ناقد الشنطة .. وشنطة الناقد!

رأيته؛ فيما يرى اليقظان؛ كان يلف ويدور؛ يروغ، ويحور؛ يزوغ ويخور! شنطته؛ لا تشبه حقائب الآخرين؛ من النقاد الجادين المتمرسين؛ ببضاعة النقد الأدبي والثقافي؛ الذين تنغلق أمامهم أبواب الفَرَج؛ لأنهم لا يحملون شنطة عُكاشة؛ نادرة المثال والعنوان والبهتان والنِّسوان! أجل؛ كانت مثلَ عِجلٍ؛ بقروا بطنه؛ وبدأوا يحشونها بالألماس، والذهب، والعقيق، والبنكنوت الأخضر الأمريكي، وريالات العرب اللذيذة؛ وبكائناتٍ من لحم شقائق الأوانس الشهي الطري الظهي؛ لمزاجه العَفِن، ومواهبه عديمة المواهب!

لم يُوَلِّف كتاباً في حياته؛ ومع ذلك؛ أصبح الناقد العربي الأشهر من المحيط إلى الغبيط، ومن الخليج إلى الزليج! وبعد صومٍ طويلٍ طويل؛ نزلت مؤلفاته التافهة الباهتة المارقة؛ كالمطر على قارعة العرب؛ فأعمتهم، وأصابتهم بالكُسال، والعجز النفسي، والاحتباس الذوقي، والانسداد البلعومي، والرئوي، والفساد الفني والأدبي، وفقدان شهية الاجتماع الطبيعي، والاجتماع الصناعي!

لغرامه، وتعلقه المجنون بالحِيَل والدَّس والقص واللَّصق؛ أطلق عليه الناس لقب(عبد الحِيلة)!

شعاره في الحياة؛ بيت شعرٍ مكسور؛ سرقه من قَرويٍّ يشعر بالفطرة؛ قال فيه:(قد عيّد الناس بالحلوى وباللحمِ/ أما أنا؛ فاحتيالي تغريدي وفنِّي)!

أصبح عكاشة ضيفاً ثقيلاً على التلفزات، والفضائيات، والمهرجانات، والمؤتمرات؛ يتكلم عن المجرَّة، والذَّرَّة؛ ويُفتي في الثورات، والثروات؛ ويتنبأ بالعلاجات النفسية للعقلية العربية الصدئة؛ بفعل داعش، والإخوان، وجيش المهدي، وعصائب الحق، وجيش بدر، والحوثيين، والحشد الشيعي الشعبي، والحرس الثوري الإيراني، وأطماع تركيا في الرقعة العربية! كانت تحليلاته عقيمة؛ ومع ذلك؛ تروج داخل وزارات الثقافة العربية، ومجلات الحداثة الشائهة، والسيميوطيقا الباهتة، ونقد النقد الزائفة!

فنظرياته النقدية، والأدبية، والهمجية، والشحرورية، والبعيرية؛ يدرسها الأجانب في هارفارد، وكامبردج، وأكسفورد؛ ولعبقريته العالمية؛ صار هو؛ مَن يضع مناهج الدراسات العليا في هذه الجامعات؛ لا بل صار واضع نظرية غزو البشر للمريخ ثقافياً في عهد إدارة أوباما الكسحاء؛ بطريقة الربط الشيطاني، والمس الإبليسي، والاستعلاء الطفولي، والنزق البوهيمي!

في يومٍ ما؛ رأته أُمُّه؛ وهو يهذي قائلاً: "تُرى؛ هل أُصبح ناقدَ الجِنِّ عمّا قريب؛ كما أصبحت ناقد البشر"؟! فصفعته على قفاه؛ وهي تُوَلْوِل بحرقةٍ: "هل جُنِنتَ يا عكاشة؟! أنتَ فعلاً شيطان الشياطين"!

