عندما يبرِّر الخائن خيانته بذريعة أنَّه الضًّحيَّة

clip_image002_d52a4.jpg

زغرودة الفنجان الرِّواية الصَّادرة عن الدَّار الأهليَّة للأسير حسام زهدي شاهين، من أجمل أدبيات الواقع التي قرأتها مؤخرًا، إذ عرَّى بها الكاتب الأحداث الفلسطينية إبَّان اندلاع الانتفاضة الثَّانية، وكشف السِّتار عن فشل تلك الثَّورة التي نخر أركانها العملاء وفساد الأجهزة الرَّسميَّة والحزبيَّة، ممَّا أدى لتأخر في انتزاع الحريَّة لهذا الشعب المناضل حتَّى يومنا هذا.

بدأ حسام الرِّواية منوِّهًا بأنَّ أحداثها مزيج من الحقيقة والخيال، وإنَّني قد لا أبالغ إن قلت الرِّواية واقعيَّة بلا خيال، يستظل به الكاتب ليبرر بشاعة بعض أحداثها غير الانسانيَّة، يتضح من الإهداء بأنَّ هذا العمل الأدبي جاء وفاء لأرواح الشهداء، الذين قدموا أرواحهم لأجل قضية كبيرة وعميقة في نفوسنا، ألا وهي الوطن، ذلك الوطن الذي بترت جسور الوصول إليه، وتقطعت الأوصال بين أراضيه.

الكاتب حسام شاهين أسير لدى سلطات الاحتلال الاسرائيلي، محكوم عليه بمدة (27) عاما، وعمله الأوَّل- رواية زغرودة الفنجان – استغرق عشر سنوات لهذا الانتاج الأدبي الذي بني على مهل، وكان به يستنهض وجع الحرية المسلوبة منه، ومن كافة الأسرى القابعين تحت جنح الظلام والذُّل، بل ومن أرواح الراحلين من شهداء فلسطين، وكأنَّه يعتب على الوقت والواقع؛ ليقرر أن يتكاشف معنا بهذه الأحداث القاسية، وكما كتب في تقديمه زاهي وهبة:" من ذا الذي يستطيع اعتقال كتاب سطر بالحبر المقاوم المضيء"، فكانت تلك الرواية بمثابة إضاءة على كثير من الأحداث المخفيَّة تحت ظل الفشل الذي أحرزه الفلسطيني بعد هذه الأعوام الطويلة من العيش تحت الاحتلال وظلمه.

البناء الروائي عند حسام مكتمل، حيث صور لنا الكاتب أحداثا مختلفة من خلال شخصياته المتعددة في أمكنة وأزمنة متعددة، انتقل بقارئه في زوبعة فنجان خلال ثلاثمئة صفحة؛ ليحكي عن وجع كبير أصاب الأماكن التي بنيت روايته فيها، سواء كانت المدينة، المخيم، أم القرية، ولكنه حرص على الاحتفاظ به من خلال لغة الرواية الرشيقة والعالية، عنصر التشويق، الواقعية وملامسة أحداث مجتمعية لا تخفى على من عاشها، نوافذ الألم والجراح التي فتحها على مهل وأقفلها على غير الصَّمت؛ لتبدو كسنابل تحترق على صفحات روايته.

ورغم قوة الرواية في بنائها، وتماسكها من حيث تسلسل الأحداث زمانيا ومكانيا، لم يرق لي تطرف الكاتب في بعض من أحداثها، التي وجدت مبالغة في الوصف وادراج التفاصيل " الغبية " كما أراها، ولم أدرك ما فائدة تصوير وحشية المرأة المشتعلة بالجنس، وهي تمارس خيانة الوطن تحت ذريعة الاسقاط، لقد كانت شخصية رحاب صورة بشعة جدا لامرأة ساقطة، كانت ضحية وأصبحت وحشًا يضحي بأي شيء بلا مبدأ، ولا رادع ديني أو أخلاقي سواء على أفراد مجتمعها أم على الأرض ذاتها، وقد تساءلت حقا: هل يلقي الكاتب اللوم على المرأة؟ المرأة التي بدت في الرواية ضعيفة هشة متساقطة في مشهد مقاومة مشوّه، وهذا ما لم يعجبني في الرواية خاصة مع غياب الدور الايجابي للمرأة في الحرب والانتفاضة، ربما شعرت بحاجة للتوازن في دور المرأة الفلسطينية هنا.

نوع الرواية حسب تقديري كقارئة واقعي بوليسي.

الحدث: تمتعت الرواية ببداية قوية جًا في حديث عمر عن اغتيال القائد حسين عبيات، والمقاطعة الغامضة من مازن بأن يلتقي به، هذه البداية المشوقة تنبئ بمهارة كاتبها، وقدرته العالية على جذب قارئه لفنجان غريبة قهوته المرة، تزغرد فرحا أو وجعا، تزغرد لمدة قصيرة بعد فورتها، لتهدأ وتعود الأشياء لصمت تأملاتها.

الشخوص: اعتمد الكاتب شخوصا رئيسية مثل: مازن، عمر، رحاب، الكابتن مودي، وأخرى ثانوية مثل: سميرة، علي، نادر، سمير وغيرهم.

