذكر المقدمة، وقدَّمها، إشارة  إلى القدم الزماني والقدم المعرفي وتلميح إلى التقديم الذي قدمه السلف الثاني أو الخلَف الصالح لحياته. أما المثل النموذج فهو العظة والعبرة التي بها يقع العبور من سلوك إضافي إلى سلوك مطلق أي من حال غير مرغوب فيها إلى حال أخراة هي حال النموذج المسلوك في سلك المثالية. ومن لم يتعظ بالعبرة، جهل الحق وضل السبيل السواء من جهله. فكانت العَبرة يوم لا تنفع العِبرة. وفي هذا يكون الذي هو كائن من الوصل والصلة والاتصال والتواصل بين النموذج المثل الذي  يردده ويلقيه من بعد أن استمع له وبين الذي يصغي إليه ويتدبره لينشره من بعد أن وعاه. ويكون حضور المثل في المكان والزمان وفي الوعي والوجدان قائما منتصبا ماثلا ممثلا. أليس الحضور الحركي الفاعل المبدع من معاني مادة الميم والثاء واللام قال بشار

ياليتني كنت تفاحا مفلّجة=أو كنت من قصب الريحان ريحانا

حتى  إذا وجدت ريحي فأعجبها=ونحن في خلوة  مثلت إنسانا

فتأمل

ثم قال ''كأن يقولوا مثلا

الله يرحم اللولانيين اللي قالوا

الله يرحم اللولين

ما خلوا اللولين للتاليين ما يقولوا

وظاهر أن اللولين هنا بمعنى الأولين والأوائل

أو يقول اللوالى ما خلوا للتوالى ما يقولوا

وهذا  كالقول القديم عند العرب

لم تدع الأوائل كلمة لقائل''

إن المقدمة التي كان يقوم بها السلف الثاني أو الخلف الصالح بين يدي المثل مقدمة واحدة في المعنى الذي تحمله متنوعة في الأشكال التي تتلبس بها حين الظهور وحين الخروج على المستمع في لحظة من لحظات الوصل والاتصال والتواصل داخل الحلقة المعرفية التي منها يخرج العلم وفيها يعود. وظاهر أن التعدد في الإبانة عن المعنى الواحد والتنوع في تحقيقه وتأكيده من الرغبة في الإحاطة بهذا المعنى إحاطة تقربه من الأذهان والأفهام فيصبح عندها ولديها ماثلا قائما منتصبا لا يُرد ولا يدفع. وليس هذا المعنى إلا ما تجذر في الوعي وانغرس في اللاوعي من أن السلف أو الأقدمين أو الأوائل أو اللولانيين او اللولين أو اللوالى هم أصحاب المثل أي أصحاب المعنى والمعرفة والعلم والحكمة وفصل الخطاب. وليس يدانيهم في ذلك بعدهم إنس ولا جان. وليس يصل إلى منزلتهم أحد من الخلف ولا يخالف عنهم إلا من كان آثما قلبه. أفبعد هذا الذي جاء من الحق بينا جليا ظاهرا نكفر الآيات والعظات ونضرب عن الأمثال صفحا، ونطوي عنها كشحا، وكيف نكفر بالسلف آياته وعظاته وحقائقه ودقائقه وقد كان النموذج الأمثل الذي لا يُشاكل؟. وهو ما زال وسيظل في البحبوحة من سنائه،وجماله، وبهائه وجلاله، إليه تشد الرحال في الحال والمآل ، فما للذين جاءوا بعده إذا دعوا إلى اتباعه والاقتداء بهديه وآثاره اثّاقلوا إلى الارض أو جعلوا أصابعهم في آذانهم حذر أن تاتينهم بينة من المعنى أو حجة من المثل تكون لهم في حال الإنصات والوعي وعليهم في حال اللجاجة والعتو والنفور. إن الحقيقة التي استوت وتأيدت  بأيد ، ومؤداها الإعجاب بالسلف والتقديس لهم ينبغي بل يجب أن يصل إلى حد العبادة بل هو هي أو هو إياها، حقيقة أصلها من اليقين بأن ما كان من العلم والإبداع إنما كان من الماضي وجودُه، فيه رسمت معالمه وحدوده، ووثقت حباله وقيوده، فمن أراد معرفة أو أراد نصحا فليتخذ إليها سبيلا من الاستماع والانصياع والانقياد.وعند أدبنا العربي الخبر اليقين، فسيروا في هذا الأدب  فانظروا كيف صور عنترة بن شداد هذه الحقيقة. أليس هو الذي قال في لحظة من لحظات الانبهار بما قاله الأوائل في المعاني التي حُصرت فجُمعت فكانت شاهدة لهم ولم تكن شاهدة عليهم.؟ أليس هو الذي قال

هل غادر الشعراء من متردم؟ وانظروا إلى زهير. أليس هو القائل ما نرانا نقول إلا معادا؟ بلى ورب الكعبة وفي الأدب الفرنسي مثل