ذهب مرَّةً إلى مقهى "ريش" الشهير بالقاهرة-الذي أُغلق مؤخراً بعد وفاة صاحبه- فرأى خِناقةً بين مجموعةٍ من النقاد على الاستفراد بمشروع روائية جديدة؛ فأهال على وجوههم التراب؛ وصفعهم بحذائه؛ ثم قال: "فليذهب الجميع! أنا حضرت"! وبالفعل؛ جلس بمفرده مع هذه السنيورة؛ التي طلبت منه عمل روايةٍ لها؛ تكون حديث المدينة؛ لا بل حديث العرب والعجم!

فنظر لها عكاشةً نظرةً فاحصة؛ فعاين البضاعة؛ ثم قال لها: هنا لن يأتيني الوحي والإلهام؛ يا إلهام. هيّا إلى دارتي؛ ففيها المصادر، والمراجع، ولزوم الحبكة الفنية!

وهناك؛ نال ما يريد؛ بعد أن جلس عدة ساعات؛ وهو يستعير من الروايات الغربية، والقصص غير المترجم إلى العربية؛ ما لذَّ وطاب من فنون السطو، والسرقة، والتناص، والتلاص؛ وفي النهاية؛ مهرها كل هذه البضاعة المزورة؛ فأخرج لها عملاً؛ ضاع حِبره بين الروايات؛ وأُريقَ حياؤه بين الاغتصابات؛ وبات خلقاً شائهاً في عالم الفن والأدب والواقع!

والعجيب؛ أن هذه الغندورة؛ تقدَّمت بهذه الرواية/ اللا رواية إلى إحدى المسابقات الروائية العربية المرموقة؛ فأجمعت لجنة التحكيم الموقرة على اختيارها رواية العرب في هذه السنة؛ حتى قالوا عنها:"لم يحظَ كاتبٌ بمثل هذه الجرأة في الطرح، والعبقرية في القص، والإحكام في التناول، والإجادة في السرد، ومناقشة قضايا السرير كما تناوله هذا العمل البطولي؛ الذي يهم العرب في كل الأصقاع والأزمان، ويحل مشكلة تخلفهم الحضاري"!

وفي يومٍ آخر؛ سمع عكاشة عن فتنة ما بعد الحداثة؛ لا؛ بل عن فِتَن ما بعد بعد الحداثة؛ فاعتكف شهراً في قصره بريف مصر العامر؛ وحوله خادماته من: فنلنده، وفنزويلا، وأوكرانيا، وروسيا، وأستراليا، وفرنسا؛ يقضي معهن وطره؛ ويقرأن له بلغاتهن أحدث ما جادت به مطابع الغرب عن الحداثة، وما بعد بعد بعدها، ويُترجمنَ له ذلك في ترجماتٍ ركيكةٍ وضيعة!

فكانت حصيلته وافرة؛ من التلفيق، والتخريق، والتزوير، والتَّنعير؛ وفي النهاية؛ خرج على العرب؛ بنظريته الجديدة عن(إشراقات ما بعد بعد الحداثة)! وتوالت أعماله النقدية:(الهروب إلى جَنَّة الحداثات)، و(رسول الحداثة العربية إلى الغرب)، و(ما بعد الحداثة وقبل رغيف الخبز)، و(حاجة العرب إلى الغرب) بطبعاتها المتتالية في كل العواصم العربية!

وأُقيمت لعكاشة كرنفالات الاحتفالات من طنجة إلى هَجَر، ومن اللاذقية حتى مقديشيو، ومن بغداد حتى أرض السواد؛ ونال لقب ناقد العرب الأول؛ وجاءته الجوائز راكعةً ساجدةً؛ تخطب آلاءه، وعرفانه! وعكاشة يصيح: "انتظروا عملي القادم"!