الزمان والمكان: أحداث الانتفاضة الثانية، مخيم العودة، قرية يبوس، الزيتونه، بيت لحم وما حولها، الحاجز العسكري، وقد ركز الكاتب على الاسقاط الذي بنيت أحداث الرواية عليه في البيئات المغلقة من مجتمعاتنا التي تحكمها العشائرية، ومجموعة متناقضة من العادات والتقاليد والموروث الثقافي والديني، وخلط الحلال والحرام بالعيب، فهي بمعظم علاقاتها تقوم على نمط القبيلة بنوعيه: الطائش والمكبوت، والملتزم المنفتح، وهنا تساءل الكاتب من خلال شخصية مازن، بعد ما قام سمير بتصوير أخته عارية: هل هو الجهل؟ هل هو المال؟ هل هو الخوف من المجتمع؟ أم هل هي التربية الخاطئة؟ وفي هذه التساؤلات لخص لنا الكاتب العناصر الرئيسة التي تهدم المجتمع وتجعل أفراده شياطين في زي إنسيّ يظهر بطبيعته الفطرية، ويخفي الشر والرذيلة والغدر والخيانة لكافة أعماله الأخرى، مبرّرا ذلك بالحاجة والفقر والذل والمهانة في العيش تحت الاحتلال.

السرد والحوار والوصف: بدا الكاتب متمكنًا من سرد أحداثه، سواء في المونولوج الداخلي لنصوصها خاصة في شخصية مازن، وضميره المتقلب على مر الأحداث جميعها، عندما سقط في وحل الخيانة وحتى خروجه لطريق الشهادة؛ ليغتسل من هذا العار الذي دمر به العديد من الأسر في المخيم، وأودى بها إلى حتف الهاوية بالرذيلة، أم بالديالوج الخارجي بين حوارات الشخصيات الأخرى، بدا السر مشوقا، والحوار غامضا، يستدعي استقراء الصفحات بنهم لمعرفة الفكرة التي أرادها الكاتب، نجح حسام في الوصف والحديث عن المشاعر والأماكن، إذ كانت لديه لغة عالية رشيقة وأدبيَّة غنية بالصور والمعاني ما يعكس للقارئ أنَّ الكاتب مثقف وصاحب فكر.

الهدف: هدف الرواية أن نضع حدًا للخطأ الفلسطيني الذي نمرُّ به منذ أكثر من ستين عامًا.

لخّصت الرِّواية في أسطرها الأولى النصر بتحقيق ثلاثة أهداف: تجنيد الشباب، تحديهم عن المشاركة بالعمل الوطني، وتدميرهم سلوكيًا واجتماعيًا. وهذا تمامًا ما قامت به اسرائيل خلال سنوات عديدة هشمت أبناء هذا الوطن وشوهت صورهم النضاليَّة سواء محليا أم عالميّا. وأتبع يداوي جراحه في ظل العتمة ليقول كاتبنا:" من الممكن أن يخطئ الإنسان في حياته، ويرتكب حماقات، .. لكن مهم أن نعترف، ونضع حدا للاستمراريّة في الأخطاء." لقد شعرت بكثير من الحزن والألم والحسرات المتطايرة كما الفراشات بعد موت الزهرة، تحوم حول جثتها، ولم ينطو على القارئ أبدا ما كشفه الكاتب من حقائق بدلالات وكذا وقائع من البؤرة الفاسدة الملطخة بالدم والخيانة، والعارية من الأخلاق والانتماء، رغم التورية بظل الضحية للمحتل الذي بدا شعارا يردده الكثير من أبناء هذا الشعب، ولم يعترفوا بأننا جزء لا يتجزأ من هذه الفجائع التي تحدث، بل لولا تعاوننا مع المحتل لما حدثت، وما استطاع اختراق صفوفنا وهدم سبل الدفاع؛ لينتهي بسفينة قضيتنا مآل الغرق. كانت رواية زغرودة الفنجان للكاتب حسام شاهين بمثابة قشة كي لا نموت غرقا، ربما.

لقد خطَّط حسام شاهين لصيرورة روايته بشكل متميّز، وقد حاور شخصياته عن تناقضاتها سواء كانت وطنية أم متخاذلة تعمل لصالح الاحتلال، ألقى الضوء على التقدم التكنولوجي وخطورته في تزوير المشهد الحقيقي، باين بين الهدم الداخلي لمجتمعات المناطق المغلقة، سواء كانت مدينة قرية أم مخيم، كما حذر من الانفتاح الكبير والفساد الذي ينعم به القادة وذويهم من أبنائهم وبناتهم الذين يعيشوا بذخهم على حساب إراقة دماء الآخرين من ضحايا المجتمع من جلدة شعبهم. حسام صاحب فكر، وروائي ناجح أعجبني عمله الأوَّل وأنتظر منه المزيد من الأعمال الأدبية ذات المعنى الفلسطيني بواقعه الايجابي والسلبي، وأسأل الحرية له قريبا.

وسوم: العدد 676