السّيرة الشِّعريّة "لاجئة في وطن الحِداد"

clip_image002_7834d.jpg

عبر التّاريخ كانت الحكايات، منها السّيرة الذّاتيّة والإعترافات الرّوحانيّة، فهي الملاذ المُساعد على تذويب كل المآسي، وتجاوز كل أزمات الإنسان المقهور والمفجوع في تطلّعاته وطموحاته. إنّها بديل تساهم في تحقيق توازن نفسي وتصالح حقيقي مع طبيعة الخَلْق والحياة وإرادة السّماء. فإذا كان الواقع مرّا علقمًا، فبالحلم يتم تخطّي الغصّة والمرارة، فتنقشع الدّياجير، لأنَّ الحلم قادر أن يجلي صدأ القلوب وحزنها. من قرية "البقيعة" على الحدود اللبنانيّة، ومن بيت الأصالة والثّقافة، أطلّتْ علينا الشّاعرة "سلمى جبران" المتميّزة منذ نعومة أظفارها، البسيطة، الصّادقة، الواضحة،الصّريحة والمحترِمة للعلاقات الإنسانيّة. مدينة "حيفا" كانت مركز نشاطها وحياتها، وقد خرجت علينا مؤخرا بمجموعتها الشِّعريّة "لاجئة في وطن الحِداد" الصّادرة عن دار نينوى للدّراسات والنّشر والتّوزيع في دمشق عام 2014 بالتّزامن مع صدورها في حيفا، والتي تقع في أربعة دواوين؛ دائرة الفقدان، الحلم خارج الدّائرة، متاهة الحُب وحوار مع الذّات. تتكوّن هذه المجموعة بما يزيد عن 400 صفحة من الحجم المتوسّط.

خَلْف الحروف تسكن المعاني .. وكل الكلمات هنا تصف تسلسل المراحل الوجدانيّة للشّاعرة نظرا لِما عانته من تجارب صعبة. فقد نمّقتْ أديبتنا سردها بجودة عالية؛ فزاوجت بين التّميز اللغويّ من حيث انتقاء الكلمات والمعاني، وواقعيّة المضمون التي تعيشه روحها وجسدها، وكذلك عمق الدّلالة التي ترمي إليها. الشّاعرة "سلمى جبران" تطرح أمامنا أفكارها ومشاعرها بصوت جهوريّ، أمّا خيالها الواقعيّ فيسبح في فضاء رحب وثريّ يجرُّ القارئ إلى أفق جميل، وهي معتمدة بذلك على الرّموز والإيحاءات في قصائدها. ليس الشِّعر رأيا تعبّر الألفاظ عنه، بل أنشودة تتصاعد من جرح دام أو فم باسم. كل ذلك إنما يدلّ على ثقافة الشّاعرة وإتساع مداركها ورهافة حسّها، فهذه الدّواوين الأربعة كُتبتْ على مرِّ السّنين، وتحمل بين طيّاتها الحنين والعاطفة والأمل والثّورة والدافعيّة للتغيير. فمن بين الشّرايين تغزو كلماتها ذاك الحبر المنساب من بين أصابعها، وتبوح لنا عن ذاتيتها في قصائدها وفلسفتها في الحياة، وتلك النزعة الإنسانيّة من طهارة خُطاها وحلمها التي تعيش بدواخلها.