 وقع حظُّ أحد تلاميذه الكئيب في دائرة عكاشة على غير رغبة الطالب؛ فقد أشرف عكاشة على أطروحته للدكتوراه؛ فبدلاً من أن يُعلِّمه عكاشة إتقان البحث العلمي، وكيفية التنقيب عن الموضوع، والوصول إلى مصادره الأساسية، وحل مغاليقه؛ أراد عكاشة أن يُعلِّمه ؛ كيف يسرق من الآخرين من دون أن يشعر أحدٌ بسرقته! ولَمّا رفض هذا الطالب؛ طرده عكاشة بحيلةٍ ما من الكلية؛ إلى غير رجعة، وصار عِبرةً أمام صغار الباحثين؛ لِمَن يعترض على طريقة عكاشة اللوذعية القانونية!

باختصار؛ علَّم عكاشة الجميع  الفنون البهلوانية في البحث الجامعي، وطريقة الوصول السريع إلى المناصب العليا؛ عن طريق الوصولية، والانتهازية، والسرقة!

وفي أحد الأيام؛ تواصلت معه جامعة تل أبيب؛ فدعته للمحاضرة؛ فألقى فيها محاضرةً عن الأدب العبري وسيميوطيقا خرافات الأُميِّين! وألقى في الكنيس اليهودي العام محاضرةً عن(إسرائيل أرض المعاد)!

وفي أحد الأيام الكئيبة؛ استشاره زميلٌ له؛ بخصوص كيفية ترقيته في الجامعة؛ فقد رسب مراتٍ ومرات؛ فنصحه عكاشة الألعبان بحيلة؛ هي: عليك إحضار مجموعة من المؤلفات النقدية الغربية غير المترجمة؛ وأخذ فصل من هنا، وفصل من هناك؛ ومزجها جميعاً في إطارٍ واحد؛ حتى يصبح كتاباً جديداً في نقد ما بعد الحداثة، وما بعد التنوير!

وفعلاً؛ نفَّّذ الرجل نصيحة عكاشة؛ فتمت ترقيته؛ وبات أستاذاً، ورئيساً لقسم النقد الحديث بالجامعة!

وأراد عكاشة؛ تغيير عتبة بيته؛ فأعلن تخليه عن فريق بحثه وغطائه من بنات: فنلنده، وفنزويلا، وأستراليا؛ لصالح فريقٍ جديدٍ يحل من على حبل مشنقة عشماوي؛ من صغيرات السن، ولذيذات المذاق؛ لتغيير جلده وفكره وسرقاته!

فأعلنت صويحباته القديمات؛ العجائز الحرب عليه وعلى نقده؛ فعقدن اجتماعاً للصحافة العربية والعالمية؛ قلن فيه بصراحة: "إن المدعو البروفيسور/ عكاشة؛ لا يعرف شيئاً عن أي شئ؛ فكل مؤلفاته ليست له؛ وإنما نحن اللاتي ترجمناها من الآداب الغربية، ومَهرناها باسمه! وكل هذه الهالة الكبرى؛ التي يتدثَّر بها؛ إنما نحن صنعناها له! باختصار عكاشة فرقعة إعلامية، وصناعة تلفيقية، ومسخٌ شيطاني، ونبتٌ إجرامي، وأبٌ لمدرسة السطو، والسرقة في العالم العربي"!

لم يسمع عكاشة بصنيع عشيقاته السالفات؛ إلا عندما رنَّ هاتفه فجأة؛ وهو يواقع إحدى فرائسه الجديدات العبقريات؛ فزمَّ شفيته؛ وزاغت البنت من بين يديه؛ فوقع على الأرض؛ فناولته الهاتف؛ وهي تقهقه من أمعائها على تفاهته؛ فعرف بأمر المؤتمر الصحفي؛ فلعن اليوم الذي رآهنَّ فيه؛ وارتدى ملابسه على الفور؛ ورتَّب لنفسه مؤتمراً مضاداً؛ قال فيه: "إنني أعلن أنني اكتشفت خيانة سكرتيراتي؛ فقد كنَّ يتعاملنَ مع الموساد؛ لسرقة أبحاثي، وإعطائها للعدو الصهيوني؛ خاصة بعدما علمنَ أنني بصدد عمل كتاب وثائقي عن فلسطين المغتصبة؛ صورة من الأدب المسروق في دفاتر صهيونية!

