(برج اللَقْلَق)... ملحمة فلسطينيّة

clip_image002_39759.jpg

عرفتُ طريقي إلى تلك القلعة، واحتسبتُ خطواتي بتأنٍّ والقلوب خفّاقة، تصاحبها مشاعر جيّاشة. حملتُ الكلمات بين أيادٍ مُرتجفة، والعبارات سبقتْ زماني وأصبحتْ حكاية، وجلستُ في أفياء شجرة البطمة تراقبني أرواح مَن عاشوا هنا في السّنوات الخالية. عنهم كتبتْ الأديبة المقدسيّة "ديمة السّمان" في روايتها الجديدة "برج اللَقْلَق" الصّادرة عن مكتبة كل شيء في حيفا للعام 2016 والتي تقع في 464 صفحة من الحجم المتوسّط. تلك الأرواح حاضرة وونيسة لمن ساروا على درب أهل المدينة المقدّسة وبلدتها القديمة، ولا تزال الرّوايات متوارثة، وأحاديث كبارنا لا تخلو من الحقيقة الممزوجة بالخرافة، والمُطعّمة برائحة البخّور المُعتّقة، والصّلوات والابتهالات الحثيثة حتى لا تصيب أهل بيوتهم اللعنة؛ باب حُطّة، الواد، حارة السّعديّة، باب الخليل، باب العامود وعقبة الخالديّة، وما يُضحك السّن أنّهم أناس يستمتعون بترويج الإشاعة.

الفكرة جدًا جميلة ورائعة، ووفاء الوطن حرّك إحساس الكاتبة، فقصص الماضي هي جزء من التّاريخ والتّراث والأيّام المجيدة. أمّا إستحضار ما إندثر منها والبحث عن الأصالة، فهو واجب على كلّ مَن يتمتّع ضميره بالصّحوة الوطنيّة والقوميّة العريقة. الأديبة "السّمان" إستقتْ الأحداث برويّة، ونبشتْ أوراق التّاريخ المكتوبة والمرويّة، ووقفتْ من على برجها اللقلقيّ لتُعيد عقارب الزّمن ما ينيف عن المائة سنة. تمنّتْ لو مدّتْ لعائلة "عبد الجبار" يد المساعدة، تسدّ جوعهم وتروي ظمأهم أيام المجاعة، أو تحميهم من طغيان وإستبداد الدّولة العثمانيّة المريضة، ومكر الاستعمار البريطانيّ وانتدابه على فلسطين المُحتلّة، وكذلك تحميهم من أخطبوط الحركات الصّهيونيّة. كما أنّها لو تستطيع إرضاء خاطر الجدّة "نفيسة" من هيمنة الرّجال وتسلّطهم وعصاهم الغليظة، فلا شيء في عينيها سوى الدّموع، وفي قلبها غصّة. إنَّ "باب السّاهرة" أشبه بحكاية "باب الحارة"، ففي اعتقادهم تجوب الجان والعفاريت، وينتشر قطّاع الطرق ليلاً في شوارع المدينة، أو امكانيّة هجوم بربريّ يسلب منهم آخر درهم ولقمة معيشة.

الأديبة الكاتبة، وبلغة جميلة وجذّابة، امتلكتْ مشاعرنا، وعشنا وقلمها تفاصيل الحكاية المقدسيّة. إستطاعتْ أن تغزو صميم العاطفة، ونتعلّق بنتائج تكون لأرواحنا مُرضية، وشغف الشّوق طال منذ البداية وحتّى النّهاية. إنّها مجموعة من قصص مثيرة أهلها يجعلون من الحبّة قبّة، وهذه حقيقة واقعيّة! إنَّ وتيرة الحركة والأحداث أبدًا لم تكن ثابتة أو مستقرّة، بل تعلو وتهبط كما لو أنَّ القلب مُثبّتْ على جهاز المراقبة. انتقتْ الأديبة لنفسها المعاني والكلمات المناسبة ذات الألحان الدّراميّة، فالرّواية إجتماعيّة وسياسيّة وكذلك إنسانيّة. لقد حملت في طيّاتها عبء وهموم أهل المدينة، وما تحلّوا به من ترابط وتعاضد وأخوّة وشجاعة في الدّفاع عن أرضهم وشرفهم، ومحاربة مَن تؤول له نفسه بالخيانة، إنّهم وحّدوا الظلم والتّشرد والجوع، وأصبحوا في نظر الوالي عصابة، وفي نظرنا إنّها شهامة.