  مثلا ) . la bruyereهذا الذي ذكرناه (ينظر

إن هذا الذي قيل ينبغي بل يجب أن يؤخذ مأخذ الجد حين الجد. فهو الكلام المقصود في ذاته ولذاته وبذاته بل هو الكلام الذي لا يقول إلا حقا ولا يلفظ إلا صدقا. بذلك حدثنا الأوائل'' حتى متلة ما جابوها كدوب'' فليستمع الأواخر استماعا يمكنهم من الذي تركه الأسلاف من العلم والعرفان. فإن فعلوا مُكّن لهم فيه بالا قتداء والاقتفاء والتقليد. ولقد كانت التربية من هذا المنظور وفي هذه الوجهة استعادة للموروث وإعادة للنموذج وتكرارا للمثل إذ لا يجوزللخلف، بحال، أن يغير أو يبدل من بعد ما جاءه العلم. وفي هذا تنشئة للصغار بالكيفية التي درج عليها الكبار. فيكون الذي هو كائن من المحافظة على التراث، وصيانة الميراث، بالحفظ المكين والحصن الركين، ودرء الغمة عن الأمة بالقائل والمقول،والمعنى المعقول.

ثم قال ''من اعِضَر كيقول في المعنى أو يقولون وعْلى بْحالْ هذي كيقولوا الناس في المعنى'' انتهى. إن هذا المعنى الذي ركب في صياغة تليق به، وعبارة تصلح له،وإشارة تتساوق معه، هو المعنى  الذي عُني فلم يترجرج ولم يتلجلج ولم يتخلف ولم يتردد ولم يتبلد ولم يتبدد. ولكنه بما وعى من التجربة  والمراس وعقل من الوجدان والإحساس وضبط من العقل والنقل كان هو المعنى الذي لا معنى قبله ولا معنى بعده. أليس المعنى عند أهل المعنى ما كان مقصودا في التجربة والمكابدة بالعقل والوعي. فإن فارق العقلَ فارقه الوزن والاتزان، وأصبح لغوا من اللغو أو هذرا من الهذر، فهو إلى هذاء المجنون أقرب ، وبهمهمة النائم أشبه؟ .وبهذا أيها السادة يكون المثل الذي يضرب للناس تذكرة وتبصرة، كلاما أي قولا مفيد بالقصد والنية والإصرار. وحَسُن الإصرار إذا كان للباقيات مقيما، وعلى الصالحات حريصا، وبالقسطاس قائما، بل كلاما يحسن السكوت عليه من السلف والخلف معا فلا مراء ولا خلاج، ولكن توهج وتبلج في العقل الذي يضبط ويعقل وفي التجربة التي هي الباعثة على القول حين التمثل والامتثال والمماثلة. فيكون المثل صادرا عن مثال ماثل مماثل لحال وجدت في التجربة (بحال هدي) ممثّلا في لحظة استحضار هذه التجربة ممتثَلا أمرُه من الخلف الصالح أو السلف الثاني. وليست هذه التجربة إلا ما أكدته هذه المقدمة (من اعضر كيقولوا في المعنى) أي يقولون في المعنى بعذر أو من عذر يعتمدونه ويعولون عليه، أي من حجة هي لهم، ومكابدة كابدوها، ومراس تسربلوه. فاتبع ما جاءك من العلم بالعقل، ولا تتبع الشهوى، إنك إن فعلت إذن  لمن الظالمين.

''اللول عليه تعول''، هذه قولة وجودها، أيها السادة، من ناحية الفهم والتحليل في قولة ''فلت الطير وجرا مُراه'' من جهة وفي قولة ''لا تبدل حاضر بغايب'' من الجهة الأخرى. وقوام الثلات القولات في وجوب الإفادة من الفرصة لأنها إن فاتت انقلبت إلى غصة. إن هذا التضمين ليستقيم مع وجوب الأخذ بما أخذ به الأولون في المسلك والرؤية والرؤيا، فإن في هذا الأخذ صلاحا لما هو كائن ولما سيكون وإنه ليتساوق أيضا مع نموذجيته وأفضليته ومثاليته في ذاته وبذاته ولذاته. فليس يساويه شيء وليس يدانيه شيء فهو الحق بما ملك من الحق، وبما اعتمده من الحق، وبما دعا إليه من الحق. وهو الحاضر في الغياب والغائب في الحضور بالمعنى الذي يتأكد في أن هذا الحق جوهر يُدرك بآثاره الدالة عليه، ويُعرف برسومه ونعوته المشيرة إليه. فهو إذن حاضر بها ، مشهود فيها، فكيف نَذَر ما هو موجود من الآثار والدلائل والحقائق والبدائل، ونبحث عما لا وجود له أصلا وفصلا.؟ إن التراث، أيها السادة،  هو الحاضر الغائب الذي يملك من السلطان على الأذهان والأعيان ما يمكنه من الوجود والإخلاد إلى الخلود، وإنه من صنع القدامى الذين عرفوا الحقائق فاستيقنوها، وتوحدوا بالدقائق فاستبطنوها، فكانوا بذلك  مثلا للوارثين ماثلا، ونموذجا للسالكين حاصلا، وحَكَما  بالقسطاس عادلا. كانوا مثلا تشرق منه الأمثال، فتنقلها الأجيال إلى الأجيال في سلسلة متضامة الحلقات، موصولة الصلات، فهل في هذا يختلف اثنان، أو ينتطح فحلان؟

أيها السادة ضرب مثل فاستمعوا له.