صدَّقه تلامذته؛ وما صدَّقه الناس، ولا الصحافة؛ فحاول شراء الأقلام، والضمائر؛ فنجح في البعض، وفشل في الأعم الأغلب!

وإزاء ذلك؛ لم يجد عكاشة من بُدٍّ سوى الذهاب إلى صويحباته الغاضبات؛ وإرضائهن بشتى السبل؛ فأرجعهن إلى حظيرته؛ وصِرْنَ رهنَ أمره، إلى جانب الجديدات!

زارته مساءً، في ليلةٍ شاتيةٍ؛ سيدةٌ من سيدات المجتمع العربي؛ ونفحته شيكاً بـ(عشرين مليون دولار) نظير تأليفه ديوان شعرٍ باسمها؛ وبالفعل؛ أعطى الأمر لورشته؛ فلم يمر سوى شهر؛ إلا وكان ديوان هذه الفاتنة الثرية بين يديها؛ وعليه مقدمة ضافية في عبقرية شعرها النثري، وفي تألقها الأسلوبي والبلاغي والفلسفي؛ بقلم عكاشة نفسه!

صار عكاشة ماركةً مسجلةً؛ لمن أراد الخلود الأدبي، والذيوع الفني؛ لاسيما من الجنس الناعم؛ من الباحثات عن التلميع الإعلامي، والمكانة الأدبية في المجتمع، ومطارحة عكاشة أفاويق الغرام!

فرائحةُ فساده الأدبي، وسرابه البحثي، وهرائه الأكاديمي، وإجرامه الثقافي، وتزويره، وتدليسه، وتشويهه للحياة الفكرية، والنقدية؛ عرفها الجميع؛ فقد كتب الشرفاء عن نزقه، وشرره، وعن نسائه، وملفاته في الاحتيال، والتمويه، والاستعراض، وقلب الحقائق، والخداع، والتشويه، والسطو، والمحرَّمات التي صيَّرها حلالاً؛ حسب هواه، وطقوسه اليومية في الغش والتصنيع والوضع والانتحال!

ومن عجبٍ؛ أنه صار قدوةً؛ لأجيالٍ جديدةٍ من الصغار؛ رأوا في نجوميته المصطنعة طوق الوصول، والريادة، والشهرة؛ ولو على أكتاف السراب، وبيوت العنكبوت!

وبرغم؛ تعرضه لحملاتٍ إعلامية، وفضائية؛ تتحدث عن فضائحه، ونسائه، وسرقاته؛ فلم يحتجب، أو يعتزل الساحة، أو يعتذر، أو يفكر في الانتحار!

لا؛ بل؛ خصَّص له؛ أبواقاً تنهش مَن يقترب من ضيعته الضائعة، وتقضي على مَن تُسَوُّل له نفسه مهاجمة عكاشة!

لا؛ بل؛ تعامى عن كل ذلك؛ وما فتَّتْ هذه الحملات الحقيقية في عضده، وما حرَّكت فيه شَعرةً من ضمير؛ لأنه حيوانٌ؛ بلا ضمير!

ومن أسفٍ؛ أنه نال مؤخراً وساماً من اليونسكو في التقريب بين الشعوب!

ومن عجبٍ؛ أنه أصبح سفير النوايا الحسنة بالأمم المتحدة!

ومن حنقٍ؛ أنه صار خبيراً عالمياً في حقوق الملكية الفكرية!

ومن غضبٍ؛ أنه تقلَّد أرفع وسامٍ أوربيٍّ في الفكر الخلاّق والاستنارة والابتكار!

ومن قرفٍ؛ أنه بات أشهر كاتب عربي على الإطلاق! 

وسوم: العدد 676