ما أروع تلك الأمثال الشّعبيّة، المتداولة باللغة المحكيّة، والتي تخاطب العقل والجسد بعمق المعاني المقصودة، فكانت سلاحًا بيد الأديبة أحيتْ به الشّمس في أطراف الدّنيا البعيدة. ولم تزل تُبهر القرّاء بملكة السّجع وترانيم القافية، والصّور الخياليّة الجميلة في عباراتها المميّزة. الحبكة والبلاغة اللغويّة تتعاظم في كلّ مرّة، وذلك مع إشتداد الأزمة، فتراها تقف في كلّ ركن أو حجر أو على كلّ ناصية من البرج المطلّ على ساحة المعركة. إنّها مخطوطة بالأفراح والأتراح مزخرفة، بالماضي والحاضر متواصلة، وبالأصول والعادات ما زالت محكومة، نقشتها الأديبة وعلى أسوار القدس وضعتها، لتبقي عراقتنا أمام العالم مُخلّدة. إنَّ الرّواية تزخم بالآيات القرآنيّة التي تعطي النّصوص رونقًا وقوة ومتانة، أمّا لغة الحوار فحافظت على العربيّة الأصيلة. كذلك نجد الابتسامة العفويّة، فلم تفارق محيا القرّاء في كثير من المواقع بسبب ظرافة الأحداث، وما آلت إليه أحوال الدّنيا بعد حياة السّذاجة؛ الشيخ " علي" مؤسس العائلة، في قبره يفعل المعجزات، وإنّها من السّماء لكرامة، وما زالت تنمو بين أهل بلدته تلك الخرافة، إلاّ أنَّ القارئ قد يتوه في تحقيق القدر للأمنيات بالمصادفة، ولن أبالغ بأنَّ الرّواية كانت لها أيضًا نصيبًا من الدّمعة.

تنقّلتْ بنا الكاتبة "ديمة" بطريقة وحبكة فنيّة نابعة من ذاكرة التّاريخ النّابضة، فكان للشّعب الفلسطينيّ إستبساله وجهاده، وأنَّ له صولة في المقاومة الفرديّة، إلاّ أنّه واجه صولات كثيرة من الخيانة والهزيمة المُدبّرة، رافقها ضعف الحالة الماديّة والعسكريّة والسّياسيّة. كانت بمثابة مسرحيّة آمنة تقاسمتْ فيها القوى الكبيرة أراضي الأوطان العربيّة، وعلى رأسها فلسطين، التي لا زالت حتى الآن الوحيدة المُغتصبة. إنَّ أصابع الاتّهام أكثر من أصابع اليد الواحدة، ولو جئنا بمثلها مائة مرّة، رُفعتْ الأقلام وجفّتْ الصّحف ونحن نبكي حال الأجيال القادمة. إنّها رواية جمعتْ في صفحاتها همومًا فاقت النّفس البشريّة، فعائلة "عبد الجبار" كغيرها من العائلات الفلسطينيّة الصّامدة، توارثت الشّجاعة والوفاء، وقدّمتْ التّضحية وصانتْ الأمانة. كانت لها جولات عبر السّنين والأجيال تفخر بها الأمّة، ففيها من الدّروس ما لم نتعلّمها البتّة، وأنّها مرجع ثقافيّ وتاريخيّ وإنسانيّ، من المهمّ أن يتعلّمه أطفال فلسطين والعالم على مقاعد الدّراسة.

وسوم: العدد 664