نجد في كلمات قصائدها ذلك النّور السّماوي المُتطبّع بالكتاب المقدّس وتعاليمه من ناحية، ونشتَمُّ عِطر الشّاعر والأديب "جبران خليل جبران" من ناحية ثانية. تعمّقتْ شاعرتنا في قصائدها ومعانيها حدّ القداسة، فكانت هناك الصّور المشتركة، والإلهامات المُضيئة، وكانت أيضا الحِكم والمنطق والفلسفة متواجدين، وكأنَّ الأب "جبران" والأبنة "سلمى" في خطّ المواجهة. إرتأيتُ لنفسي أن أقرأ بامعان وتمحيص ديوانها "حوار مع الذّات" الذي اعتبرته الأقرب إلى روحها، فخطاب النّفس هو الأصعب في الوجود. الشّاعرة تُعيد هيكلة كيانها نحو الأقوى معتمدة على التّحدي في داخلها، وكذلك على القوة الإلهية المؤمنة بها حقّ الإيمان، وأيضا محاربة الجهل المُتفشّي، فنشوة الحريّة تبقى بالابتعاد عنه، أمّا الإلتزام بالصّمت فهو يفوق كل الكلام. إنّها قصّة الحبيب السّاكن تحت التّراب دون عودة، إلاّ ذِكراه، وما صفحات الكتاب وحُب العيش في طيّاته، سوى تعويض لسعادة فاتت من عمرها. القراءة عندها تُحيي الرّوح وتبني لها الجسد القويم للمقاومة، وما أصعبها أيتها "السلمى" حين يفنى العمر والجسد ويتفجّر القلب جرّاء زيف في العطاء والمحبّة، وجرّاء معاملات كشفت الحقد في قلوبٍ عِشناها من قريب مع العامّة. أمّا في قصيدة "روح فتاة غجريّة"، تعترف "سلمى" بذلك الانصهار الرّوحاني في كتاب  جبران "الأرواح المتمرّدة" وقصّة "مرتا البانيّة" الفتاة اليتيمة يتركها الزمن في البراري، تفترش الأعشاب وتلتحف السّماء وتقتات من البذور،حتى نال منها ذلك الوحش الآدمي إبن الطّبقة الأرستقراطيّة ومعه أصدقاؤه، لتموت قهرا وفقرا في أقذر الأماكن! أمّا القصّة الثانية فكانت "خليل الكافر" الذي تحدّى الكنيسة وغطرستها في زمن الظُلم وفي زمن الجُبن، حتى باتت روحه في خطر لولا تدخّل بعض الشجعان وإنقاذه! إنَّ الصّراخ في وجه الباطل مسألة مبدأ من أجل الحريّة، وصراع الشّاعرة ضد الفقدان أماتها وأحياها بإرادتها القويّة، وجبروتها الشّامخة، بينما ذكرى الغائب تبقى تُطيّب زوايا حياتها.

ابتعدت الشّاعرة عن الطريقة التقليدية للقصيدة، إلاّ أنها أحسنت في تمسّكها بالقافية الموحدّة أو المختلفة وذلك حسب ما تمليه ذائقتها، وكأنَّ القصيدة تعبّر عن حالتها النّفسيّة، فجعلتها أحيانا حرّة غير ملتزمة. أما الثراء اللغويّ فكان مليئا بالألفاظ المأخوذة من كافّة نواحي حياتها وبيئتها؛ خاطبت الإنسان والمكان، وخاطبت السّماء والإنجيل، فكانت لها الألفاظ القاسية تُدافع بها عن نفسها الوحيدة في عالم الغاب، وكانت لها أيضا ألفاظ عاطفيّة وروحانيّة تستقي منها نشوة الإنتصار. وفيما يتعلّق  بالصّور البلاغيّة في قصائدها، فتجلّت بأبهى جمالها حين سطّرت شاعرتنا الرّائعة عنصر المكان، واختارت "السّفح الغربيّ" من جبل الكرمل، وتغنّتْ بالأطلال شوقا وعشقا لأيام شريك العمر والقلب، الذي هجر الحياة. هذه الصّور البلاغية والبديعيّة المجازية كانت حاضرة في انتظاره، حتى أغصان الشّجر الأخضر والخوف من أن يجفّ وييبس؟ كلُّ همٍّ وغمّة، وكلُّ خطوة وعودة، وفي كلّ فكرة وزهرة وكأس خمرة، تكون هناك يا "سلمى" في مقلتك دمعة تُعيدين صورة الماضي وتتجلّى لك الحقيقة. ففي ثنايا السّنين اختبأت الفرحة دون إبتسامة، وفي خفايا العيش ظهرت حقبات حزينة لكن دون دمعة. فمن كان يريد أن يرى غضبها للحق، فليقرأ قصائد كتبتها أيادي مرتجفة، ومدادها ممزوج بدموع حارقة، وقلب ينبض بهستيريّة حزينة. وما فخامة التّعبير "لاجئة" إلاّ بسبب فقدان حبيب وشريك العمر، وكأنّما خسارتها لوطن كان يحمي أفق أحلامها النديّة.

وسوم: العدد 678